نادية حرحش ـ كاتبة و روائية فلسطينية
في زمنٍ لم تعد فيه الكلمات قادرة على التأثير، وكأنها اختنقت تحت وطأة القمع والخوف، تأتي قصيدة إبراهيم نصر الله “غنائية مريم غزة” لتشق هذا الصمت الثقيل. كلمات تنبثق من وجع الأرض وتصعد كنداء يواجه قيود التعبير الخانقة، لتتألق بمرافقة الموسيقى التي أبدعها سهيل خوري، مع قيادة لامار إلياس وأداء أوركسترا فلسطين للشباب لعام ٢٠٢٤ وجوقة معهد ادوارد سعيد للموسيقى، لتتحول هذه الكلمات الى اوبريت تراجيدي يروي حكاية ألم يختلط برجاء يبدو بعيد المنال، لكنه لا يموت.
بين الكلمات والألحان، وجدت نفسي أغوص في ذاكرة متخيلة، وكأن الزمن يعود بي إلى الماضي الذي سبق الحربين العالميتين الأولى والثانية. ذكرتني الأوبريت بكتاب نيتشه “مولد التراجيديا”، حيث يرى أن التراجيديا في الثقافة اليونانية نشأت كاستجابة حيوية لفترة من الانحطاط الحضاري. التراجيديا، كما وصفها نيتشه، تمزج بين الروح الأبولونية (النظام والجمال) والروح الديونيسوسية (العاطفة والفوضى)، لتواجه حقائق الحياة والمعاناة بشجاعة وإبداع.
في هذا السياق، يبدو ان إبراهيم نصر الله يستحضر ذلك الزمن ليغني لغزة، وكأن مريم غزة ترد على مريم الناصرة، لتقول ان السلام الذي بشّرت به لم يصل بعد، وان الألم قد تغلب على الأمل.
في أوبريت “غنائية مريم غزة”، لا تأتي الموسيقى كخلفية للألم والكلمات، بل هي الجسر الذي يربط بين السماء والأرض، بين الماضي والحاضر، بين الرجاء الإلهي والوجع الإنساني. تتصاعد أنغام الأوركسترا والجوقة كأنها امتداد لصلوات الكنيسة القديمة، حيث يمكن سماع أجراس الكنائس وأصوات الأورغ تتداخل مع كلمات إبراهيم نصر الله، وكأنها محاولة لتخفيف وقع الألم وتجسير الفجوة بين الوعد السماوي والمعاناة الممتدة على الأرض.
تلك النغمات، مثل تسبيحة مريم العذراء، تبدو كأنها تعيدنا إلى زمن البشارة، حيث حملت الموسيقى داخل الكنائس أصداء الرجاء الإلهي. وكأن الموسيقى في الأوبريت هنا، بتوزيعها المؤثر وأصوات الجوقة، تسعى لتكرار هذا الأثر، ولكن من منظور معاصر؛ منظور يقف في وجه الظلم ويحول الألم إلى صوتٍ مقاوم.
تُخلد الأناجيل تسبيحة مريم، المعروفة كذلك بتسبيحة التعظيم، وهي نشيد رفعته مريم العذراء تعبيراً عن امتنانها لله عندما زارت قريبتها أليصابات، والدة يوحنا المعمدان وزوجة زكريا عليهما السلام في عين كارم، معلنة عدالة الله:
“فَقَالَتْ مَرْيَمُ: عَظَّمَتْ نَفْسِي الرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي، لأَنَّهُ نَظَرَ إِلَى تَوَاضُعِ أَمَتِهِ، فَهَا إِنَّهُ مُنْذُ الآنَ جَمِيعُ الأَجْيَالِ تُطَوِّبُنِي، لأَنَّ الْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ، وَاسْمُهُ قُدُّوسٌ.”
تلك اللحظة، التي بدت مستحيلة في نظر العالم، أن تحمل عذراءٌ وأن تنجب مسنةٌ، تحمل في طياتها المعجزة والخلاص. في هذه الأيام، يستحضر المسيحيون صوتاً يحمل وعداً بالخلاص، قوة تمتد من السماء لتعيد للأرض عدلها، حيث المتواضعون يُرفعون والجياع يُشبعون بالخيرات. هذا الوعد الإلهي بالسلام كان ينبض بروح الأمل النبوي، يعلو فوق أصوات القهر ويعيد صياغة التاريخ بنظرة من السماء.
لكن في زمننا هذا، يبدو صوت مريم مختلفاً، كما تجسده “غنائية مريم غزة.” تتداخل أصوات الماضي مع الحاضر، لتصدح مريم غزة بجواب يحمل الوجع عوضاً عن البشرى صارخة:
“السلام على الارض ليس لنا.” هنا تتداخل أصوات الماضي والحاضر في سجال يربط بين وعد السماء ومعانة الأرض، لتقول مريم غزة: ” السلام على الأرض ليس لنا.” السلام على الأرض ليس لنا… أهذه السماء التي فوقنا لا ترانا؟ أم أن الصليب على ظهرنا في حقول الدم يحجبنا؟”
تتصاعد أصوات الجوقة، ولكن بدلاً من أن تصلي للسلام، تروي واقعاً يئن تحت وطأة الظلم، في صدى يردد: “السلام للطغاة وللرؤساءِ الديوكِ وكل الجيوش الغُبارْ. إنّه للدّمار وأشباهِ من يَقتلونَ الصّغارَ على الأرضِ.. أو يَقتلونَ الكبارْ.”
في هذا السجال، تتلاقى تسبيحة مريم الناصرة كرجاء ينبض بالأمل، لوعد إلهي يعيد للأرض عدالتها. كما كانت مريم في رحلتها تحمل أوجاع العالم في رحمها، تتردد صرخات مريم في غزة، حيث الأمل معلق بخيوط ألم، وحيث المعجزات لا تحدث.
“إلهيَ خُذْ كلَّ شيءٍ ودَعْنا قريبينَ من بحرِنا ههنا. إلهيَ خُذْ كلَّ شيءٍ ودَعْنا قريبينَ من… مقابر احبابنا ههنا. لن نغيب، سنبقى قريبينَ.. تأخذُنا إن أردتَ.. لن نغيب، سنبقى قريبين تتركُنا إن أردتَ. متى شئتَ أو كيفما شئتَ إلهيَ. كنْ سُوْرَنا لن نفرّ َ-إذا هبطَ الليل- من موتِنا لسنا بعيدينَ عن عينِ قلبكَ إلهي. سنبقى بأبوابِ روحكَ: أعني الكنيسةَ، والمسجدَ. أعني الترابَ وأعني الحياةَ إذا ظلّ فيها حياةٌ هنا.”
رغم الظلم الممتد، يلتقي النصان في لحظة أمل وصمود. صوت مريم الناصرة ينشد رجاء ينبع من الإيمان، بينما صوت مريم غزة يصدح كتحدّ ينبض بالصمود. “السلامُ لنا… السلامُ لنا.”
في تلك اللحظة، يتشكل اوبريت من الأصوات، تمتزج فيه النبوة الإلهية مع الوجع الإنساني، ليعاد تشكيل مفهوم السلام. السلام هنا ليس استسلاما أو انتظارا سلبيا، بل فعلٌ مستمر من الإيمان والحلم والمقاومة، حلمٌ يبقى نابضاٌ في وجه المستحيل.
لمشاهدة الغنائية:
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22387