عبد الحي السملالي. باحث مغربي يقيم في فرنسا
فرنسا بين العلمانية والديمقراطية: إشكالية الحياد وحدود المشترك السياسي
قراءة فلسفية في ضوء رولز، أسد، وتايلور
في قلب النقاشات المعاصرة حول علاقة الدولة بالدين، تبرز إشكالية فلسفية عميقة:
هل يمكن للدولة الحديثة، التي تتبنى العلمانية كإطار ناظم للفضاء العمومي، أن تظل محايدة دينيًا دون أن تنزلق إلى موقف عدائي تجاه التعبيرات الدينية؟
هذا السؤال لا ينفصل عن التوتر البنيوي القائم بين مبدأين تأسيسيين في الجمهورية الفرنسية:
• من جهة، الديمقراطية التي تضمن الحريات الفردية، وعلى رأسها حرية المعتقد والضمير.
• ومن جهة أخرى، العلمانية (laïcité) التي تُفهم، في صيغتها الفرنسية، لا فقط كفصل بين الدين والدولة، بل كإقصاء منهجي للدين من المجال العمومي.
في هذا السياق، يقدّم جون رولز تصورًا دقيقًا لما يسميه “العقل العمومي” (public reason)، حيث يُطلب من المواطنين، عند مناقشة القضايا السياسية الأساسية، أن يستندوا إلى مبررات يمكن قبولها من قبل جميع المواطنين، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو الفلسفية. لكن هذا التصور، رغم طموحه التعددي، يُتهم أحيانًا بإقصاء الأصوات الدينية من النقاش العمومي، ما يطرح تساؤلات حول مدى شموليته.
من جهة أخرى، يقدّم طلال أسد نقدًا جذريًا لمفهوم “العلمانية” بوصفها ليست مجرد حياد مؤسساتي، بل بنية معرفية وتاريخية تشكّلت في سياق غربي محدد، وتُمارس سلطة رمزية على تعريف الدين وحدود ظهوره. يرى أسد أن “العلماني” ليس نقيضًا للديني، بل هو نتاج تاريخي يعيد تشكيل الدين نفسه وفق شروط الحداثة، ويُخضعه لمنطق الدولة الحديثة.
أما شارلز تايلور، في كتابه عصر علماني (A Secular Age)، فيقترح فهمًا أكثر تعقيدًا للعلمانية، لا بوصفها مجرد تراجع للدين، بل كتحول في “شروط الإيمان” نفسها. فالمجتمع الحديث، بحسبه، لم يصبح أقل تدينًا بالضرورة، بل أصبح الإيمان خيارًا بين خيارات متعددة، ولم يعد هو “الوضع الافتراضي” كما كان في العصور السابقة. هذا التحول يفرض على الدولة أن تعترف بتعدد المرجعيات، لا أن تفرض حيادًا يُفرغ الفضاء العمومي من كل بعد رمزي.
في هذا الإطار، أستحضر حوارًا دار بيني وبين صديق مهاجر يحمل الجنسية الفرنسية وناشط في جماعة إسلامية، سألني فيه عن رأيي في ما وصفه بـ”الحرب التي تشنها فرنسا على الإسلام”. فأجبته: إن القول بأن فرنسا تستهدف الإسلام كدين هو أمر غير دقيق، بل يتعارض مع المبادئ الدستورية التي تضمن حرية المعتقد. لكن، إذا كانت الدولة تتخذ إجراءات ضد جماعات توظف الدين كأداة سياسية، فذلك يدخل في نطاق مشروعيتها السيادية.
المشكلة، كما أراها، تكمن في الخطابات المزدوجة: حين تتحدث بعض الجماعات عن “التمكين” أو “أسلمة فرنسا”، فإنها تفتح الباب أمام الدولة لتوسيع دائرة الاشتباه، فتخلط بين المسلم العادي والمسلم المؤدلج، وتتحول العلمانية من مبدأ حياد إلى أداة ضبط ومراقبة.
ما أثار استغرابي، هو تمسك صديقي بخطاب الحقيقة المطلقة: “نحن على حق، والآخرون على باطل”. وهذا الموقف، في جوهره، يتنافى مع روح الفلسفة التي بنيت عليها الجمهورية الفرنسية و التي تقوم على الشك، والتعدد، ونقد المسلمات.
في عالم تتداخل فيه المرجعيات وتتنازع فيه التأويلات، لا يمكن لأي طرف أن يحتكر الحقيقة. ما نراه “دعوة” قد يراه الآخر “تهديدًا”، وما نعتبره “حقًا” قد يُفهم كـ”اختراق” للمنظومة القيمية السائدة.
من هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة التفكير في العلاقة بين الدين والسياسة، ليس فقط من منظور قانوني أو أمني، بل من زاوية فلسفية أعمق:
كيف نؤسس لفضاء عمومي يتسع للاختلاف دون أن يتحول إلى ساحة صراع هوياتي؟ وكيف نضمن أن تظل العلمانية في فرنسا أداة للعدل، لا ذريعة للإقصاء؟