د. عماد فوزي شعيبي. مفكر سوري
نقصد بالرؤية النفقية، حالة هيستيرية تصيب المرء فلا يرى إلاّ ما يريد. والواقع أن هذا يصيب الأفراد والمجموعات بحالة هيستيرية جماعية أو ما يشبه عندما لا يريدون رؤية إلاّ ما في رؤوسهم وما يرضيهم ولا يريدون سماع إلا ما يرضيهم.
هذا النوع من الهيستيريا كمرض عصابي يظهر لدى الشخصيات الإيديولوجية والمتعصبة والمتعنّتة التي تعتبر ما في رأسها هو كل ما في الدنيا، فلا ترى أو تسمع غيره.
الحقيقة هي كل ما يقتنع به المرء. ولهذا لا توجد حقيقة واحدة، بل توجد حقائق.
من يظن أنه يمتلك الحقيقة مستبد وجاهل لأنه لو وجد في غير زمان وغير مكان لكانت حقيقته مختلفة، ولهذا فهو مهما دافع عن حقيقته باعتبارها حقيقة مطلقة فإنه يدافع عن حقيقة غيره التي ورثها بحكم الزمان والمكان والفرص المتاحة للمعرفة.
ولهذا يصدق توماس جيفرسون إذ يقول: إن الحقيقة تسود إذا ما سمح للناس بالاحتفاظ بآرائهم وحرية تصرفاتهم. لأن لكل حقيقته!!
فالحقيقة ليست من الحق إنما مما نتحقق منه شخصيا لذا فهي ذاتية وليست مطلقة. أفكارنا وما نتعلمه يصبحان مادة لمنعنا من التعلم لاحقا. إنها (تطبعنا) على ما نعتاد عليه فتمنعنا من التعرف على افكار جديدة. ينطبق ذلك على كل ما نتعلم وهذا أحد أسباب التطرف. فالمتطرف لا يعرف الا ما لُقن إياه وهو لا يقرأ وإذا قرأ فإنه لا يقرأ إلا في اتجاه واحد هو الاتجاه الذي يُعزز التطبيع الذي رُكب عليه رأسه
أولا: المفاهيم الجوهرية في النص
الرؤية النفقية: تعني انغلاق الإدراك على ما يُرضي الشخص أو الجماعة، مع استبعاد كل ما يخالف ذلك، وهو شكل من أشكال الهيستيريا المعرفية.
الحقيقة ليست مطلقة: فالحقيقة تُبنى على القناعة والتجربة الشخصية، لا على المطلقات، ما يجعلها نسبية وسياقية.
التطبيع المعرفي: ما نعتاده فكريا يصبح عائقا أمام إدراك جديد، وهو ما يؤدي إلى التصلب والتطرف.
أمثلة تطبيقية على “الرؤية النفقية”
سياسية
حرب العراق 2003: الإدارة الأمريكية رأت في العراق “أسلحة دمار شامل” لأنها أرادت رؤيتها، رغم غياب الأدلة. رؤية نفقية قادها إلى قرار كارثي.
إدارية
- مدير شركة يتمسك باستراتيجية قديمة رغم خسائر السوق وتغير الظروف، يرى أن “الطريقة التي نجحت في الماضي” ستنجح دوما، لأنه لا يرى إلا تجربته الخاصة. هذا ما حدث مع شركة نوكيا.
- توظيف أشخاص من نفس الخلفية دائما: رؤية نفقية مؤسساتية تمنع الابتكار وتكرّس النمطية.
نفسية واجتماعية
- شخص يؤمن بنظرية المؤامرة: لا يرى من العالم إلا ما يُثبت تلك النظرية. كل حدث تفسيره جاهز لديه، وهذا دليل على الرؤية النفقية المكتملة.
- التعصب: يرى صاحبه أنه يمتلك الحقيقة المطلقة، ولا يقبل نقاشا، لأن الحقيقة لديه مطبوعة في ذهنه بنسق مغلق.
*******************
اقتباسات فكرية وفلسفية داعمة:
- كارل بوبر: “لا يمكن تأكيد النظرية إلا إذا كان بالإمكان نفيها.” → أي أن التحقق يقتضي الشك لا الرؤية النفقية.
- هايدغر: “الإنسان كائن في العالم، ورؤيته مشروطة بوجوده فيه.” → أي الحقيقة ذاتية/وجودية، لا مطلقة.
- بودريار: “نعيش في محاكاة الحقيقة لا الحقيقة.”
*******************
للمختصين: تطبيق المنهج الكوانتي / المعرفي على المقال
المبدأ الكوانتي
اللايقين: لا وجود لحقيقة يقينية واحدة؛ كل “حقيقة” تعتمد على زاوية الرؤية وموقع المراقب كما في فيزياء الكم.
التراكب المعرفي: الإنسان قادر على احتواء أكثر من رأي أو تصور في لحظة، لكن الرؤية النفقية تُسقط هذه القدرة، وتُجبر الوعي على اتخاذ “حالة واحدة” كما لو أن قياسا أُجري وأسقط الاحتمالات الأخرى.
الانتقال من الكمون إلى الفعل، عندما يختار الإنسان فقط ما يؤمن به ويتجاهل الباقي، فهو يُسقِط الدالة الاحتمالية/ التابع الاحتمالي لرؤية متعددة إلى “رؤية نفقية واحدة”.