نواف القديمي. كاتب سعودي يقيم في تركيا
يجدر التذكير أن لدى إيران مخزونات نفطية تُعادل مخزونات الكويت والإمارات مجتمعتين.. ولديها مخزون من الغاز يعادل مرة ونصف ما لدى قطر من غاز.
لو كانت إيران دولة طبيعية ولم تدخل في صراع مع الغرب منذ بداية الثورة عام 1979. وذلك بأخذ 52 من الدبلوماسيين والموظفين الأمريكيين بطهران رهائن ل 444 يوماً، ثم كل سلوكها السياسي وشعاراتها تجاه “الشيطان الأكبر”، لكان دخلها من النفط والغاز يفوق دخل الإمارات وقطر والكويت مجتمعين.. إيران بسبب سياساتها وسلوكها في المنطقة خسرت أكثر من 5 ترليون دولار على الأقل، خلال ثلاثين سنة – من مرحلة ما بعد الحرب مع العراق – كان يمكن أن تجعل من إيران ومن الشعب الإيراني في موقع آخر.
فما هو موقع إيران اليوم؟ إليكم بعض الأرقام:
1- الناتج المحلي الإيراني في عام 2022 بلغ الـ 413 مليار دولار، وهو يقل عن الناتج المحلي لمصر – شبه الخالية من الموارد الطبيعية – والمُقاربة لها في عدد السكان، والتي تُعاني من أزمة اقتصادية خانقة، حيث يبلغ الناتج المحلي المصري في عام 2022 قرابة الـ 476 مليار دولار.. في حين يبلغ الناتج المحلي لدولة الاحتلال الإسرائيلي 525 مليار دولار.. أما في الجارة تركيا، المُقاربة لإيران أيضاً في عدد السكان – والخالية من النفط والغاز كذلك – فيبلغ الناتج المحلي قرابة 1.3 تريلون دولار.
2- يبلغ الحد الأدنى للأجور في إيران ما يُقارب الـ 140 دولاراً، بينما عند جارتها تركيا التي تُعاني أيضاً من أزمة اقتصادية، يزيد قليلاً على الـ 550 دولار.. في حين تُشكل إيران واحدة من أكثر دول العالم تفاوتاً بين القيمة الرسمية للعملة المحلية وقيمتها الحقيقية في السوق السوداء، حيث قيمة الدولار الواحد رسمياً في البنوك الإيرانية 42.000 ريال إيراني، في حين تتجاوز قيمته الحقيقية في السوق السوداء حاجز الـ المليون ريال (أكثر من عشرين ضعفاً).. كما أن نسبة التضخم في إيران في آخر أربع سنوات بلغت قرابة الـ 40%.
3- يسيطر الحرس الثوري الإيراني – وفق تقديرات – على ما يُقارب الـ 35% من الاقتصاد الإيراني، ووصلت شركاته إلى مختلف القطاعات الاقتصادية كالبناء والصناعات الثقيلة ومصافي النفط والصناعات البتروكيماوية ومصانع السيارات والمصارف والصحة والزراعة والاتصالات والصناعات الغذائية، كما يمتلك عشرة مطارات محلية.. فمثلاً “مؤسسة خاتم الأنبياء” التابعة للحرس الثوري تضم وحدها أكثر من 800 شركة ومؤسسة تعمل في مختلف القطاعات الاقتصادية، ويعمل بها أكثر من 160 ألف موظف.
4- أما نسبة الفقر في إيران فقد تجاوزت حاجز الـ 40%، وقد كتبت صحيفة “اعتماد” الإيرانية في نيسان/أبريل 2024 أن نسبة الفقر في البلاد زادت بنسبة 10% خلال آخر عامين فقط، مما يعني أن ثمانية ملايين شخص انتقلوا من الطبقة الوسطى وانضموا حديثاً إلى قائمة الفقراء.
كما تُعد إيران من أسوأ دول العالم في مؤشرات الفساد المالي والإداري والسياسي، حيث احتلت – في مؤشر مدركات الفساد العالمي – الموقع 149 في قائمة تضم 180 دولة. وعربياً فإن معظم الدول التي تحتل موقعاً أسوأ من إيران هي تلك التي تخضع لهيمنتها “لبنان والعراق واليمن وسوريا”، بالإضافة إلى ليبيا والسودان اللتين تمران بمرحلة انهيار في مؤسسات الدولة وسيطرة للميليشيات.. وفي حال تتبعنا موقع إيران في مؤشرات التنمية والتحديث والحوكمة التقنية وجودة الحياة والتكنولوجيا الرقمية والبيئة الاستثمارية والتأثير الثقافي وسوى ذلك، سنخرج بتصور عن طبيعة الوضع الخدمي والتنموي والاقتصادي المتردي في إيران، حيث تقع دوماً في آخر مراتب دول العالم في جميع هذه المؤشرات.
قد يقول البعض إن ثمن كل ذلك هو استقلال قرارها، ورفض الهيمنة الغربية، ورفض التطبيع مع إسرائيل. وهذه من الأوهام التي تدور في رأس كثيرين، وهو أنك في علاقتك بالغرب تخضع لثنائية إما “الخضوع” أو “المواجهة”، لكن من المُفارقة أن غالب المؤمنين بهذه الثنائية لا يرون في تركيا مثلاً – العضو في الناتو – خاضعة للغرب، وهي التي تدخل في احتكاكات مع الغرب وتطور صناعات عسكرية متقدمة.. ولو كان عدم العداء مع أمريكا والدخول معها في علاقة طبيعية سيعني بالضرورة خضوعاً لهيمنتها وفرضاً للتطبيع مع إسرائيل عليها، لكان فُرض هذا التطبيع على دول صغيرة مثل الكويت وقطر اللتان تضمان أكبر القواعد الأمريكية في المنطقة.. لذلك، يمكن ألا تكون في مواجهة مع الغرب، وفي نفس الوقت لك سياساتك المستقلة، وترفض التطبيع، بل وتدخل في احتكاكات سياسية مع الغرب كما في تجارب عدة دول.
إيران دخلت في مواجهة مع الغرب لأنه غلب عليها الخطاب العقائدي الأيديولوجي الطائفي لا السياسي، ولأنها انخرطت في مشروع للهيمنة على المنطقة مدفوعة بخيالاتها الإمبراطورية لا من أجل فلسطين، وهي التي كانت تتفاخر بأن الغزو الأمريكي للعراق وأفغانستان ما كانا ليتمّا بهذا الشكل لولا الدعم والتسهيلات الإيرانية.
ونحن نرى اليوم أن كل ما ضحَّت إيران من أجله وافقرت شعبها وخاضت حروب وارتكبت مجازر وخسرت فرصاً كثيرة، أن كل ذلك بدأ يتهاوى سريعاً في شهور، وباتت مُستعدة لتقديم تنازلات من أجل عقد تسوية مع “الشيطان الأكبر” تسمح له فيها بتفتيش مواقعه النووية، بل وحاولت إغراءه باستثمارات أمريكية في إيران بقيمة 4 ترليونات دولار! فلا هي اختارت أن تكون دولة طبيعية وإقليمية كبرى معنية بالتنمية والاستثمار والخدمات وتطوير البنية التحتية وتحسين الاقتصاد ونهضة شعبها وتطوير الصناعة والزراعة وأخذ سياسات مستقلة، بلا شعارات جذرية وميليشيات وحروب وتصدير للثورة وتهييج للخطاب الطائفي من أجل الحشد والتعبئة واحتلال دول وارتكاب مجازر، ولا هي كسبت من كل أفعالها الخشنة وسلوكها الصراعي شيئاً يُذكر.
سوريا اليوم تمر بتجربة شبيهة، ثورة اسقطت نظاماً بالقوة، ولكنها اختارت مساراً واضحاً منذ البداية، لا صراعات وحروب، بل تنمية وتطوير وعلاقات عربية وغربية جيدة، فاستطاعت بمساعدة حلفائها أن ترفع العقوبات عنها في شهور، وهو ما عجزت عنه إيران منذ عقود، وقدمت في سبيله تنازلاتٍ كثيرة.