عبد الإله زيات
علي أومليل ليس مفكرا عاديا في السياق العربي، بل هو صوت نقدي تشكل في جوف التحولات الحادة، مشبع بهاجس الحداثة، وبمرارة التأخر التاريخي للعالم العربي. لا يكتب انطلاقا من موقع يقيني أو أيديولوجي، بل من مسافة تأملية، فلسفية وتاريخية، تجعل من فكره مرآة صادقة لأزمتنا المعاصرة، لا بكونه مفكرا سلبيا، بل لأن عمق نقده يجعل من الصمت فضيحة، ومن المهادنة تخليا ففي كتابه “السلطة الثقافية والسلطة السياسية”، يقارب أومليل العلاقة الإشكالية بين الثقافة والسياسة في العالم العربي، مبرزا كيف تحولت الثقافة من قوة نقدية إلى وظيفة تابعة، بل أداة تبرير للسلطة. ليست هذه العلاقة في نظره عرضية أو هامشية، بل هي بنيوية، فالسلطة السياسية في المجال العربي الإسلامي لم تكن تحتاج إلى شرعية عقلانية بقدر ما كانت تؤسس على خطاب المقدس، أو ما يسميه إدوارد سعيد بالمتخيل السلطوي.. هنا يعيد طرح سؤال ما الثقافة؟ ليس كتعريف أكاديمي، بل كرهان أنطولوجي، هل يمكن لثقافة لم تدخل في مواجهة مع نفسها، ولم تمارس فعل التمرد على خطابها التقليدي، أن تنتج مفاهيم حديثة كالمواطنة والحرية والعقلانية؟ في نظره، الجواب سلبي، وهو ما يفسر تعثر الانتقال العربي إلى الحداثة.
لا ينتمي علي أومليل إلى تيار الصدمة مع التراث، بل إلى تيار الوعي التاريخاني، كما صاغه بول ريكور وميشال دو سارتو. في عمله “الخطاب التاريخي: دراسة في بنية الخطاب العربي”، يتحدث أومليل عن انغلاق العقل العربي داخل دائرة التبرير، حيث يقرأ التاريخ بمنطق المظلومية أو التمجيد، لا بمنطق التحليل البنيوي أو النقد الإبستمولوجي. هنا يُستدعى فوكو وغرامشي لا بوصفهما زينة اصطلاحية، بل أدوات لفهم كيف يتم تشكيل الخطاب وسجن الوعي فيه. إن استعادة التاريخ، في منظور أومليل، ليست عملية إحياء، بل تفكيك آليات تمثيله. فالخطاب التاريخي العربي ــ من الطبري إلى ابن خلدون ــ ظل أسير الرؤية السردية، ولم ينفتح إلا جزئيا على المنهج النقدي.
في أحد أبرز تحليلاته، يميز بين المثقف العضوي والمثقف السلطوي. فالأول عنده يسائل الواقع من موقع التزام نقدي، بينما الثاني يحول المعرفة إلى سلطة ويعيد إنتاج القيم المهيمنة. هنا، يُظهر تأثرا عميقا بأنطونيو غرامشي، لكنه يذهب أبعد منه، مشيرا إلى أن بنية المجتمع العربي نفسها لا تسمح بولادة المثقف العضوي، إذ لم تُفكك بعد علاقات السلطة التقليدية ولا أنماط الولاء الأولي. في هذا السياق، يتقاطع فكره مع مهدي عامل، لكن من موقع مختلف، أومليل يرفض اختزال البنية في العامل الطبقي، ويركز على البعد الإبيستمولوجي للهيمنة، أي كيف يتم تشكيل الوعي المهيمن من داخل النص، المدرسة، الخطاب، بل حتى المفردة اللغوية.
يمتلك علي أومليل نظرة فلسفية للتاريخ. لا يقرأ العالم العربي من زاوية الاقتصاد السياسي فقط، بل من زاوية إشكالية الزمن العربي، أي انقطاع العرب عن لحظة التراكم. ففي كتابه “في الشرط التاريخي للفكر العربي”، يشتبك مع مفاهيم مثل القطيعة، الاستمرارية، الاستلاب الزمني، محاولا فهم لماذا لا يزال الفكر العربي يراجع نفسه أكثر مما ينتج ذاته. هنا، يُلمح إلى إشكال الزمن الميتافيزيقي، حيث يتم استحضار الماضي كمطلق لا كجزء من زمن نسبي. هذا النقد يُقارب أعمال عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري، لكنه يتميز عنهما بأن أومليل أكثر مرونة، لا يسعى لنموذج قطيعي بل لوعي نقدي متدرج.
الجابري سعى إلى عقلنة التراث من الداخل، العروي بنى نسقه من خارج البنية اللغوية والسياسية التقليدية، أما أومليل فيزاوج بين الفكرتين، لكنه يعول على سؤال الخطاب كمفتاح للتحول.
علي أومليل مفكر بنى مشروعه على قاعدة رصينة، أن المأزق العربي ليس سياسيا فقط، بل معرفي أيضا. إنه نقدي دون أن يكون عدميا، حداثي دون أن يقطع مع الذاكرة، ويكتب لا من أجل أن يدهشك، بل من أجل أن يربك سكونك. فكر أومليل هو محاولة لفتح المسكوت عنه في الثقافة العربية، لكشف السلطة في المعرفة لا كأداة بل كنسق، ولا كمؤامرة بل كبنية أنتجها التاريخ وأعادت الثقافة تبريرها.