سعيد الزياني
يشكل التقرير الفرنسي حول تغلغل جماعة “الإخوان المسلمين” في المجتمع الفرنسي وثيقة تحليلية تحمل أبعادا متعددة، أمنية وسياسية واجتماعية، وقد أعد بطلب من السلطة التنفيذية في سياق وطني ودولي يشهد توترا في علاقة الدولة الفرنسية بـ”الإسلام السياسي”، خاصة بعد الهجمات الإرهابية التي عرفتها فرنسا منذ 2015، وتصاعد الجدل حول قيم الجمهورية والعلمانية ومكانة الدين في الفضاء العام.
ويعتمد التقرير، على المستوى المنهجي، على مقاربة ميدانية وتحليل شبكي، حيث يرصد أوجه حضور الحركة في مجالات مختلفة، من بينها أماكن العبادة، المؤسسات التعليمية، العمل الجمعوي، الفضاء الرقمي، والتمويلات.
ويرى معدو التقرير أن جماعة الإخوان المسلمين قد تجاوزت الاكتفاء بالأنشطة الدينية التقليدية، إلى السعي إلى تشكيل ما يسميه التقرير منظومات متكاملة تطوق الفرد المسلم من الطفولة إلى الوفاة، ما يطرح سؤالا حول مفهوم الاندماج والانتماء في السياق الفرنسي.
ومن الناحية الرقمية، يسجل التقرير بروز ما يسميه “الدعوة الرقمية”، وهي ظاهرة تعكس تحولات التواصل الديني عبر شبكات التواصل الاجتماعي، مع بروز مؤثرين دينيين يتوجهون إلى جمهور شبابي بخطاب يمزج بين المرجعية الدينية والانشغال السياسي، ويوضح التقرير أن هذا النمط من الخطاب يزداد تأثيرا وسط شرائح الشباب الناطقة بالفرنسية في أوروبا، وهو ما يثير تساؤلات حول حدود حرية التعبير الديني وحدود الرقابة الممكنة.
وفي جانب التمويل، يتوقف التقرير عند قضية الموارد المالية، ويلاحظ تراجعا في بعض مصادر التمويل التقليدية، مقابل اعتماد الحركة على آليات بديلة، مثل الصناديق الوقفية والشركات العقارية، مع استمرار تلقي الدعم من جهات خارجية، لا سيما من قطر والكويت، ويثير هذا المعطى نقاشا أوسع حول التمويل الأجنبي للشأن الديني في فرنسا ومدى توافقه مع السيادة الوطنية ومبدأ الشفافية.
ويربط التقرير بين بعض الظواهر المجتمعية وتنامي نفوذ الحركة، مثل استعمال العباية داخل المدارس، أو تنامي الأنشطة الجمعوية ذات المرجعية الإسلامية، دون أن يشير بشكل تفصيلي إلى التأثير الفعلي لهذه الممارسات على النظام العام أو الانسجام الاجتماعي، ويرى بعض المراقبين أن هذا النوع من الربط قد ينطوي على مخاطرة في التعميم، خاصة إذا لم يستند إلى معطيات كمية دقيقة أو دراسات مقارنة.
أما فيما يخص التوصيات، يدعو التقرير إلى تعزيز الرقابة على الجمعيات، ومراجعة آليات دعمها العمومي، وتوسيع صلاحيات السلطات المحلية، كما يشير إلى ضرورة تفعيل النصوص القانونية المتعلقة بمكافحة الانفصالية، ويرى معدو التقرير أن حماية النموذج الجمهوري تقتضي تحصين الفضاء العمومي من الاختراق الإيديولوجي، دون أن يعني ذلك المساس بحرية المعتقد أو التنظيم.
وقد حرصت السلطات الرسمية، من خلال تصريحات قصر الإليزيه، على التأكيد أن المعركة ليست ضد الإسلام أو المسلمين، بل ضد مشروع سياسي يوظف الدين، وتم تقديم الأرقام المتعلقة بعمليات التفتيش والإغلاق في إطار الدفاع عن قيم الجمهورية، مع السعي إلى إشراك المنتخبين المحليين والرأي العام في هذا المجهود، بما يعكس توجها نحو مقاربة تشاركية وإن كانت أمنية الطابع.
وعلى عكس من ذلك، أثار التقرير ردود فعل متباينة داخل الساحة الإعلامية والسياسية الفرنسية، فبينما اعتبرته بعض الأوساط خطوة ضرورية لتعزيز الدولة في مواجهة التحديات المجتمعية، أبدت جهات أخرى تخوفها من إمكانية استعماله لتبرير سياسات قد تفضي إلى تقييد الحريات، أو إلى تعزيز الصور النمطية تجاه المسلمين.
ويرى بعض الفاعلين أن غياب المقاربة الشمولية، التي تأخذ بعين الاعتبار العوامل الاجتماعية والاقتصادية، قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
وعلى المستوى المستقبلي، من المرجح أن تساهم خلاصات التقرير في بلورة سياسات عمومية جديدة، سواء على مستوى مراجعة قانون مكافحة الانفصالية، أو في ما يتعلق بمراقبة التمويل الخارجي، أو تأطير المؤسسات التعليمية والجمعوية ذات الطابع الديني، كما قد تؤدي إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الدولة وممثلي الديانة الإسلامية، وتكريس مقاربة تعتبر الإسلام جزء من النسيج الوطني، دون أن تقبل بوجود شبكات موازية خارج الإطار القانوني.
ويبقى التحدي الأساسي بالنسبة لصناع القرار في فرنسا هو إيجاد التوازن بين الحفاظ على الأمن ومحاربة الانغلاق الجماعاتي، من جهة، وضمان احترام الحريات الدينية والحقوق الأساسية، من جهة ثانية، وتحقيق هذا التوازن يتطلب سياسات مبنية على أدلة دقيقة، واستشارات موسعة، وتواصل شفاف مع مختلف مكونات المجتمع، بعيدا عن التوظيف السياسي أو التعميم غير المدروس.
إن التقرير، رغم طابعه الحاد في بعض مضامينه، يشكل فرصة لنقاش عمومي هادئ حول قضايا حساسة تتعلق بالهوية والمواطنة والدين والدولة، وهو دعوة، سواء للدولة أو للمجتمع المدني، من أجل التفكير في نموذج اندماج أكثر عدالة وشمولا، يحمي التعدد، ويرسخ الانتماء، ويقطع الطريق أمام كل مشروع يسعى إلى بناء مجتمعات موازية أو فرض مرجعيات خارج السياق الجمهوري.