فقه العلم… وليس مجرد المعلومات

2 ديسمبر 2025

د. صلاح الدين المراكشي

إمام وخطيب ومرشد ديني بالمستشفيات والسجون الفرنسية، ومبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية

مما لا يخفى على العلماء أن الفقه في الدين لا يقتصر على حفظ النصوص فحسب، بل يشمل فهم مقاصدها، وبيان مآلاتها، وإدراك نتائجها، كما قال الله تعالى ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ سورة فاطر الاية : 28

لقد ابتُلي بعض الناس في هذا الزمان بظاهرة خطيرة، تمثلت في اندفاعهم وراء العاطفة دون علم راسخ، أو فقه للأولويات، أو إدراك حقيقي لموازين المصالح والمفاسد، ودون فهم صحيح لفقه النصيحة أو لفقه إنكار المنكر المبني على نصوص القرآن والسنة، الذي وضعه العلماء قديماً وحديثاً في مصنفاتهم.

وزاد هذه الظاهرة خطورة أن هؤلاء لا يكتفون بما عندهم من اندفاع، بل يدفعون غيرهم إلى التهور، ويحرّضونهم على مواقف غير محسوبة تحت شعارات براقة مثل : “ قول الحق مهما كلفك الثمن” ! وكأن العلماء يجهلون الحق، أو لم يعرفوا ضوابطه، أو غاب عنهم خطر الفتنة وعواقب المفسدة !

وأمثال هؤلاء المتحمسين– إلا من رحم الله – يمتلكون مجرد معلومات متناثرة، أما فقه العلم فهو مقام آخر؛ فهو علم يزن الكلمة بميزان الحكمة، ويعرف متى يُقال الحق ؟ وكيف يُقال ؟ ولمن يُقال ؟ ومتى يُترك ؟ فلا يكون القول بلا حساب، ولا القرار بلا تقدير.

إن فقه المآلات عند تبليغ هذا الدين أصلٌ راسخ في سنة النبي صلى الله عليه وسلم دلّت عليه مواقف عظيمة، منها حديث معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بفضل التوحيد، فقال معاذ: ” أفلا أبشر الناس؟” فقال النبي صلى الله عليه وسلم ” لا، فيتكلوا.” رواه البخاري برقم : ( 2856 ) ومسلم برقم : ( 30)

فهنا نرى أن المعلومة صحيحة، والفضل عظيم، لكن نشرها في ذلك الوقت يؤدي إلى مفسدة؛ ولهذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم أن كتمانها آنذاك أولى لمصلحة الناس. وقد أفصح عنها معاذ لاحقًا في أواخر حياته.

ومن مثل هذا الموقف نشأت قاعدة فقهية : بعد قاعدة الأصل : “لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة” قاعدة مكمّلة وهي : “يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لمصلحة أو لتجنب فتنة أو مفسدة”، وحديث معاذ بن جبل رضي الله عنه من هذا الباب الأخير. ويدل عليه ايضا قول أبي هريرة رضي الله عنه : ” حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وِعاءين؛ أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا البلعوم ” البخاري رقم : ( 120) لان نشره قد يوقع في الفتن !

وقد بوّب البخاري في صحيحه :

باب من خص بالعلم قوما دون قوم، كراهية أن لا يفهموا.

وساق تحته الآحاديث والآثار الواردة في هذا الباب والتي تدخل تحت هذا المعنى.

ومن الأمثلة على ذلك ايضا ما أورده ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين ( 3 /340 ) نقلا عن شيخه ابن تيمية أنه مرّ بقوم من التتار يشربون الخمر، فأنكر عليهم أحد تلامذته، فقال ابن تيمية: « إنما حرّمت الخمر لأنها تصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدّهم الخمر عن قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال.”

فكان ترك الإنكار والبيان والسكوت هنا واجبًا، لأن المفسدة المترتبة على الإنكار أعظم بكثير من سكرهم.

إن من أكبر المفاهيم المغلوطة لدى بعض المتحمسين تفسيرهم سكوت العلماء بأنه كتمان للعلم أو تقاعس عن أداء الواجب. والحقيقة أن ليس كل سكوت من أهل العلم فيما يبدو للناس هو كتمان للحق أو للعلم المأمور بتبليغه!

إن العلماء يصدعون بالحق عند وجوبه وبحسب مسيس الحاجة إليه، ويؤدون أدوارهم في تبليغ العلم منذ أن أخذ الله عليهم الميثاق كما جاء في قوله تعالى:( وَإِذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لِتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ (سورة آل عمران: 187).

نعم؛ قد يختار بعض العلماء الصمت في مواقف معينة لحكمةٍ لا يدركها غيرهم، كأن يكون في السكوت حفظٌ لمصلحة مؤجلة أو دفعٌ لضرر كبير يقتضي عدم التصريح. وقد يلزمون الصمت تجاه من يخاطبهم بتعالٍ لا بتعلّم، تأديباً له وتنبيهاً إلى سوء أدبه فالعلم لا يُؤخذ من طريق التعالم، بل من التواضع وطلب الحق.

كما أن العلماء قد يقدّرون تبليغ بعض أنواع العلم لفئة مخصوصة دون غيرها، أو نشره للعامة، وفق ما يرونه أنسب للزمان والمكان والنتائج المتوقعة، مع مراعاة ما ورد من الوعيد في كتمان العلم، وموازنةٍ دقيقة بين القول والعمل.

ومع ذلك، بعض المتحمسين لا يروق لهم هذا التأصيل الشرعي والهدي النبوي لجهلهم به بل يسعون لاستنطاق العلماء وفق أهوائهم ورغباتهم، فإذا نطق العالم بما يخالف ميولهم أو منهجهم، رموه بالتهم وحاولوا إسقاط هيبته في أعين العامة، متجاهلين أن سكوت العلماء أحيانًا هو أداة للحكمة، وحفظ للدين والمجتمع من الفتنة التي يتسابق إليها المتحمسون.

إن من آفات عصرنا أن كثيرًا من الناس يريدون الكلام لا العلم، ويريدون الظهور لا الحكمة، ويبحثون عن الشهرة الشخصية على حساب الدين والمجتمع. وحين يقع البلاء على من يروه ” بطلا ” و ” لا يخاف لومة لائم ” وان كان في حقيقته تهور، يكون هؤلاء أول من ينسحب، وأول من يتبرأ، منه ويقولون بلغة الدارجة عندنا : ” جابها لو فمو !”

إن الأمة اليوم بحاجة إلى فقه العلم، لا مجرد المعلومات؛ بحاجة إلى من يعرف : متى نتكلم ؟ ومتى نسكت ؟ متى تكون السنة في الفعل ؟ ومتى تكون السنة في الترك ؟ وما نتائج الكلمة على الفرد أو المجتمع ؟ وما مآلات الموقف ؟

فالرسوخ الذي أخبر الله عنه : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ سورة آل عمران الاية : 7

ليس بكثرة الحفظ، بل فهم المقاصد والغايات، وموازنة المصالح والمفاسد، والتصرف بحكمة.

والله أعلى وأعلم

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...