فصل من دراسة: وزان والزاوية الوزانية بين التاريخ والرمز

28 نوفمبر 2025

محمد التهامي القادري


انتهيت والحمد لله قبل أيام من إعداد دراسة تأملية في التاريخ والرمزية الروحية بعنوان: “وزان والزاوية الوزانية بين التاريخ والرمز”. وهي من سبعة فصول. وقبل طبعها ورقيا ورفعها على منابر التواصل المختلفة في المقبل من الأيام إن شاء الله تعالى، أحببت أن أشارككم المدخل العام من الفصل الأول الذي يتمحور حول: تمهيد منهجي في تاريخ وزان، وكذلك الفصل الرابع الذي يتمحور حول: المشيخة الوزانية — التأسيس، الشروط، الشرعية.

==========================

دراسة تأملية في التاريخ والرمزية الروحية

وزان والزاوية الوزانية بين التاريخ والرمز
الفصل الأول: تمهيد منهجي في تاريخ وزان
مدخل عام
تُعد وزان واحدة من المدن المغربية التي لا يمكن النفاذ إلى تاريخها من بوابة الوثائق الزمنية المتوارثة عبر الأجيال أو السرديات السياسية الصرفة فحسب. فهذه المدينة لم تُبنَ وفق نسق استيطاني، ولا تشكّلت في ظل تحولات اقتصادية كبرى، بل ظهرت ــ كما تظهر بعض المدن الروحية عبر التاريخ ــ كاستجابة لوعي روحي، وكسياق لظهور مدرسة صوفية تميزت بعمقها الأخلاقي والاجتماعي.
ومن هنا فإن أي بحث في تاريخ وزان يستدعي منهجا مركبا يُراعي ثلاثة مستويات:
1). المستوى الجغرافي – الأنثروبولوجي: كيف تشكل المكان؟ وكيف ساهمت تضاريسه في بلورة نمط معين من الاجتماع البشري والروحاني؟.
2). المستوى التاريخي – السوسيولوجي: كيف تحولت الزاوية الوزانية من تجمع صغير إلى قوة اجتماعية لها امتداد قبلي وروحي واسع؟
3). المستوى الرمزي – الدلالي: كيف أصبح المكان نصا مؤسسا للهوية، لا مجرد فضاء أو حدود جغرافية؟
هذا التمهيد ليس جزءا افتتاحيا فقط، بل هو بمثابة النواة المنهجية التي تؤطر كل ما سيأتي من فصول، لأنه يحدد زاوية النظر ويمنح الباحث أدوات التحليل قبل الغوص في التفاصيل.

=================================

الفصل الرابع: المشيخة الوزانية — التأسيس، الشروط، الشرعية
لم تكن المشيخة في الزاوية الوزانية منصبا يُتوارث كما تُورث الأملاك، ولا كرسيا يُنصّب عليه من يملك الاسم دون الخبرة، بل هي “سلسلة تربوية” لها أصولها، وأهلها، وشروطها، ومقاماتها. كانت المشيخة — منذ تأسيسها — أمانة معرفية وروحية قبل أن تكون موقعا اجتماعيا، وكانت ترتكز على فهم دقيق للوظيفة التربوية التي تكوّن جوهر الطريقة الوزانية
1) التأسيس الأول للمشيخة: من المقام إلى المؤسسة
حين أسس مولاي عبد الله الشريف الزاوية الوزانية في القرن السابع عشر، لم يُرسخ نموذجا إداريا للمشيخة بقدر ما أنشأ إطارا روحيا يقوم على شرطين جوهريين:
الشرط الأول): العلم الذي يُنير الطريق
الشرط الثاني): السلوك الذي يشهد على صدقه
ومع امتداد الزاوية عبر المغرب في المراحل اللاحقة، تحولت المشيخة من “مقام روحي” إلى “مؤسسة منظمة”، تستند إلى سلسلة متصلة من المرجعية الصوفية، لا سند فيها سوى:
** الشرعية العلمية
** الكفاءة التربوية
** ثقة الشرفاء الوزانيين والمرتبطين روحيا بمقام الزاوية
2) شروط المشيخة في الوعي الوزاني
لم يكن يُنتخب شيخ للزاوية إلا إذا اجتمعت فيه خصال العلم والسلوك والقدرة على التأطير الروحي، إضافة إلى صفات تشكلت عبر القرون، أهمها:
أ. الشرعية العلمية
أن يكون متمكنا في العلوم الشرعية والتصوف، ملما بآداب الطريقة، قادرا على التمييز بين الأصيل والدخيل، وبين الورع والتظاهر.
ب. القابلية التربوية
المشيخة وظيفة تربوية قبل أن تكون رئاسة، فمن لا يقدر على تهذيب نفسه، لا يمكنه أن يكون مرجعا لغيره. والزاوية كانت دائما تعتمد على التدرّج في التربية لضمان أن يكون الشيخ “مرآة السلسلة”، لا مجرد حامل لقب.
ج. السند الاجتماعي والقبلي
لا يكفي أن يكون الشيخ من الأسرة الوزانية، بل يجب أن يحظى بثقة العائلة الشريفة وبقبول القبائل وكل الشرائح المرتبطة تاريخيا بالزاوية. فالمشيخة هنا جزء من نسيج اجتماعي واسع، لا تمنح اعتباطا ولا تُفرض بالقوة أو بالمناورات.
د. الإجماع الروحي
وهو شرط بالغ الحساسية، إذ لا يستقيم أمر المشيخة إذا لم يحصل نوع من القبول العام في أوساط الشرفاء، وخاصة أهل الاختصاص والعلم منهم. فالقبول الروحي أهم من القبول الإداري، لأن الزاوية مؤسسة “إشعاع”، لا مجرد “تنظيم”.
3) الشرعية: بين السلسلة الروحية والواقع الاجتماعي
كانت الشرعية في الزاوية الوزانية تُكتسب عبر طريقين:
** الشرعية الروحية المتصلة: أي اتصال الشيخ بسلسلة التربية الوزانية، أخذا وإجازة وتزكية.
** الشرعية الاجتماعية: أي الاعتراف به من قبل الشرفاء والأوساط ذات الصلة والسلطات والساسة، باعتباره ممثلا لتاريخ روحي يمتد لقرون.
والمشيخة عبر التاريخ لم تكن تُمنح لمن يطلبها، بل لمن تتوفر فيه شروطها. وهذا يفسر أن كثيرا من أبناء العائلة الوزانية لم يتولوا المشيخة رغم نسبهم الشريف، لأن هذا المقام لا يتولاه إلا من جمع بين العلم والخلق والهيبة الروحية والمرجعية الصوفية.
4) التحديات الحديثة: انقطاع الشروط وخلخلة الشرعية
مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، تعرضت مشيخة الزاوية الوزانية لعدد من الاختلالات، أهمها:
** تراجع المستوى العلمي للسلسلة.
** فقدان النسق التربوي والروحي الذي يُشكل جوهر المقام والطريقة.
** تدخّل العوامل السياسية والظرفية فيما هو روحي وباطني.
** تفضيل بعض الأسماء على أساس مكانتها الاجتماعية أو العائلية دون التحقق من أهلية المرشح.
** انقسام الشرفاء بين تيارات تفتقر إلى المرجعية العلمية.
وقد نتج عن ذلك انكسار في الشرعية، بحيث صار المنصب يتولاه من لا يملك مؤهلاته، ويُبعد من هو أولى به علما وخبرة.
5) نحو إعادة بناء المشيخة: رؤية إصلاحية
لكي تستعيد المشيخة الوزانية وضعها التاريخي، لا بد من العودة إلى روح النموذج الأصلي الذي قامت عليه الزاوية، والذي يمكن تلخيصه في ثلاث ركائز:
أ. إعادة الاعتبار للعلم
أن يكون المرشح ذا مستوى علمي رفيع يجمع بين الفقه والتصوف والتاريخ، وأن تثبت أهليته بشهادات معتبرة لا بمجرد الاسم أو المكانة الاجتماعية.
ب. النسق التربوي المتجذر
استعادة “سنة التربية” التي تدرج عليها الشيوخ الأوائل، فلا مشيخة بلا مقام، ولا مقام بلا مسار روحي متأصل يضيء الطريق.
ج. الإجماع الوزاني
أي العودة إلى مجلس علمي–عائلي–روحي يختار الشيخ وفق معايير موضوعية، لا وفق ضغوط خارجية أو حسابات ضيقة. فالزاوية أكبر من الأشخاص، وأقدم من الصراعات، وأسمى من طموحات الأفراد.
خلاصة الفصل الرابع
المشيخة الوزانية ليست منصبا دينيا فحسب، بل ضرورة تاريخية وروحية لضبط مسار الزاوية وحماية إرثها. وحين تُمنح لمن لا أهلية له، فإن الخلل لا يكون في الشخص فقط، بل في السلسلة والرمز والتاريخ. ومن هنا، فإن الإصلاح لا يتم بترقيع الفراغ، بل بإعادة بناء الشرعية على أساسها الصحيح: العلم، السلوك، والأمانة.

المصدر: صفحة الكاتب على منصة فيسبوك: https://www.facebook.com/el.ttouhami

التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...