محمد عسيلة*
تُعَدُّ علاقة مغاربة العالم بوطنهم الأم المغرب علاقة مقدسة، وممتدة وأصيلة ومتينة، نضاهي بها أممًا وشعوبًا كثيرة حيث تمثل أواصر قوية من الولاء والانتماء التي لا تنقطع برغم البعد الجغرافي ولطالما و مازال المغاربة المقيمون في الخارج ملتزمون بالدفاع عن قضايا وطنهم ومقدساته، مؤكدين على انتمائهم العميق وتعلقهم الجذري بتوابثه الوطنية. يتجلى هذا الالتزام في حرصهم على نقل هذا الحب للوطن والقيم الوطنية الراسخة إلى أبنائهم، ليظل المغرب حيًا في قلوبهم وأذهانهم عبر الأجيال. هذا الولاء المستمر يعكس مدى قوة وعمق العلاقة التي تربط مغاربة العالم بوطنهم الأم، ويؤكد على أهمية الحفاظ على هذه الروابط الوثيقة وتعزيزها بمختلف السبل الممكنة.
وهنا نعتبر أنفسنا جميعا مسؤولون، إدارة ومجتمعا مدنيا وتمثيليات على الحفاظ على هذا الرأسمال اللامادي والكنز الإنساني المغربي العابر للقارات بجميع الوسائل والمناهج والطرق والمقاربات الممكنة.
كما يعتبر مغاربة العالم جزءًا لا يتجزأ من الهوية الوطنية المغربية، فرغم تواجدهم خارج حدود الوطن، إلا أن تأثيرهم يمتد إلى القضايا الاجتماعية والتنموية في المغرب بحكم علاقتهم وولائهم المقدس وتحويلاتهم المالية والروحية -إذا جاز التعبير داخل هذا الولاء والعشق المقدس لوطنهم عبر الاجيال،- مؤمنين بشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك.
كما تعد مشاركة أفراد الجالية المغربية في الحراك السياسي والانتخابات الأوروبية دلالات هامة تعكس تفاعلهم مع وطنهم الأم في معالجة قضاياه داخل الاحزاب والتكتلات السياسة الأوروبية ومع المجتمعات المضيفة.
وعليه، وددنا في هذا المقال الوجيز عرض بعض الآفاق والتحديات والتأثيرات السلبية والإيجابية لهذه الأبعاد، مع التركيز على ضرورة انتباه الادارات والوزارات المغربية الوصية على ملفات مغاربة العالم لهذه التحولات ومحاولة دمج المغاربة في مجالس الحكامة والمجالس الاستشارية بالمملكة لتوطيد الأواصر.
إن مشاركة مغاربة العالم في الانتخابات الأوروبية، رغم ضعفها، تُعَد علامة بارزة على اندماجهم في المجتمعات المضيفة وتفاعلهم مع القضايا السياسية المحلية. هذه المشاركة تعكس قدراتهم على التأثير والمساهمة في الحياة السياسية في دول الإقامة، مما يعزز من مكانتهم الاجتماعية والسياسية هناك. ومع ذلك، فإن عدم تمكنهم من المساهمة بنفس القدر في مجالس القرارات والحكامة والاستشارات في المغرب يشكل تحديًا يثير العديد من التساؤلات حول سبل تعزيز ارتباطهم بالوطن الأم.
لا يجادل اثنان في أن مشاركة مغاربة العالم في العمليات السياسية الأوروبية تشكل خطوة إيجابية نحو تعزيز الهوية الممتدة والانتماء الحقيقي والمدني والحضاري في هذه الدول التي اصبحت أوطانا محتضنة، إذ تعزز هذه المشاركة شعورهم بالانتماء إلى المجتمعات الأوروبية وتساهم في تقوية الروابط العاطفية مع بلدان الإقامة بشكل تصاعدي. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي انخراط المغاربة المقيمين بالخارج في العمليات الانتخابية إلى توسيع قاعدة المشاركة السياسية، مما يعزز من ديمقراطية النظام السياسي في دول الإقامة. وهذا مقام جميل تستفيد منه الدول المحتضِنة بشكل لا يوصف في ضبط موازينها وتطعيم رؤاها وتحقيق الانسجام المجتمعي والسياسي. كما أن نقل خبرات ورؤى مغاربة المهجر المكتسبة من دول الإقامة يمكن أن يثري النقاش السياسي في المغرب، ويساهم في تعزيز التعددية الفكرية.
لكن، تظل هناك تحديات تواجه مغاربة العالم في المشاركة السياسية في المغرب. من أبرز هذه التحديات عدم القدرة على التصويت في الانتخابات المغربية بسهولة بسبب العوائق الجغرافية والتقنية، علما أن لنا تحفظا في جعل العملية الانتخابية والدعاية لها داخل مساجدنا والتي هي المكان الحاضن لمغاربة العالم بامتياز. وهذا لن يستقيم وقد يؤدي الى نسف وحدة المغاربة وتقزيم دور المساجد في انتماءات حزبوية أو سياسية ضيقة.
بالإضافة إلى ذلك، قد يؤدي تباعد الحياة اليومية للمغاربة في المهجر عن السياق المحلي إلى تباعد في الأولويات والقضايا التي تهمهم مقارنةً بالمقيمين في المغرب. وقد تؤثر السياسات المحلية في دول الإقامة على القدرة مما يسبب لاحقا إضعاف المشاركة في الشؤون السياسية المغربية.
إن مشاركة مغاربة العالم في الشؤون السياسية تسهم بدون شك في تعزيز الروابط الثقافية والدينية والاجتماعية مع المغرب. تحويل الخبرات والتجارب المكتسبة في دول المهجر إلى الوطن الأم يمكن أن يسهم في تطوير المجتمع المغربي بشكل كبير.
لكن، يجب التنبه إلى بعض التأثيرات المحتملة، حيث قد يؤدي تباعد الحياة اليومية في المهجر عن المغرب إلى ظهور نوع من الازدواجية في الهوية، مما يمكن في غياب مواكبين ومتدخلين وموجهين ومؤثرين واعين بالقضية أن يؤثر على الانتماء الوطني على المدى المتوسط والبعيد.
فمشاركة مغاربة العالم في الحراك السياسي والعمليات الانتخابية بشكل عام هنا في الدول الأوروبية وفي الوطن، ستعكس تفاعلهم مع وطنهم الأم ومع المجتمعات المضيفة. هذه المشاركة تحمل في طياتها آفاقًا وتحديات تتطلب تضافر الجهود من أجل تعزيز العلاقات الإيجابية والتغلب على الصعوبات المحتملة.
يجب على المؤسسات المغربية الوصية، حسب هذه القراءة المتواضعة، أن تتابع وتنتبه لهذه التحولات وتحاول دمج الكفاءات المغربية من خارج أرض الوطن، مثلا في مجالس الحكامة والمجالس الاستشارية بالمملكة لتوطيد الأواصر وتمكينهم من المشاركة والبث والتشاور في قضاياهم في المهجر وفي الوطن العزيز. فسياسات التوطين والاندماج التي تنتهجها الدول الأوروبية، إذا لم تُواكب بشكل مناسب من قبل المغرب ومن التمثيليات المدنية ومن المختصين “الفقهاء” في فقه الواقع وقضاياه وتحدياته، قد تعصف بالعلاقات والأواصر وامتدادها مع الوطن على مدى العقدين القادمين على أبعد تقدير في صفوف الأجيال الصاعدة من أبناء وبنات مغاربة العالم في ظل التحولات الجيوسياسية والديموغرافية والاقتصادية.
لذا، من الضروري أن يبذل المغرب جهودًا كبيرة للحفاظ على روابطه مع مغاربة العالم من خلال تمكينهم من المشاركة السياسية الفعالة بالشكل الذي اقترحناه وتوفير الدعم اللازم لمبادراتهم الثقافية والدينية عبر مساجدهم وخارجها في شراكات مستدامة مع المؤسسات الأوروبية التي تتولى تدبير ملفات الاندماج وقضايا التدين والدين والثقافة.
يجب أن نؤكد أن المشاركة السياسية في أدوار استشارية والتي نطمح إليها لمغاربة العالم لا تقتصر على الانخراط في حضور محتشم وباهت نؤثث به الفضاء، بل يتجاوز ذلك إلى دمجهم في منظومة الاستشارة ومجالس الحكامة وقضايا التنمية بشكل موسع ومستدام حسب الاختصاص والكفاءات في شؤون الاقتصاد والاستثمار والتنمية والثقافة والتعليم والتربية والهوية والانتماء والأسرة والدين والتدين.
ينبغي أن تتم هذه المشاركة بعيدًا عن تحويل المساجد والجمعيات إلى منصات لحراك حزبي ذو لون سياسي محدد، حيث يؤدي ذلك إلى تسييس الخطاب الديني واستخدامه لدعم تيارات سياسية معينة. إن هذا المسار قد يعصف بوحدة الجاليات المغربية في المهجر، ويهدد صرح المساجد التي تعد ضامنة لوحدة واتحاد المغاربة في الخارج. لذلك، يجب العمل على تعزيز دور مغاربة العالم في الشؤون الوطنية والتنموية من خلال قنوات مؤسسية تضمن مشاركتهم الفعالة والمستدامة، بعيدًا عن المزايدات السياسية الضيقة والخوف من مشاركتهم في اعتبارهم منافسين لمناصب داخل أرض الوطن. بهذه الطريقة، يمكننا تعزيز العلاقات الإيجابية بين مغاربة العالم ووطنهم الأم، والمساهمة في التنمية المستدامة وتعزيز الهوية الوطنية بشكل قوي ومتين ومستدام إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
Source : https://dinpresse.net/?p=20996