حسن إسميك
«هذه الأمة الفتية، التي تتعافى للتو من هدر وخراب حرب طويلة، لم يكن لديها حتى الآن متسع من الوقت لاكتساب الثروات عن طريق الزراعة أو التجارة. لكن أرضنا جميلة، وشعبنا مجتهد، ولدينا سبب للاعتقاد بأننا سنصبح تدريجياً مفيدين لأصدقائنا… لن أتوقف عن الترويج لكل إجراء قد يؤدي إلى الصداقة والوئام اللذين يسودان بيننا». تعود هذه الكلمات إلى رئيس الولايات المتحدة الأشهر، جورج واشنطن، في رسالة بعثها عام 1789 إلى السلطان المغربي محمد بن عبد الله، الذي كانت مملكته البلد الأول الذي يعترف بالولايات المتحدة الأميركية، دولة مستقلة عن التاج البريطاني، بعد أن وقع آباؤها المؤسسون على إعلان الاستقلال، في الرابع من تموز(يوليو) 1776.
تحتفل الولايات المتحدة سنوياً في هذا التاريخ بذكرى استقلالها، لكن المصادقة على الإعلان الشهير لم تعنِ حينها إلا بداية معركة طويلة ودموية من أجل التحرر من الحكم البريطاني. ومع سنوات الحرب التي تنتظرهم احتاج أصحاب المستعمرات الـ 13 إلى حلفاء. ربما اشتهر الفرنسيون بحمل السلاح إلى جانب الأميركيين، لكن المغرب، وهي الدولة العربية الأفريقية ذات الأغلبية المسلمة، كانت أولى المعترفين بالولايات المتحدة المستقلة حديثاً.
في 20 كانون الأول(ديسمبر) 1777، أعلن السلطان المغربي محمد بن عبد الله (محمد الثالث) أن كل السفن التي تبحر تحت العلم الأميركي يمكنها دخول الموانئ المغربية بِحُريَّة. يوضح مكتب التأريخ في وزارة الخارجية الأميركية أن “هذا الإجراء، وبموجب الممارسة الدبلوماسية للمغرب في نهاية القرن الثامن عشر، وضع الولايات المتحدة على قدم المساواة مع جميع الدول الأخرى التي أبرم السلطان معاهدات معها”.
في العام التالي، بدأ دبلوماسيون مغاربة وأميركيون مراسلات أدت في النهاية إلى التفاوض على معاهدة رسمية بين البلدين. وفي 18 تموز 1787، صادق الكونغرس على “معاهدة السلام والصداقة” بين الولايات المتحدة والمغرب، والتي حددت إطار العلاقات الدبلوماسية، وضمانات عدم العداء، والوصول إلى الأسواق على أساس “الدولة الأكثر رعاية”، وحماية السفن الأميركية من هجمات السفن الأجنبية في المياه المغربية.
واليوم، تظل معاهدة السلام والصداقة الأميركية المغربية أقدم معاهدة أميركية من نوعها لا تزال سارية، أطول علاقة غير منقطعة في تاريخ الولايات المتحدة. لكن ماذا حل بالعلاقات الأميركية العربية بعد نحو قرنين ونصف من الزمن؟
ليست العلاقات الأميركية العربية بالموضوع البسيط والذي يمكن الحديث عنه وتوصيفه بسهولة ويسر، فمنذ مطلع الألفية الحالية، وبالتحديد بعد أحداث الحادي عشر من أيلول(سبتمبر) 2001، عمل كلا الجانبين على تشويه صورة الآخر أو في أحسن الأحوال نقلها مغلوطة إلى الداخل، كما ساهمت سياسات واستراتيجيات وأنشطة متبادلة في تعميق النظرة السيئة، حتى باتت العلاقة معقدة بشكل استثنائي، وقد يتطلب الحديث عنها بإنصاف ما يتجاوز هذه الورقة، أو أي نقاش قصير مختصر.
يأتي تعقيد العلاقات من عنصر مهم يرتبط بوحدة الإدارة السياسية وإرادتها، فالولايات المتحدة هي دولة/أمة (واحدة) لها في السياسة الخارجية إرادة واحدة تتجلى في قرار موحد، إلا أن العرب هم أمة في دول عدة، تتنوع فيها الإرادات وتختلف، وتتضارب بالتالي القرارات ونادراً ما تتحد، لا بل كثيراً ما شهد موضوع العلاقات مع أميركا اختلافاً صارخاً وتنافساً ونزاعاً واتهامات، وتتراوح بالتالي السياسة الخارجية لهذه الدول حيال أميركا، من أعلى مستويات الصداقة والتعاون والتحالف، إلى مستويات متقدمة من الخلاف قد تصل حد العداء.
لكن، يمكن القول بالعموم، وكي لا نذهب بالمقارنة بعيداً، إنَّ علاقات الولايات المتحدة بالعرب اليوم تختلف، ليس فقط عن علاقتها بهم زمن استقلالها، بل حتى عن علاقة الطرفين بداية القرن العشرين، وبالتحديد نهاية الحرب العالمية الأولى، والتي أدت إلى تفكك الإمبراطورية العثمانية، وحصول بعض الدول العربية على استقلالها عنها، أو حتى في مراحل لاحقة عندما حاولت القوى الكبرى التقليدية حينها (فرنسا وبريطانيا) تقاسم الكعكة العثمانية في البلاد العربية في ما بينها، من دون الاكتراث لإرادة شعوب المنطقة وحقها في تقرير المصير.
لقد كانت صورة الولايات المتحدة في “المقاطعات” العربية التابعة حينها للإمبراطورية العثمانية إيجابية بشكل عام، بخاصة شرق المتوسط أو ما يعرف اليوم بدول المشرق العربي. لقد رأى العرب في أميركا قوة عظمى لكن غير إمبريالية مثل بريطانيا وفرنسا، ولم تكن الليبرالية الأميركية شعاراً مفرغاً من مضمونه، بل واقع مارسه المبشرون الأميركان وأحفادهم والمتعاونون معهم، واختبره العرب –وحتى الأتراك والأرمن والفرس– في أروقة الكلية السورية البروتستانتية (التي باتت تعرف اليوم باسم الجامعة الأميركية في بيروت) وأخواتها في القاهرة واسطنبول وبلاد فارس.
لم يقتصر الدور الأميركي على التعليم أو التبشير، بل أُضيفت إليه جهود إغاثية كبيرة في حينها لإنقاذ المنطقة من تأثيرات الحرب العالمية الأولى. ثم جاءت تصريحات الرئيس وودرو ويلسون بشأن حق تقرير المصير، لتشعل في خيال النخب العربية الاعتقاد بأن الولايات المتحدة مختلفة عن القوى الأوروبية التي وافقت على تقسيم الشرق الأوسط بعد الحرب مثلما قسمت إفريقيا في أواخر القرن التاسع عشر، وقامت بالفعل الأكثر فظاعة وهو “وعد بلفور” الشهير عام 1917، والذي تعهدت فيه بريطانيا تقديم كل الدعم لإقامة “وطن قومي” لليهود على أرض فلسطين العربية.
لكن، هذا “الوعد” وما تلاه من توطيد هائل للعلاقات بين الولايات المتحدة والدولة الجديدة المقامة على الأرض العربية “إسرائيل” تحول نقطة العلّام الرئيسة –الأولى– التي غيرت منحى العلاقات العربية الأميركية.
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتراجع أدوار القوى التقليدية وبدء تبلور الثنائية القطبية، الأميركية–السوفياتية، زاد اهتمام واشنطن بالمنطقة العربية، وظهر مبدأ الرئيس الأميركي أيزنهاور والقاضي بـ “ملء الفراغ” في الشرق الأوسط المتحرر للتو من قوى الانتداب والاستعمار التقليدي. وفي سبعينات القرن تضاعف هذا الاهتمام الأميركي، ليركّز بالدرجة الأولى على دول الخليج العربية التي استخدمت نفطها سلاحا في الصراع العربي الإسرائيلي، أرادت أميركا حينها ضمان استمرار تدفق هذا النفط دون انقطاع إليها. في المقابل، وفي كل سياساتها نحو المنطقة، لم تتخل الولايات المتحدة للحظة عن دعمها غير المحدود لإسرائيل، حتى عندما وقفت ضدها في حرب السويس عام 1956.
لا بد إذاً من التنبه أولاً إلى أن أي مشاعر “عداء” عربية حيال الولايات المتحدة، ليست بكل تأكيد مواجهة تاريخية أو صراع ثقافات أو أديان، كما يحاول أصحاب فرضية “صراع الحضارات” الترويج له لدى الجانبين، بل هي ظاهرة حديثة تغذيها بالدرجة الأولى بعض السياسات الخارجية الأميركية، والأخطاء الفادحة التي ارتكبت، بخاصة بعد أحداث 11 أيلول، من قبيل غزو العراق من دون استراتيجية واضحة لكيفية إعادة بنائه وتنميته بالطرق السلمية التي تضمن استقلاله وسيادته، وتمنع التدخلات الخارجية بأموره من جهة، وتحوله إلى مدخل تحاول القوى الإقليمية المرور عبره لتفرض هيمنتها على دول عربية أخرى.
تثبت السياقات التاريخية، والأحداث المفصلية، منذ استقلال أميركا عن الإمبراطورية البريطانية وحتى اليوم، أن الأصل في العلاقة بين الأميركيين والعرب هو الصداقة لا الخلاف، ومازال التقدير في الشارع العربي لقيم الليبرالية والديموقراطية الأميركية منتشراً، ومثله الإعجاب بنموذجها المتشكل من ثرائها وإعلامها وأفلامها وتطورها التكنولوجي، بالإضافة إلى علمانيتها وقانونها ونظامها، لكنه ممتزج بمستويات من خيبة الأمل نتيجة الأدوار السلبية التي تلعبها أميركا في بلاد العرب، واستراتيجياتها غير المتسقة، التي وإن حملت أهدافا جيدة ونوايا حميدة، إلا أنها على أرض الواقع جاءت بتأثيرات عكسية في حالات كثيرة.
لا يفتقر طرفا هذه العلاقة (الأميركي والعربي) إلى الحاجات المتبادلة، ولا إلى القواسم المشتركة، فبالإضافة إلى التقارب بالعدد، يشترك الشعبان بخاصية التنوع، فلا يجمع بين أبناء الأمة عرق واحد، بل اللغة والتاريخ والثقافات المشتركة التي تميز الأمم الكبرى التي تحتل مساحات شاسعة من العالم. للأميركيين ديانة سائدة هي المسيحية، بمختلف طوائفها وتفرعاتها، مثل الإسلام العربي، وتتعايش كل منهما مع أقليات تعتنق ديانات إبراهيمية أخرى. فمثلما أن معظم الأميركيين مسيحيون ولكن بعضهم يهود أو مسلمون، فإن معظم العرب مسلمون ولكن فيهم مسيحيون ويهود أيضاً.
هذا من الناحية النظرية، أما من الناحية العملية فتظل إسرائيل النقطة العالقة الرئيسة، وفي هذا الشأن على الولايات المتحدة، وعلى الإسرائيليين أنفسهم أن يدركوا حقيقة أنهم غير قادرين على التمتع بالتعايش السلمي مع جيرانهم العرب والمسلمين من خلال التخويف العسكري اللانهائي، ولن يؤمّن الظلم، أو التجبر أو قوة السلاح، الشرعية المطلوبة “للدولة اليهودية”.
هذا إذاً ما يُلزم الولايات المتحدة باتباع نهج أكثر توازناً تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإيجاد حل له سيُفقد أغلب القوى والمليشيات المعادية لأميركا والمزعزعة للاستقرار في المنطقة “مصدر شرعيتها”، كما يفقد بعض القادة العرب شماعة أساسية يعلقون عليها قصور حكوماتهم وإخفاقها في تطوير الأوضاع الداخلية في عدة بلدان عربية، ويفتح الباب واسعاً أمام تصحيح مسار العلاقات العربية الأميركية وإعادتها إلى صورتها الأولى القائمة على الاعتراف والاحترام المتبادل، والصداقة والتعاون والمصالح المشتركة.
المصدر: النهار العربي
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15080