الدكتور محمد بشاري
غزة ليست مجرد مدينة على خارطة فلسطين، بل هي قلب ينبض بالصمود في وجه المآسي المتكررة، وجرح مفتوح يعكس حجم الظلم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ عقود. في كل مرة تُشَنُّ حرب على غزة، يُطرح السؤال ذاته: ما الذي تحقق؟ وكيف يمكن الحديث عن انتصار في ظل الدمار والدماء التي تغمر شوارعها؟
منذ أكتوبر 2023، تعرضت غزة لعدوان هو الأشد في تاريخها الحديث، حيث تجاوز عدد الشهداء 46 ألفًا، بينهم الآلاف من النساء والأطفال. مشاهد الركام والدمار أصبحت جزءًا من يوميات القطاع، حيث لم تترك الحرب شيئًا إلا وأطاحت به. المنازل، المدارس، المستشفيات، وحتى الأرواح، كلها أصبحت أهدافًا لآلة الحرب التي لا تميز بين صغير وكبير. لكن رغم ذلك، بقيت غزة صامدة، وأهلها متمسكون بأرضهم، رافضين أي محاولة للتهجير أو التخلي عن حقهم في الحياة.
الحرب على غزة ليست مجرد معركة عسكرية، بل هي فصل جديد من محاولة إسرائيل المتواصلة لطمس الهوية الفلسطينية وفرض واقع التهجير. منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، تسعى إسرائيل جاهدةً لاقتلاع الفلسطينيين من جذورهم، لكن غزة أثبتت مرة أخرى أنها عصية على الكسر. كل محاولات القصف والدمار لم تفلح في زعزعة إرادة شعبها أو دفعهم للرحيل عن أرضهم. هذا الصمود، وإن كان ملهمًا، يأتي بثمن باهظ يدفعه المدنيون يوميًا من دمائهم وأمنهم وحياتهم.
الأرقام التي خلفتها الحرب الأخيرة تُذهل العقول. أكثر من 136 ألف مبنى تم تدميره بالكامل، و245 ألف وحدة سكنية تضررت بشكل جزئي أو كامل، مما ترك مئات الآلاف من سكان القطاع بلا مأوى. إضافة إلى ذلك، فإن أكثر من 110 آلاف شخص أصيبوا، الكثير منهم يعانون من إعاقات دائمة. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الدمار، بل تكشف عن عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها أهل غزة. ومع ذلك، فإن هذه الإحصائيات تبقى مجرد أرقام إذا لم ندرك المعاناة اليومية التي تكمن خلفها.
بعد كل حرب على غزة، تبدأ معركة جديدة أكثر قسوة، لكنها لا تلتقطها عدسات الكاميرات. إنها معركة البقاء. في ظل دمار البنية التحتية وانعدام الموارد الأساسية، يواجه سكان غزة تحديات يومية للحصول على الماء والكهرباء والطعام، فضلًا عن إعادة بناء حياتهم المدمرة. الأرامل اللاتي فقدن معيل الأسرة، الأيتام الذين تُركوا بلا سند، والشباب الذين أُطفئت أحلامهم، كلهم يعيشون معاناة لا يمكن وصفها بالكلمات.
رغم هذه التضحيات الهائلة، يتكرر الخطاب الإعلامي الذي يتغنى بالنصر. لكن النصر الحقيقي لا يُقاس بالشعارات أو بالمواقف العاطفية. غزة بحاجة إلى خطاب مسؤول وصادق يعترف بحجم المأساة ويطرح تساؤلات جادة حول كيفية دعم صمود أهلها وتحسين واقعهم. إن حب غزة لا يكمن في رفع الشعارات الرنانة، بل في تقديم الدعم الحقيقي الذي يمكنها من مواجهة التحديات الحالية والمستقبلية.
المجتمع الدولي، الذي يراقب من بعيد، يتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية. بيانات الإدانة لم تعد كافية، والحديث عن القوانين الدولية لا يعني شيئًا ما لم تُتخذ خطوات فعلية لحماية المدنيين وضمان إعادة الإعمار. غزة ليست مجرد قضية فلسطينية، بل اختبارٌ لأخلاقيات العالم وعدالته. إنها جرح مفتوح يفضح عجز الإنسانية عن حماية الحق والكرامة.
ورغم كل شيء، تبقى غزة رمزًا للصمود والتحدي. شعبها يرفض أن يُهزم، ويصر على أن يحيا بكرامة على أرضه. لكن هذا الصمود لا يمكن أن يستمر دون دعم حقيقي. إعادة الإعمار ليست فقط عملية مادية، بل مشروع إنساني وأخلاقي يعيد الحياة إلى غزة ويمنح أهلها الأمل في مستقبل أفضل.
إن غزة ليست مجرد مأساة تتكرر في نشرات الأخبار، بل هي قضية إنسانية تحتاج منا إلى التزام حقيقي، لا مجرد عبارات عاطفية. إنها دعوة للتفكير في مسؤوليتنا تجاه شعب يواجه كل هذا الألم وحيدًا، ودعوة للعمل من أجل تحويل هذا الألم إلى أمل. غزة، رغم جراحها، ستظل صامدة، ولكنها بحاجة إلى أفعال صادقة تُعيد إليها الحياة وتمنح أهلها فرصة للعيش بكرامة تستحقها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22871