25 مايو 2025 / 19:13

عز العرب بناني: هل القضاء أكثر رحمة من المجتمع؟

هل القضاء أكثر رحمة من المجتمع؟

 

نختلف بقوة فيما بيننا في الحكم على فعالية القضاء وعلى صورة العدالة في أذهاننا. قد ننتقل من متابعة الطلبة إلى استنتاج أن المحاكمات غير مشروعة و بعواقب وخيمة عليهم؛ لا تختلف المتابعة آنذاك عن الإدانة؛ هذه صورة سلبية اكتسبها القضاء لدى شريحة اجتماعية هامة، في المقابل، نجد صورة معاكسة تماما عندما ننتقل إلى أطراف اجتماعية أخرى، قد نتساءل لماذا نمتّع المجرمين بالسراح المؤقت، لماذا تعتقل الشرطة المجرمين ويطلق القضاء سراحهم، ويقول آخرون لماذا لم تقم العدالة بمتابعة الجناة الذين لا يكترثون بروائحهم الكريهة ولا بالشبهات التي تحوم حولهم؛ يظلُّ الناس حيارى بين تلكؤ القضاء في محاربة الفساد وبين مسارعة القضاء بصورة مفاجئة إلى متابعة أشخاص بعينهم وإلى التكييف الجنائي لوقائع تهُمُّ عورات الناس وهيبة المؤسسات والمسّ بقرينة البراءة.
كان القضاء عرضة هذه الأحكام المسبقة والآراء المتناقضة على الدوام، وهو يعلم ذلك من داخل القضاء وبين المهنيين أنفسهم؛ وقد يصيبون ويخطئون، ويلجئون إلى الاستئناف والنقض، وقد يلجئون إلى القضاء الدولي، ما دام يوجد طرفٌ واحدٌ على الأقل يحسُّ بعدم الإنصاف، أو قل بإصدار أحكام ظالمة. هكذا تظلُّ كلُّ الأحكام من حيث المبدأ غير نهائية.
هذا شأن العدالة البشريّة، لا يرضى المحكوم عليه بأحكامها.
عيوب العدالة الأرضية كثيرة، لكننا لا نملك غيرها. وقد تكون أكثر رحمة من أحكام المجتمع.

هل يرحم المجتمع من وقع فريسة بين يديه؟

يتبع القضاء مسطرة محدّدةً في فتح التحقيق والقيام بالبحث التمهيدي وصولا إلى توجيه التهمة والشروع في المحاكمات. يُميّز القضاء ومن يملك الصفة الضبطيّة بين القضايا البروتوكولية وقضايا الميتافيزيقا. يدخل كلُّ ما يدور حول الوقائع من شائعات وعلامات وأشكال الاستنكار في باب الميتافيزيقا، أي في باب أحكام القيمة التي لا تحيل على معطيات ثابتة. أفترض أنَّ رودولف كارناب قد استوحى مصطلح القضايا البروتوكولية Protokolsätze من المسطرة الجنائية في النمسا بين الحربين العالميّتين. وأفترض ذلك بقوّةٍ لأنَّ مفردة بروتوكول التي دخلت العربية تعني محاضر الشرطة. تسجل المحاضر الرسمية الوقائع الثابتة وهي تختلف عن قضايا الميتفيزيقا، لأنَّ هذه القضايا لا تقبل التحقُّقَ وقد نناقشها عمرًا كاملًا دون أن نصل فيها إلى نتيجة؛ يميل الجمهور العريض بقوة إلى هذر وقته الثمين في مناقشات لا متناهية للوصول إلى أحكام لا تقبل البت ولا تنبني على معايير مضبوطة لفضّ النزاعات؛ في المقابل، يظلُّ التّحقيق مقيَّدًا بالوقائع الثابتة، وهي المعطيات التي تسمح بترتيب الجزاءات بعد تكييفها وتقييمها وإثبات المسؤوليات قبل إصدار الأحكام العادلة والمنصفة. يظلُّ القضاء حريصًا على مراعاة مبدأ أخلاقي جوهري، وهو عدم إدانة بريء والحكم على الجاني بما يتناسب على جنايته.
يواجه القضاء تحدٍّيًا كبيرًا، حين يحكم المجتمع على الناس قبل أن يحكم القضاء عليه.

عندما يُدين المجتمع شخصًا ما أو فئةً أو نخبة اجتماعية أو ثقافيّةً تؤدّي الإدانة إلى الإعدام الاجتماعي قبل الإعدام القضائي؛ وينتقل المجتمع من إدانة فرد واحد إلى إدانة كلّ شركاء الفرد، ومن يمُتُّ له بصلة وإلى التشكيك في المؤسسّات ذاتها.
تصبح التّهمة مثل مرض الجذام الذي يخشى كلّ واحد من أن يصاب به؛ وقد يدفع هلع الجماعة وشعور الرّعب الذي يتسلل إلى النفوس أيّ منتسب من قريب أو بعيد إلى محيط التهمة إلى إنكار أية علاقة له بالقضية، فيغلق على نفسه النوافذ والأبواب ويبحث عن طوق النجاة بكل السبل.
هذا جزءٌ من صيرورة الإعدام الاجتماعي التي تلحق الأفراد والمؤسسات والتخصصات والأقارب والمعارف والزبائن، وهو مرض الطاعون الذي يقضي على عائلات بكاملها ويؤدّي إلى التشكيك في المؤسسّات وإلى زوال هيبتها.
لا نفرّق آنذاك بين التحقيق والإدانة ولا بين توجيه التهمة والوصم الاجتماعي. ويتحقق العقاب قبل العقاب ويستمر الوصم بعد البراءة.

المفارقة هي أن المجتمع الذي يعاقب قبل العقاب أو قبل اندلاع الفضائح، هو نفسُهُ الذي يخشى اندلاع الفضائح، ما دامت الشّكوك لم تتحول إلى اتهامات مباشرة؛ يخاف المجتمع من هول الفضائح ومن أن تؤدّي إلى التشكيك في الأفراد والمؤسسات والتخصصات والأقارب والمعارف. قد يكون حكم القضاء أرحم من حكم المجتمع، لأنّ عمله ينحصر في مواجهة الجريمة والوقاية منها.

أكبر تحدٍّ يواجه القضاء هو أن يلتزم الحدود التي وضعها كارناب بين القضايا البروتوكولية وقضايا الميتافيزيقا. لا تختلف هذه القضايا عن سائر المخاوف غير المقبولة حين يتزامن اندلاع الفضائح مع وجود تآمر مقصود على الأفراد وعلى المؤسسات ومع وجود مستفيدين من عمليات التشهير والاتهامات الكاذبة والمسّ من هيبة المؤسّسات.
عزالعرب لحكيم بناني