أحمد فرحان: أستاذ باحث جامعة ابن طفيل – القنيطرة
تابعت مناظرة عصيد ولحلو، كما تابعت التعليقات المتاحة عنها في مواقع التواصل الاجتماعي، التي طغى على أغلبها منطق البحث عن “الفارس” المنتصر، منطق “داحس وغبراء”، متناسين أن هذه المناظرة تكشف عن توتر عميق جدا في بنية التحولات القيمية التي يشهدها المغرب، تتطلب إنصاتا هادئا ونقديا للأفكار والتصورات.
في مغرب اليوم، لم تعد الأسئلة المؤجلة ممكنة. التحولات الاجتماعية تطرق الأبواب، والقيم تتزاحم في الساحات، والفرد المغربي يتأرجح بين مرجعية موروثة وحداثة جارفة.
في حوار فكري-فني لافت، التقى صوتا عصيد ولحلو، لا كخصمين في مناظرة، بل كمرآتين لقلق مجتمع بأكمله. ما الذي يكشفه صراعهما الرمزي عن المسار الذي يسير فيه المغرب؟ هذه المقالة تحاول قراءة ما وراء النقاش.. وما بعده.
يعيش المغرب اليوم مفترق طرق حقيقي. بين أمواج الحداثة وتيارات المحافظة، بين من يطالبون بتجديد المرجعيات ومن يتشبثون بثوابتها، يتردد صدى سؤال عميق: ما الذي نريد أن نكونه؟ ما الذي نريد أن نحتفظ به من ماضينا، وما الذي ينبغي أن نعيد التفكير فيه، أو نتحرر منه؟
في حوار لافت بين أحمد عصيد ومحمد طلال لحلو، برز هذا السؤال بصيغته الحية، المتوترة أحيانا، والمتكاملة أحيانا أخرى. عصيد يمثل صوتا حداثيا نقديا، لا يتردد في مساءلة الثوابت حين تصطدم بالكرامة الإنسانية. يدعو إلى مجتمع تسوده المساواة، تُحترم فيه الحريات الفردية، وتُؤوّل فيه المرجعيات الدينية في ضوء المتغيرات العميقة التي يشهدها العصر. يرى أن المرأة لا تحتاج إلى حماية “رمزية” بل إلى حقوق ملموسة، وأن الفن ليس ترفا أو تسلية بل أداة للتحرر والوعي.
في المقابل، يظهر محمد طلال لحلو مدافعا عن “القيم المحافظة على تقاليد الماضي”، خائفا من فقدان البوصلة في خضم التحولات المتسارعة. يطرح أسئلته بلهجة حريصة على استقرار المجتمع، ويرى أن التغيير إذا لم يكن من داخل الثقافة الموروثة، فإنه خطر على تماسك الجماعة. لديه هاجس واضح: كيف نحمي أبناءنا من ضياع المعنى؟ كيف نحافظ على الحدود الأخلاقية في زمن كل شيء فيه مباح باسم الفن أو الحرية؟
ليس هذا مجرد اختلاف بين وجهتي نظر مغايرتين، بل هو مرآة لصراع أعمق يعيشه المغاربة بصمت أو بصخب، في الأسرة، في المدرسة، في الشارع، وحتى في مواقع التواصل الاجتماعي. لسنا أمام صراع بين “الخير” و”الشر”، بل أمام نزاع تأويلي حول ما تعنيه القيم، وكيف تُفهم الحرية، وما حدود الفن، وما مكانة الدين في الحياة العامة.
الخطورة تكمن حين نعتقد أن أحد الطرفين يحمل الحقيقة وحده. المجتمع لا يُبنى بالإقصاء، ولا بالنوايا الطيبة وحدها. نحتاج إلى أن ننصت لبعضنا أكثر. أن نسائل مسلماتنا، لكن دون ازدراء. أن نُطالب بالحقوق، لكن دون تعال. أن ندافع عن الفن، لكن مع استحضار الحدود الممكنة في المجال الأخلاقي وليس في المجال الديني.
ربما آن الأوان لنُخرج هذا النقاش من ثنائية “تقدمي/رجعي”، “حداثي/تقليدي”، ونطرحه بشكل أكثر نضجا: كيف نصوغ حداثة في السياق المغربي، تنتمي إلى العالم دون أن تُغترب عن ذاتها؟ كيف نربط الحرية بالمسؤولية، والماضي بالمستقبل؟
المغرب لا يحتاج إلى مزيد من الصراخ، بل إلى “عقد ثقافي جديد”، يعترف بالتعدد، ويصون الكرامة، ويمنح للإنسان المغربي أفقا يتجاوز الخوف من “الغرب” والخوف من “التراث” في آن.
فحين يتحول الحوار بين اطمئنان عصيد وقلق لحلو إلى مناسبة لإعادة التفكير الجماعي، فإننا نكون قد بدأنا نخطو خطوة نحو النضج، نحو منطق “مناظرة التأملات الفكرية”، بدل منطق “مناظرة الحلبات الفكرية”.