19 سبتمبر 2025 / 10:34

علم الكلام المسيحي: العقل في خدمة الإيمان

دين بريس
يُعد علم الكلام المسيحي أحد أعرق صور التفاعل بين العقل والإيمان في التاريخ الديني والفكري للإنسانية. فمنذ أن بدأت المسيحية تنمو وتنتشر بين شعوب متعددة الثقافات، واجه المؤمنون العديد من التساؤلات الفكرية والفلسفية حول طبيعة الله، ومفهوم الثالوث، وسر التجسد، ومعنى الخلاص، وموثوقية النصوص المقدسة.

ومن هنا نشأت الحاجة إلى خطاب لاهوتي يستطيع أن يبرهن على صحة العقيدة، لا بمجرد التسليم الإيماني، بل بالبرهان العقلي والمنطقي، ليكون سندًا للمؤمن، وجسرًا للحوار مع غير المؤمنين أو المختلفين.

إن علم الكلام المسيحي ليس وليد لحظة تاريخية منعزلة، بل ثمرة لتفاعل طويل بين المسيحية والفكر الفلسفي اليوناني، خاصة حين بدأت الكنيسة في القرون الأولى تواجه أفكارًا فلسفية وعقائد مضادة تهدد صفاء الإيمان الرسولي. فكان لا بد من أن يتسلح اللاهوت المسيحي بالأدوات العقلية المناسبة ليفند البدع، ويشرح العقائد الكبرى بأسلوب منظم ودقيق.

فظهرت شروح الآباء الأولين، مثل أثناسيوس الكبير، الذي دافع عن ألوهية المسيح في وجه الأريوسية، ويوحنا الدمشقي، الذي وضع أولى المحاولات المنهجية لشرح الإيمان المسيحي بأسلوب منطقي متماسك، معتبرًا العقل خادمًا صالحًا للإيمان، لا خصمًا له.

ثم جاء العصر الوسيط، حيث ازدهر اللاهوت المدرسي في الغرب اللاتيني، وبلغ ذروته في شخص القديس توما الأكويني، الذي حاول التوفيق بين الوحي المسيحي والفلسفة الأرسطية، ووضع بناءً عقليًا متينًا للعقيدة المسيحية، جعل من “الخلاصة اللاهوتية” مرجعًا لا غنى عنه لكل دارس لعلم الكلام المسيحي.

وقد سعى الأكويني إلى بيان أن الإيمان لا يناقض العقل، بل يفوقه، وأن بعض حقائق الدين يمكن للعقل البشري أن يدركها، مثل وجود الله، في حين تبقى أسرار أخرى مثل الثالوث والتجسد رهينة للوحي الإلهي، لكنها لا تعارض المنطق، بل تتجاوزه.

ومع انطلاق حركة الإصلاح في القرن السادس عشر، برزت مدارس جديدة في علم الكلام المسيحي، تميزت بتركيزها على سلطان الكتاب المقدس وحده، ورفضها لبعض التقاليد الكنسية التي لم تجد لها سندًا كتابيًا واضحًا.

وقد قدم مارتن لوثر وجون كالفن نموذجًا جديدًا في فهم العقيدة، حيث أكدوا أن الخلاص ليس نتيجة توازن بين الإيمان والأعمال، بل هو عطية مجانية من الله تُقبل بالإيمان وحده. وقد أدى هذا التحول إلى بروز تفسيرات كلامية جديدة لقضايا مثل التبرير، والاختيار، والنعمة، والتقديس، بما يتلاءم مع الرؤية البروتستانتية للإنسان والخلاص.

ولم يكن علم الكلام المسيحي جامدًا أو متحجرًا، بل ظل يتطور ويأخذ أشكالًا جديدة مع تغير الأزمنة. ففي العصر الحديث، ومع صعود العلم والفلسفة الوضعية، أعاد اللاهوتيون التفكير في طريقة عرض العقائد المسيحية، فبرز ما يُعرف باللاهوت الدفاعي أو “الاعتذاري”، الذي يهدف إلى تقديم الإيمان المسيحي بلغة يفهمها الإنسان الحديث، المتشكك أو اللامبالي.

وهكذا أصبح علم الكلام المعاصر يسعى ليس فقط إلى إثبات صدق العقيدة، بل إلى إظهار معناها العميق وجدواها الوجودية، في ضوء الأسئلة الوجودية الكبرى التي تطرحها الحياة الإنسانية اليوم، كالمعاناة، والحرية، والموت، والرجاء.

ولا يمكن الحديث عن علم الكلام المسيحي بمعزل عن التنوع اللاهوتي الذي يميّز الطوائف المسيحية. فبينما تميل الكنيسة الكاثوليكية إلى الطابع النظامي والعقلاني في عرض الإيمان، تؤثر الكنيسة الأرثوذكسية الروحانية والرمزية، وتعتمد على تقليد الآباء والليتورجيا كأساس لشرح العقيدة، بينما تعطي الكنائس البروتستانتية الأولوية للكتاب المقدس وتفسيره الشخصي والجماعي. ورغم هذا التعدد، يجمع علم الكلام بين هذه الاتجاهات في هدفه الأسمى: توضيح الإيمان، والدفاع عنه، وتعميقه.

إن علم الكلام المسيحي، في جوهره، هو تعبير عن محاولة الإنسان المسيحي أن يعيش إيمانه بعقل مستنير، وأن يقدّم إيمانه للعالم لا كفرض خارجي، بل كحقيقة يمكن الدفاع عنها والتفكر فيها.

إنه ممارسة فكرية وروحية في آن، تستمد قوتها من الإيمان، وشرعيتها من العقل، وتطلّعها من واقع الإنسان الذي لا يكفّ عن السؤال، والبحث، والرجاء. وبينما يبقى الله سرًا يتجاوز العقل البشري، فإن محاولة فهمه، والاقتراب منه، بالكلمة والعقل، تظل من أسمى تعبيرات الإيمان الحي.