أحمد زهاء الدين عبيدات
قد يُعتَرَضُ باعتراض آخر ذائعٍ، بالقول بأن العِلم الطبيعي مُختَصٌ بخصائص ثلاثة هي المادي، والشُهودي، والسببي بينما الدينُ مُختَصٌ بأضادها من الخصائص أي الروحاني، والغيبي، والغائي. وعلى شيوع هذا التقسيم وتداوله في بعض الدوائر الفكرية إلا أنه تقسيمٌ لا نجدُ الأدلةَ تَعضُدُهُ.
فأما من جهة الماديِّ أولاً فأدقُّ وأوسعُ نظريات العِلم هي الفيزياء وهي ليست نتاج النظرَ المباشر في الماديات، أو تقليب السيرورات، أو استقراء الظواهر، بل هي في الجملة نتاجٌ “للمنهج الفرضي الاستنتاجي” الرياضياتي. أي أنَّ العَالِمَ المُتَمَرِّسَ يَحْدِسُ حدساً مُعيَّناً بأدوات رياضياتية مُجرَّدة (متوافِقَةٍ مع أدبياتٍ علمية سابقة، وصيَغٍٍ صوَرِية سليمة، وحصيلة معرفية مخصوصة) فيطرحها بصيغة الفرضية. فإذا وافَقَتْ الفرضيَّةُ (النظرَ في الماديات، وتقليب السيرورات، واستقراء الظواهر) تَعزَّزَتْ. وإذا خالَفَتْ أيَّاً من ذلك دُحِضَتْ فأُهمِلَتْ، وهو حالُ الغالبيةِ العُظمى من الفرضيات.
وعلى العكس فالفرضيَّةَ النادرةُ التي مرَّت باختبارات التعزيز، إذا وافَقَتْ فرضياتٍ أُخرى وانسجمت مع إطار نظري معرفي ورياضياتي أكبر، ازدادَت تَعزُّزاً وحَصَلَتْ على المقبولية العلمية، حتى لتصيرَ قانوناً علمياً مع انتفاء المُكذِّبات ودوام الاطراد. وفي كلِّ هذه المراحل كان مُبتَدأُ المنهج الفرضي الاستنتاجي عملاً روحانياً مجرداً، إذ لا يجدُ الناظِرُ الحِسِي المباشِرُ بأن المادة تَنطِقُ بقوانين الميكانيك النيوتنية بتاتاً، ولا نجِدُ الضوءَ يُصَرِّحُ للحواس بقوانين النسبية الآينشتاينية، بل كلُّ هذه النظريات فعالياتٌ عقليةٌُ مجرَّدةٌ تنقدح في روح العالِم بعد المُذاكرة والمُجاهدة والمُكاشفة، فلا ضياءَ لها يُرَى، ولا صوتَ لها يُسمَعُ، ولا رِيحَ لها يُشَمُّ! بل كل ما في ذلك أنها قذفٌ من الروح البشرية العبقرية على مَصادِيقِها من الظواهر طلباً للصدق.
وحتى لو حاولَ كبار البحَّاثة الأذكياء معاودةَ الكَرِّةِ واكتشافَ قوانين جديدة من بعد فهيهاتَ أن يُفلِحَ في ذلك إلا أقلُّ القليل، نظراً للندرة الشديدة للأرواح القادرة على اقتناص سُنن الكون. ولا ننسى أنَّ أحدَ أسبق مدشني علم الرياضيات أي فيثاغورس كان يرى في عِلمِهِ مذهباً ديانياً، زيادةً على ما نراهُ اليومَ في الرياضيات إجراءً بحثياً صِرفاً.
ولو نظرنا للمسألة بالمعكوس فهل الدين بإيجابه التبرعات المالية، والعبادات البدنية، والاحتساب على فساد الأسواق، وجهاد الظلم بالسيف يصير مذهباً مادياً صِرفاً؟ الجواب نفي شديد، بل هذه المظاهر الماليةُ البدنيةُ السوقيةُ العسكريةُ يُرادُ بها الازدواجُ بمعانٍ روحانية. وكذا الحال في الممارسة العلمية إذ هي تجاربُ وقياسات واختبارات ماديةٌ يُرادُ بها الازدواجُ بمعانٍ عقلانية اتساقية اطرادية، أشبَهَتْ الروح في ذلك. وأمَّا من جهة خصيصة الغيبي ثانياً، فالعلمُ يُجاهد في كشف الغيوبِ أيضاً بكشف ما مضى، وتوقِّعِ ما سيحصلُ، واستِكنَاهِ الأجنة ودقائق ما لا يُرَى من الجراثيم والبعيد من الأجرام كالنجوم القصيَّة.
عليه لا ينبغي أن يُقالَ بأن العِلمَ يختصُّ بالمشهود، بل الصواب أنَّ غايةَ العلم أيضاً الكشف عما لا نشهَدُهُ زماناً ومكاناً، فضلاً عن السيرورات والقوانين الخفية التي تتحكم بالعالم المشهود. وأما من جهة الغائي ثالثاً، فالعِلمُ يرقبُ معنى الوجود والغاية من كثير من السيرورات أيضاً. وخذ هذا المثال: إذ غايةُ الجنسين الذكري والأنثوي قبل أن يُولَدَا في الظروف المواتية هو أن يتجاذَبَا ويتحابَّا ويقتَرِنَا ويتعاونَا ويُنجِبَا ويُربِّيا ويَرْعَيَا ويشيِخَا فيَموتا فيُوَرِّثا من الأموال والمعاني إلى أولادِهما وأولاد غيرهما ما يُعِيْنُ على إنتاج زواجية مستمرة من بعد، وهو حالٌ يراقِبُ العلمُ غائيتَهُ ويشرحُ أمثالَهُ في كثير من الكائنات الحية والأنظمة البيئية ويُؤكِّد عليه.
وقد لا تظهر الغائياتُ في علوم الفيزياء، لكنَّها جليَّةٌ في علوم الأحياء وهو ما لا ينتبِهُ إليه أصحاب هذا الاعتراض. الحاصل أن حَصرَ العلمِ بثُلاثي المادي والشُهودي والسببي مع حصول روحانيَّتِه وغيبيَّته وغائيته توصيفٌ لا يصمد أمام التحقيق بل يجعل العلمَ متقاطعاً مع الدين في خصائص كثيرة.