د. عماد فوزي شعيبي
من أبشع مشكلات العقل الحكم على الناس من خلال تأويل سرائر الناس.
كثيرا ما شهدنا أمثال هذا السلوك، في الحياة الاجتماعية، والسياسية، وحتى في الأوساط العلمية. وتمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بمثلها والتي يتم الاستناد إليها في توجيه الإتهامات
وينطبق على ذلك كلٌّ من:
1. انحياز قراءة الأفكار (Mind Reading Bias)
وهو أن يعتقد الفرد أنه يعرف ما يفكر به الآخرون أو ما تضمره نواياهم، دون أي دليل سلوكي أو معلومة موضوعية.
• المثال النفسي: شخص يقول “أنا متأكد أنه يكرهني” فقط لأنه لم يبتسم له، بينما قد يكون الآخر مشغولًا أو متعبًا.
• المثال الاجتماعي: موظف يظن أن مديره يريد إقصاءه لأنه لم يعلّق على تقريره، مع أن السبب قد يكون ضيق الوقت.
أمثلة واقعية:
تاريخياً: في القرن 17 اتهم غاليليو من قِبل الكنيسة بأنه “ينوي تقويض الدين”، بينما كان عمله فلكيًا بحتًا. هنا تم تأويل نواياه الفكرية لا أفعاله العلمية.
كذلك يروى في سردية تاريخية، ظنّ الخليفة العباسي المتوكل أن وزيره الفتح بن خاقان يخطط للانقلاب لمجرد قربه من الحرس، فاغتيل ظلمًا.
سياسيًا: خلال الحرب الباردة، فسّر الأمريكيون صمت السوفييت في بعض المفاوضات على أنه “خطة خفية للغزو”، بينما كان ناتجًا عن بيروقراطية وتأخر في القرار.
2. مغالطة النية مقابل السلوك (Intention vs. Behavior Fallacy)
وفيها يتم الخلط بين ما يفعله الشخص وما يُفترض أنه ينويه. أي تفسير السلوكيات الخارجية باعتبارها انعكاسًا مباشرًا لنوايا داخلية غير مرئية.
• المثال السياسي: خصم يفسر صمت زعيم سياسي على أنه مؤامرة، بينما قد يكون نتيجة حسابات أو انتظار لحظة مناسبة.
• المثال الإداري: مدير يظن أن موظفًا تأخر عن الموعد “متعمدًا” لإهانته، بينما السبب قد يكون زحمة السير.
أمثلة واقعية:
اجتماعية : الزوجة الشكاكة تفسّر نسيان زوجها لعيد ميلادها على أنه “متعمد لإيذائها”، بينما السبب الحقيقي هو ضغط العمل.
• علمية: في أبحاث الذكاء الاصطناعي، كثيرًا ما يُتهم الباحثون بأنهم “ينتجون آلات للسيطرة على البشر”، بينما هدفهم تقني بحت (تطوير كفاءة أو سرعة المعالجة).
• سياسية: في أزمة الكاريبي 1962، اعتبر كينيدي أن نصب الصواريخ في كوبا “نية لضرب واشنطن”، بينما السوفييت رأوها ردا ً دفاعًيا ضد تهديد أمريكي بتركيا.
• تاريخية فلسفية : محاكمة سقراط قامت على تأويل أنه “ينوي إفساد عقول الشباب”، رغم أن أفعاله كانت تعليمًا فلسفيًا حرًا.
3. إسقاط النوايا (Projection of Intentions)
وفيها يُسقط المرء دوافعه ونواياه الخاصة على الآخرين، فيتخيل أن الآخر يعمل بدوافع مشابهة لدوافعه.
• المثال النفسي: شخص خائن يظن دائمًا أن شريكه يخونه.
• المثال السياسي: دولة تفترض أن الدولة التي تنافسها تخطط سرًا لما كانت هي نفسها ستفعله.
4. مغالطة الشخصنة (Personalization)
وفيها يتم تفسير أحداث محايدة على أنها موجهة شخصيًا ضد الفرد أو أنها تكشف عن نوايا سلبية نحوه.
• المثال الاجتماعي: شخص يظن أن ضحك مجموعة في الجوار هو سخرية منه.
• المثال الإداري: موظف يعتقد أن أي تغيير تنظيمي سببه الرغبة في التخلص منه.
تاريخيًا: في الدولة الأموية، فُسّر الحاكم شعر جرير والهجاء السياسي على أنه “خيانة”، وتمت ملاحقته، مع أن قصائده كانت شعرية أكثر منها سياسية
أمثلة:
نفسية: الشخص الكاذب يظن دائمًا أن الآخرين يكذبون عليه مثلما يفعل!
• علمية: خلال سباق الفضاء، أسقط كل طرف (أمريكا والاتحاد السوفييتي) نواياه العسكرية على الآخر، فرأى كل إطلاق صاروخ على أنه موجه ضده.
• تاريخية: نابليون رأى أن كل تحالف أوروبي ضده “نية لاحتلال فرنسا”، رغم أن بعضها كان دفاعيًا بحتًا
5. انحياز سوء الظن (Negativity Bias in Attribution)
• التعريف: الميل لتفسير أفعال الآخرين دائمًا في أسوأ صورة ممكنة، ونسبها إلى نوايا سيئة بدلاً من الظروف الموضوعية.
• المثال الاجتماعي: جار يظن أن الآخر أغلق الباب بقوة “ليغيظه”، بينما قد يكون أُغلق بسبب تيار هواء.
• المثال السياسي: اعتقاد بعض الساسة أن كل مبادرة من طرف مناويء هي “خدعة”، حتى دون دليل.
مثال علمي: في بدايات اللقاحات، فُسرت نوايا إدوارد جينر بأنها “شريرة لتلويث البشر”، بينما كان هدفه حماية من الجدري.
أفكار فلسفية:
• حذّر إيمانويل كانط من الحكم على النوايا الداخلية لأنها “ليست معطى معرفيًّا” بل مسألة أخلاقية لا يحق لغير الشخص أن يحكم عليها.
• اعتبر غاستون باشلار أن إسقاط الداخل على الخارج يمثل “عقبة إبستمولوجية”؛ هي عقبة التداخل بين ما هو نفسي مع العلم، لأنه يمنع الرؤية العلمية الموضوعية. وهذا ما رأيناه في تجارب الخيميائيين التي كانت تريد تحويل المعادن الرخيصة إلى ذهب مما عطل تطور الكيمياء إلى أن تم الفصل بين الرغبات الشخصية البشرية وبين التجربة الموضوعية!
• نيتشه رأى أن البشر يفسرون أفعال الآخرين انطلاقًا من “إرادة القوة” لديهم، أي يُسقطون دوافعهم الخاصة على غيرهم. وكان يفسر سلوك الضعفاء على أنه محاولة انتقام من الأقوياء
أخطر مافي هذه المغالطة أن صاحبها يضع نفسه مكان الله!!! وهو وحدة من يعرف السرائر.