حاورته خديجة منصور
في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها أوروبا، يبرز دور الدين كعنصر مؤثر في حياة المهاجرين وعلاقته بهويتهم الثقافية. يثير النقاش حول الدين والهجرة تحديات كبيرة فيما يتعلق بالهوية والاندماج، خاصة بالنسبة للجالية المغربية التي تسعى للحفاظ على تراثها الديني والثقافي في بيئة جديدة، بين التمسك بالهوية الأصلية والانفتاح على القيم الجديدة، يبقى السؤال مطروحا حول كيفية قدرة المهاجر على الاندماج دون التخلي عن عناصر أساسية من ثقافته.
وفي هذا السياق، ارتأى موقع “دين بريس” إجراء حوار مع الأستاذ محمد عسيلة الخبير في شؤون الهجرة لدى مؤسسات ألمانية، لتقريبنا أكثر من هذه الإشكالية وتسليط الضوء على التحديات التي يواجهها المهاجرون المغاربة في أوروبا في ما يتعلق بالهوية الدينية والثقافية. إن الموضوع يمتد ليتجاوز مجرد الحفاظ على الدين والثقافة، إذ يرتبط أيضا بكيفية التوازن بين التمسك بالخصوصية الدينية والاندماج في المجتمع الجديد.
وتتجسد العلاقة بين الدين والثقافة عند المهاجرين في مواقف يومية متعددة، مثل التربية على القيم والمناسبات الدينية والوطنية، بالإضافة إلى تمسكهم باللغة والعادات الخاصة بهم، ومع ذلك واجه المهاجرون تحديات كبيرة تتمثل في تجنب العزلة والانغلاق.
من خلال خبرته الواسعة في شؤون الهجرة، يقدم الأستاذ محمد عسيلة رؤى حول كيفية التعامل مع هذه التحديات، ويقدم نصائح هامة للاندماج بشكل إيجابي دون فقدان الهوية المغربية الدينية والثقافية:
كيف يمكن للمهاجرين المغاربة الحفاظ على هويتهم الدينية والثقافية في أوروبا دون أن يؤثر ذلك على اندماجهم؟
الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية هي أساس أي بناء إنساني تدافعي واعي و لا يتعارض البتة مع الاندماج بمفهومه الإيجابي الذي لا يصل إلى الذوبان والتحلل، إذا تم التعامل معه بطريقة متوازنة. يمكن للمهاجرين (وهنا علينا تحديد المفهوم المرتبط بالمهاجرين كفئة نستهدفها في هذا الحوار: هل نعني بهم كذلك الذي ولدوا وترعرعوا في أوروبا أو الذين هاجروا من الجيل الأول أو الذين التحقوا بأزواجهن وزوجاتهم في إطار التجمع العائلي) أقول على هذه الفئة أن تعبر عن هويتها بثقة من خلال ممارسة العادات والقيم الخاصة بهم مثل الاحتفال بالمناسبات الدينية أو العائلية، مع احترام قوانين وثقافة البلد المضيف الذي أصبح وطنا لهم بامتياز. المهم هو الانفتاح والحوار على المجتمع المحلي لتعزيز التفاهم المتبادل وخلق توازن مجتمعي داخل حراك فكري وثقافي قد أسميه “التلاقح” الجيني الفكري مع العلم أننا نعيش مرحلة الزواج المختلط بامتياز بين مغاربة وغيرهم من جنسيات مختلفة، إذ أن الهوية المغربية بحكم مرجعيتنا في الدين والتدين لا تتعارض مع القيم الأوروبية القائمة على التعددية واحترام الآخر.
ما هي التحديات التي تواجه الجالية المغربية فيما يتعلق بتربية أبنائهم على القيم المغربية داخل مجتمعات غربية؟
هناك عدة تحديات مرتبطة بفهم كل أسره لمعاني ومقامات التربية التي تزود فلذات أكبادها بها. وعليه تتجسد هذه التحديات في اختلاف الأنماط الثقافية والعقدية (بفتح العين والقاف) والنظام القيمي الضيق ولا أتحدث عن القيم الكونية الواسعة التي هي مشتركة بين بني الإنسان ككل وبين المجتمع المغربي والمجتمعات الأوروبية. على سبيل المثال، يواجه الآباء والأمهات أحياناً صعوبة في نقل القيم التقليدية مثل احترام كبار السن أو الالتزام بالواجبات العائلية وهنا لا بد من الوقوف على مفهوم احترام كبار السن والتوعية الجنسية والوعي بالذات والجسد الذي يتم تعليمه ابتداء من روض الأطفال مرورا بمرحلة الابتدائي إلى الإعدادي والثانوي. فمعنى احترام الآخر سواء إن كان من أفراد الأسرة أو غيره إذا كان مهووسا بالتحرش بالأطفال مثلا. وهنا يتم تعليم الأطفال خلق بعد (بضم الباء) بينه وبين المحيطين به، بعد صحي. وهنا يقع التعارض مع قيمة “احترام من هو أكبر منك سنا” في السياق المغربي و حماية الذات والجسد في السياق التربوي الألماني مثلا. كما أن التنشئة الدينية تحتاج إلى توجيه سليم كي لا يشعر الأطفال بالاغتراب وقد تدفعهم هذه التنشئة الغير المتزنة والبعيدة عن الوسطية والاعتدال إلى نبذ الأخر المختلف أو الارتماء في براثن التطرف. لتحقيق التوازن، من المهم أن يطور الأمهات و الآباء أساليب تربوية تتوافق مع القيم الأساسية التي يريدون غرسها مع مراعاة الحريات والقيم المجتمعية في أوروبا، وإلا سيتم خلق جيل متخاصم مع ذاته ومع قيم وطنه الأصلي والوطن الذي يعيشه وقد يقوده ذلك إلى التطرف.
هل تعتقد أن الدين يعد جزءا أساسيا من هوية المهاجرين المغاربة؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين هذا الانتماء الديني المغربي ومتطلبات المجتمع الأوروبي؟
نعم، الدين جزء مهم من الهوية الثقافية للمغاربة ورافعة ضامنة للاستقرار الروحي والنفسي والفكري، ويشكل بعداً روحياً وأخلاقياً في حياتهم. ولهذا نرى أول مؤسسة أو كيان أسسه المغاربة من الجيل الأول هو الجمعيات والنوادي والوداديات (في سبعينيات القرن الماضي) والتي تحولت من رحمها مؤسسة المساجد. وهذا وعي فطري استباقي من الأجيال الأولى لضمان ذلك الاستقرار الروحي وتحصين الهوية الدينية المغربية وحمايتها من الانحلال أو الاضمحلال أو الهون. ولتحقيق هذا التوازن الذي تسألون عنه في سؤالكم، يجب على المهاجرين عموما والمغاربة على وجه الخصوص ممارسة الدين كتجلي ثقافي تشاركي وترابذي بينهم وبين الله أولا وبينهم وبين العباد والمجتمع ثانيا في علاقة عموية/أفقية ترانسندتالية بشكل يتسم بالمرونة والاعتدال، مع احترام الاختلافات الدينية والثقافية في المجتمع الأوروبي. يمكن تحقيق هذا التوازن من خلال تعزيز التفاهم الثقافي والسماحة بلغة ابن عاشور والائتمانية بلغة الدكتور طه عبد الرحمان والجدل بلغة هيجل والتعاقد الاجتماعي بلغة روسو، والانخراط في أنشطة تعزز القيم المشتركة كالتعاون والسلام والانسجام الاجتماعي، إذ يجب أن يُنظر إلى الدين كعامل إيجابي يسهم في تعزيز الاحترام المتبادل والعيش المشترك. والله سبحانه وتعالي سطر ذلك في القرآن الكريم حين نقرأ بأن الخلق من ذكر وأنثى والجعلية في شعوبا وقبائل بعلة التعارف والجدل والحوار بالتي هي أحسن.
كيف يمكن للمهاجرين أن يتجنبوا تأثير الخطابات الشعبوية التي قد تؤدي إلى عزلهم أو شيطنتهم في المجتمعات الأوروبية؟
الوعي والمعرفة والمشاركة المجتمعية كما تسمح بها الدساتير الأوروبية لكل بلد على حدة هي المفتاح. يجب على المهاجرين أن يطلعوا على قضاياهم وأن يتجنبوا العزلة الاجتماعية، والانخراط في المجتمعات المحلية لبناء علاقات إيجابية وشراكات مدنية لخلق أو لصناعة لوبيات قوية وتقديم أنفسهم كأعضاء فاعلين ومفيدين وليس كأكباش أضحية لهذا اليمين الذي يتربص بهم أو تقمص دور الضحية ومفهوم الأقلية الدينية أو المجتمعية. من خلال المشاركة في المبادرات الاجتماعية والثقافية، يمكنهم كسر الصور النمطية وتعزيز الحوار، مما يسهم في تقليل تأثير الخطابات السلبية. كما أن دور الإعلام والمجتمع المدني مهم في نقل صورة حقيقية ومتوازنة للمهاجرين.
ما هي الخطوات التي يمكن أن تتخذ لتشجيع الاندماج الإيجابي للمهاجرين المغاربة في أوروبا مع احترام خصوصياتهم الثقافية والدينية؟ وأين تتجلى إسهامات مجلس الجالية في هذا الجانب؟
الخطوات لتشجيع الاندماج الإيجابي للمهاجرين المغاربة في أوروبا مع احترام خصوصياتهم الثقافية والدينية:
في اعتقادي يجب على المؤسسات والجهات المعنية توفير برامج تعليمية وإرشادية تساهم في تعريف المهاجرين المغاربة بالقوانين والقيم المجتمعية في أوروبا، مع العمل على تعزيز ارتباطهم بثقافتهم وهويتهم الأصلية. هذه البرامج يمكن أن تشمل دورات حول حقوق وواجبات المهاجرين، وقوانين العمل، وتعزيز الفهم المتبادل بين المغاربة والمجتمعات الأوروبية. كذلك، من الضروري توفير الدعم النفسي والاجتماعي لتسهيل عملية التكيف والاندماج، دون أن يكون ذلك على حساب الهوية الثقافية والدينية.
أما مجلس الجالية المغربية بالخارج، فهو يضطلع بدور أساسي في هذا الجانب من خلال دوره كقوة اقتراحية وتوجيهية، كما أكد على ذلك جلالة الملك محمد السادس، حفظه الله، في خطابه السامي بمناسبة الذكرى 49 للمسيرة الخضراء المظفرة. فقد سلط جلالته الضوء على ضرورة تطوير عمل المجلس ليكون أكثر فعالية في تلبية تطلعات المغاربة المقيمين بالخارج، وليصبح أداة قوية للمساهمة في توجيه السياسات المتعلقة بهم. ودعا جلالته نصوه الله وأيده المجلس إلى الاضطلاع بدور فعّال في اقتراح الحلول والمبادرات التي تسهم في تعزيز انخراط الجالية المغربية في مجتمعاتها الجديدة، مع الحفاظ على روابطها الثقافية والدينية بوطنها الأم.
من بين المقترحات التي يمكن أن يقدمها مجلس الجالية لتعزيز الاندماج الإيجابي للمغاربة في أوروبا، على سبيل المثال لا الحصر:
– توفير برامج دعم تعليمي لأبناء الجالية، تتضمن دروسًا في اللغة العربية و الحضارة والتاريخ المغربي، مما يساعد على تعزيز الارتباط بالوطن، ويعزز شعورهم بالفخر بالانتماء إلى جذورهم.
– تنظيم أوراش عمل حول التحديات الثقافية تمكن أن تساعد أفراد الجالية، خاصة الجيل الثاني والثالث، على مواجهة التحديات التي قد تعترضهم فيما يخص التوفيق بين ثقافتهم المغربية والثقافة الأوروبية.
– دعم الأنشطة الثقافية والدينية المساعدة في تنظيم الفعاليات الثقافية والدينية، مثل الاحتفالات بالأعياد المغربية والدروس الدينية، على تعزيز الهوية المغربية في بيئة أوروبية، ويمنح المغاربة فرصة للتفاعل الإيجابي مع المجتمعات المحلية مع دعم المساجد والسادة الأئمة المغاربة بتكوينات وحلقات تكوينية تدعم كفاءاتهم وتقوم بتحصينهم ضد أي اختراق ديني أو أيديولوجي في ظل دخول اللاجئين وسعي بعض الدول من الشرق اقتحام مساجدنا وخطابنا الديني.
– إنشاء منصات تواصل بين المغاربة وبلدهم الأم من خلال دعم وسائل التواصل الاجتماعي، وتنظيم المؤتمرات والندوات، يمكن للمغاربة في الخارج البقاء على اتصال مباشر ومستمر مع وطنهم، ومعرفة المستجدات والقضايا الوطنية، مما يعزز ارتباطهم الروحي والثقافي بالمغرب.
وبهذا، فإن مجلس الجالية المغربية بالخارج والمؤسسة المحمدية للمغاربة المقيمين بالخارج يمكن أن يلعبا دوراً محورياً في تحقيق توازن بين الاندماج الإيجابي في المجتمعات الأوروبية وبين الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية للمغاربة وصيانة هذا الرأسمال الإنساني المغربي عبر القارات.
ــــــــــــــ
نبذة:
محمد عسيلة، خبير في شؤون الهجرة والاندماج بألمانيا
أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للوظيفة العمومية والشرطة
أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية
أستاذ اللغة العربية والدين الإسلامي باللغة الألمانية
فاعل جمعوي ورئيس جمعية العائلة المغربية التي تأسست منذ حوالي 25 سنة وتضم أكثر من 240 أسرة مغربية
مسؤول قسم تكوين الأساتذة بوزارة التعليم العالي الولائية، بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21228