سعيد الكحل
* المساواة في الإرث: معلوم أن الإرث بأحكامه ليس من الشعائر التعبدية التي إذا أخلّ بها المؤمن فسدت عبادته ولا ركنا من أركان الإسلام كالصلاة والزكاة والصوم والحج، وإنما يدخل ضمن المعاملات التي تراعى فيها مقاصد الشريعة، وفي مقدمتها: العدل الذي هو من الأحكام الاجتماعية الخاضعة لمنظومة القيم التي تعكس درجة تطور المجتمع.
فما كان عدلا في سياق تاريخي واجتماعي يفقد هذه الصفة والقيمة في سياق مختلف. وخلال فترة النبوة، عرفت أحكام الإرث تطورا حسب حركية المجتمع ومتغيراته الداخلية؛ إذ “تدرّجت أحكامها على سبع مراحل، في العهد المكي والعهد المدني”، حسب المفكر والناشط الإسلامي التونسي محمد بن جماعة.
ففي بداية الإسلام “كان الميراث أساسه الحِلف والنُّصرة حتى مع اختلاف الدِّين” كما تبين الآية الكريمة “ولكلٍّ جَعَلْنَا مَوالِىَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ” (النساء). ثم، تغيّر الحكم، بعد فترة قصيرة من الهجرة، فكان الإرث بالإسلام والهجرة فقط في سورة الأنفال: “وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا”. لم يكن أساس الإرث ساعتها القرابة الدموية.
ثم تغير الأساس ليصير القرابة والرحم “وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ”. كما تُرك المجال للرجل، في بداية تشريع الإرث، ليوزع ماله قبل وفاته كما يشاء: ”كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتقِينَ” (البقرة). إلا أن الرجال، “بحكم أعرافهم القَبَلية، عمدوا إلى تخصيص بعضٍ دون بعض بالوصية. فكانوا يخصّون الرجال دون النساء. فنزل الوحي: “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْه أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا” (النساء).
ليخلص الأستاذ محمد بن جماعة إلى التالي:ر”وبما أن النموذج الاجتماعي المعاصر لم يعد قائما على تفرغ الرجل للعمل خارج البيت، وتفرغ المرأة للعمل داخل البيت، ولم يعد الرجل وحده ينفق على البيت، وإنما حتى المرأة تنفق على البيت. فهذا يفترض عدم الحرج في إعادة النظر في أحكام المواريث وتكييفها، بحيث يمكن المساواة بين المرأة والرجل في الميراث”.
إن منظومة الإرث المعمول بها باتت متجاوزة اجتماعيا اعتبارا للدور المحوري الذي صارت تلعبه الأنثى داخل الأسرة (16,7% من الأسر، البالغة 8.438.000، مسيرة من طرف النساء. هذه النسبة تبقى مرتفعة بالوسط القروي (19,1%) مقارنة بالوسط القروي (11,4%)) حسب المندوبية السامية للتخطيط. فضلا عن تغير القيم الاجتماعية بما فيها قيمة العدل.
الأمر الذي فرض على كثير من الأسر أن توزع أموالها/ممتلكاتها على أبنائها وبناتها بما تراه عدلا، وهو المساواة. كما تلجأ الأسر التي لم تنجب غير الإناث إلى صيغة البيع حتى لا تترك فرصة للعصبة ليستحوذوا على جزء من التركة لم يساهموا في مراكمته، أو ربما أن صلة الرحم مقطوعة بينهم. فمسألة التعصيب لم ترد في القرآن وإنما هي من اجتهاد الفقهاء أملته الظروف الاجتماعية في سياق تاريخي كانت النساء لا تشتغلن خارج البيوت، بينما الذكور يتولون الإنفاق عليهن.
إن الزمن تغير وتغيرت معه الظروف الاجتماعية، حيث صارت المرأة لا تعيل نفسها فقط، ولكن تعيل أسرتها بمن فيهم الذكور. وليس من العدل إطلاقا أن تساهم الزوجة والبنات في مراكمة ممتلكات الأسرة، مهما كانت متواضعة، ثم يأتي الأعمام أو الأخوال أو أبناؤهم ليأخذوا نصف التركة عند وجود بنت واحدة أو ثلثها في حالة وجود أكثر من بنت.
نفس الأمر يُطرح عند وجود الأبناء ذكورا وإناثا، حيث تشتغل الإناث فيما الذكور يتابعون دراستهم أو عاطلون عن العمل، وعند وفاة الأبوين يطالب الذكور بـ”حظ الأنثيين”. إن غاية الشريعة هي العدل، ومتى اختل ميزانه وجب تعديله ومراجعته تحقيقا لمقصد الشريعة. ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا بمراعاة السياق الاجتماعي وقيم العصر والزمن الذي يوجد فيه المجتمع.
لقد سبق للملك الراحل الحسن الثاني أن أثار هذه النقطة في حوار صحفي قال فيه: “ففي كل القوانين الجنائية، فلسلفة القانون الجنائي هي النموذجية.. إذا قمنا بذلك (=قطع يد السارق) فإن الأعباء الاجتماعية ستثقل كاهل الدولة بإنشائها لمحتاج غير قادر على العمل، وسيكون ذا طبع كاريكاتوري القول لأحدهم اذهب خذ معاشا لأننا قطعنا له يدا. يجب أن نكون قابلين للتطور. العقيدة لا يجب أن تمس، لكن يجب التأقلم مع الزمن”.
حان الوقت إذن، لتحرير مدونة الأسرة من دغمائية القرون الوسطى التي صار فيها الفقه البشري، الذي أنتجته ظروف اجتماعية وسياق تاريخي لما يعودا قائمين، شريعة ملزمة للمسلمين؛ فتناسلت أحكام التحريم وعمّت لتشمل الفنون والموسيقى والابتكارات التقنية وبعض المزروعات، ثم امتدت لتشمل خروج النساء إلى الفضاء العام وحقهن في التعليم والعمل والتصويت والترشيح والانتداب.
إن الفقهاء يعلمون أن الفتوى تتغير بتغير الأحوال وأن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما، لكنهم لا يعملون بهذه القواعد ولا يحترمونها في فتاواهم. ذلك أن غالبيتهم يتخذون من فتاوى أسلافهم مرجعا وحيدا لهم يقيسون عليه فتاواهم وكأن الواقع الاجتماعي ظل ثابتا ولم يتغير عبر القرون. فكل الأحكام الفقهية التي أطرت سلوك المجتمع في القرون الأولى للإسلام ظلت هي نفسها التي يفرضها الفقهاء على المجتمع في القرن الواحد والعشرين، خصوصا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية والمواريث.
لهذا لم تعد الفتاوى تحقق المناط بعد أن صارت غير مطابقة للواقع. إن الواقع المجتمعي الحالي يختلف جذريا عن ذاك الذي عاش فيه الأئمة وفقهاء السلف من حيث الثقافة والقيم والحقوق والأدوار الاجتماعية للأفراد ذكورا وإناثا. إذ بحكم التعليم والإعلام ومشاركة النساء في الحياة السياسية والاقتصادية، صارت الفتاوى التي تشترط وجود الولي لصحة عقد الزواج، أو وجود محْرم أثناء سفر الأنثى، مثار سخرية.
إن المجتمعات الإسلامية اليوم تتطلع إلى بناء الأنظمة الديمقراطية التي يسود فيها القانون ويتساوى لديها المواطنون، وليس إقامة أنظمة دينية تحكم باسم السماء/الله دون إرادة الشعب. فالواقع يثبت أن الأنظمة الديمقراطية أكثر عدلا وصونا للحقوق وللحريات من الأنظمة الدينية التي مارست وتمارس أبشع أنواع الاستبداد.
وما يجري في إيران اليوم من تقتيل للنساء والفتيات بسبب خرقهن لقواعد ارتداء الحجاب التي وضعها الخميني والملالي، أو قرار طالبان حرمان الإناث من التعليم، يؤكد عدم صلاحية الدول الدينية للعيش الكريم وضمان الحريات والحقوق كما هي متعارف عليها عالميا. والمغرب مطالب بتعديل مدونة الأسرة وفق مقاربة النوع والمساواة بين الرجال والنساء التي ستمكّن بلادنا، حسب تقرير لصندوق النقد الدولي، من الرفع من الناتج الداخلي الإجمالي بنسبة 35 في المائة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18815