أحمد عصيد
الكتابة بدافع التحريض وإشاعة الكراهية هي أحط أنواع الكتابة، لسبب بسيط هو أنها تخلو من الفكر، ذلك لأن الجهد الذي يتطلبه التفكير يضيع في صياغة عبارات الانتقام والنهش في الأشخاص، لا لشيء إلا لأنهم يطرحون أسئلة لا يحبّ غيرهم أن تطرح، ويثيرون قضايا يعتبرها هؤلاء محسومة قطعية وداخلة ضمن “الثوابت”.
غير أنّ ما يشعر به المرء أمام بعض بهلوانيات ثقافة التحريض هو أنّ نهاية مرحلة وبداية أخرى أمر وشيك، لأن انتفاضة حراس التقليد والمحافظة تزداد شراسة كلما اقتربت الأفكار التي يتداولونها من الاحتضار، رغم كل المؤشرات السطحية التي قد توحي بخلاف ذلك، حيث يحرص حراس المعبد القديم على استعمال أشرس أسلحتهم التي قد تصل حدّ استعداء الناس ضد بعضهم البعض وتحريض السلطة القمعية على المثقفين أو السياسيين الذين يتحلون بقدر من الشجاعة، فالأولوية بالنسبة لهؤلاء الحراس هي إسكات الأصوات النقدية.
وفيما يلي سأحاول أن أبرز خصائص هذا النوع من الكتابة، ومواطن ضعفه وحدوده، والضرر الذي يمكن أن ينتج عنه للأشخاص أو للمجتمع.
تعتمد كتابات التحريض التي دُبجت عن حقد أو برغبة في الاستعداء على الخصائص التالية:
1) استهداف الشخص والتركيز عليه بوسائل التجريح البلاغية، عوض مناقشة أفكاره التي يتمّ عرضها كـ”أدوات جريمة”، منزوعة من سياقها الحجاجي، ويُظهر هذا مقدار ضعف العقول الصغيرة، التي تنفعل بالرأي الآخر وتتشنج له، مما لا يسمح لها بالتفكير فيه.
2) شيوع العنف اللفظي وأساليب الهجاء والقذف بشكل ملفت للإنتباه في هذا النوع من الكتابات، التي يبدو أنّ مهمة أصحابها هي إطلاق النار على كل من يتحرك، وهو ما يجعل من اللغة وسيلة الحجاج الوحيدة، في غياب التماسك المنطقي للفكر ومراعاته لواقع الأشياء، ويقصد بهذا العنف أساسا التعمية والإخفاء، أكثر مما يراد به قول حقيقة ما، فالإشاعة هنا تعوض الحقيقة ، لأن الهدف هو فقط ترهيب الشخص والتشهير به واستعداء الآخرين عليه وتحريض السلطة ضدّه من أجل دفعه إلى الإنزواء والصمت، و لهذا تتخذ بعض هذه المقالات طابع محاضر الشرطة و تقاريرها.
3) تعكس مقالات التحريضيين قدرا كبيرا من الجهل والأمية، وتعرض نسبة هامة من الأخطاء المعرفية التي تدلّ على مستوى دراسي متدني، وعلى انقطاع هؤلاء عن البحث والتفكير منذ زمن غير يسير، ولهذا يجدون صعوبة في فهم الأفكار أو الآراء النقدية فيعمدون إلى تحريفها أو تسطيحها حتى تصير على درجة كبيرة من الميوعة، ثم يعرضونها للقراء الذين عليهم الاحتفاظ فقط للأشخاص المعنيين بالصّور التي يرسمها لهم المهيّجون.
4) يتعمّد كتاب ردود الأفعال الهجائية والتحريضية الحديث باسم “الشعب”، الذي يعرفون نسبة الأمية فيه، كما يعرفون شيوع التقليد والنزعات الماضوية لديه بسبب السياسة الرسمية التي اتبعت في التعليم والإعلام منذ عقود، فيعمدون إلى تملق عقلية التخلف ومداهنة قوى التقليد التي يعتبرونها جمهورهم، وتحويل سلبيات المجتمع إلى “ثوابت” و”قيم الأمة”، واعتبار أي نقد “مسّا بمشاعر المؤمنين”، تماما كما تفعل السلطة. والغرض هو إظهار قوى التغيير والديمقراطية بمظهر الشواذ المنعزلين، لكن الحقيقة التي لا يريد هؤلاء الانتباه إليها، هي أنّ منطق الواقع واتجاه سيره لا يراعي بالضرورة عواطف المهيّجين والمهتاجين، وقد يسير بهدوء وثبات في اتجاه التغيير المحتوم. لقد رفعت الجماهير المهيجة صواريخ “الحسين” الكارتونية في شوارع الرباط قبل سنوات في مبايعة مقززة للدكتاتور الدموي الذي أوقع العراق في خراب شامل، وكان ذلك بسبب تأثير صحافة التحريض القومية والإسلامية، لكن الأحداث مضت في اتجاه آخر مطابق تماما لما كانت تقول به أقلية صغيرة من العقلاء.
5) تعمل الكتابات التحريضية على حماية حقل السلطة وحراسة مقدساتها من رياح التغيير، وفي هذا يبرز الدور الحقيقي لهذا النوع من الكتابة، فما وراء التهجم على الأشخاص النشطين من كتاب ومثقفين وسياسيين ومناضلين حقوقيين وفاعلين جمعويين والتجريح فيهم، يوجد مخطط التصدي لمشروع مجتمعي لا يروق للذين بنوا امتيازاتهم ومصالحهم على ثوابت الاستبداد، ولهذا تتجنب صحافة التحريض كليا التصادم مع الإسلاميين وأهل التقليد، أو مع المسؤولين الذين يدورون في فلك “المخزن”، لأن هؤلاء يمثلون جمهورا مفترضا لهذا النوع من الكتابات، حيث يلتقي الخطاب الوعظي الشرس واللإنساني، منتج الفتاوى المضحكة، مع المقالات الهجائية للأشخاص خدام المعبد وحراسه في هدف رئيسي هو إجهاض أي انتقال ممكن نحو الديمقراطية، مهما كان بطيئا أو معاقا، وفي هدف ثانوي هو إرضاء جمهور يعرفون مستواه ونزواته وغرائزه، وذلك بالتنفيس عن غيظه وضيقه من الحريات التي لم يتربّ عليها، ومن مسلسل التحديث الطبيعي، ومن الدور النقدي للفاعلين السياسيين والمدنيين.
6) تتعمد الكتابات التحريضية استعمال نظرية المؤامرة بشكل مكثف يكاد يوحي بحالة مَرضية، فكل من يتحرك من أجل تحرير العقول من أساطير وأوهام ثقافة متآكلة، يُنعت بأنه مسخّر من قبل قوى أجنبية عن المغرب بهدف زعزعة استقرار البلاد وإحداث شرخ في وحدته الخالدة، والحقيقة أن وحدة المغرب واستقراره لا يختلفان عن وحدة واستقرار البلدان المسماة “عربية”، والتي يبدو أنّ قدرها أن ترزح جميعها تحت نير أنظمة الاستعباد والتسلط، إنه استقرار هشّ لأنه لا يقوم على أسس ديمقراطية سليمة ودائمة.
ويرمي مستعملو نظرية المؤامرة إلى صرف الانتباه عن الأسباب الحقيقية للتخلف، والتي هي أسباب داخلية بالأساس، مرتبطة بطبيعة النسق السياسي والاجتماعي القائم، كما يهدفون عبر إطلاق النار على كل من يتحرك إلى تقديم أنفسهم للسلطة كـ”وطنيين” مخلصين ومتشبثين بـ”الثوابت”، هذه الأخيرة التي ليست سوى مناطق نفوذ مسيّجة بإحكام.
ويمكن تفسير لجوء هؤلاء إلى نظرية المؤامرة بأنهم يجدون فيها أفضل طريقة للتخلص من الخصوم دون “وجع الرأس”، أي دون مناقشة آرائهم أو دحضها، ولهذا فهي السلاح المفضل لدى العقول الصغيرة.
7) التركيز على الجزئيات المتفرقة وبعض المظاهر الخارجية عوض النسق ككل، وذلك لإظهار الآخر كما لو أنه مجرد شخص فوضوي أو مخرّب بدون مشروع أو قضية.
هذه الخصائص هي ما يميز على العموم أصحاب الكتابات التحريضية والهجائية، إنهم يعملون بتواطؤ مباشر أو غير مباشر في إطار جبهة تضمّ قوى المحافظة وحماة القيم التقليدية، للدفاع عن الماضي ضدّ الحاضر والمستقبل، الماضي الذي هو عبارة عن إرث ميت في معظمه، لكن يتمّ النفخ فيه لكي يستمر وتستمر معه العقليات والسلوكات القديمة، تلك التي عمادها احتقار الإنسان واعتباره مجرد وسيلة وضيعة لخدمة نسق سياسي لا يريد أن يتغير، نسق تغيب فيه شروط النقاش الحر والصريح وقيم وأخلاق الاحترام المتبادل والضمير المهني والحسّ الإنساني، نسق يقتات من الخوف والنفاق والتواطؤ العفوي على اللجوء إلى السلطة كبديل مطلق، عوض العمل في عمق المجتمع من أجل تغيير العقليات.
إن المستهدف من طرف هؤلاء ليس شخصا بعينه، وإنما هو الرأي الحر والفكر النقدي، الذي يكشف عن التناقضات و يبتّ في المفارقات ولا يكفّ عن طرح الأسئلة، وهي معركة ـ رغم عدم تكافؤ الفرص والإمكانيات فيها بين الطرفين ـ محكومة بأن تنتهي لصالح من يطابق فكره اتجاه التاريخ ويخدم الكرامة الإنسانية، وفق القيم التي هي أفضل وأرقى ما بلغته البشرية حتى الآن.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7265