كريم محمد
مترجم وباحث مصري
لطالما شغلني نموذج الشيخ عبد الله رشدي، وما يعنيه هذا المثال من داخل التقليد الإسلاميّ، وأي مكان يمكن أن نردّ إليه الوضعيّة الاعتباريّة التي يتمتع بها رشدي وفقًا لما استقرّ عليه التقليد الإسلاميّ بتنوّعاته العُلمائيّة، وبالتالي كيف يعمل ويتحرّك رشدي في فضاء عام للسوشيال ميديا؛ فضاء هو، في نهاية المطاف، علمانيّ وليس بدينيّ، وإنّما هو فضاء لذوات شتى لا يجمعهم شيء سوى إمكان تقنيّ للدخول إلى هذه الفضاءات.
يمارس الشيخ عبد الله رشدي تأثيره المعتاد منذ بزوغه كشيخ شابّ باعتباره معاديًا للعلمانيّة (محاوراته مع إسلام البحيري) متوسلًا بوسائلها لمعادتها؛ فهو ابن وفيّ لتقليد ثنائيّ يرى في الحداثة «أدوات» و«أفكارًا»؛ يأخذ بالأدوات ويتوسّلها، ويرفض الأفكار وينكرها، باعتبار أنّ الأفكار ناجمة عن أفكار ورؤى لا-إسلاميّة. وهي الفكرة الإصلاحيّة منذ بدايات القرن العشرين التي رسّخها مفكرون عرب ومصلحون عن العصر الحديث، وكيف يمكن للذات المسلمة أن تتعامل معه.
يتموضع الشيخ رشدي على ثغور لم يقف عليها أسلافه، ألا وهي ثغور محاربة العلمانيّة والتغريب لكن في الفضاء التقنيّ، لذلك فحينما كان الدينيون من أمثاله في العقود السالفة يكتبون ويديجون الكتب ضد العلمانيّة والحداثة؛ فإن رشدي على خلافهم في قطيعة تامّة مع الكتابة؛ إنّه شيخ تقنيّ، حيويّ، يضطلع بصناعة فيديوهات على الفيسبوك، ويتابع التريند، ويعلّق، وكأنه لا يفارق حالة «الأون لاين» طوال اليوم، وبالتالي يخرج معلقًا على كلّ قضيّة مجتمعيّة مثارة على فضاء التواصل الاجتماعيّ مصحوبًا بنبرة «رجوليّة» لهيئة شيخ منافح، ضد الإسلام «الناعم» وضد النسويّة وكلّ ما هو شبابيّ لا-إسلاميّ وإن كان هو -شكلًا- لا يختلف كثيرًا من حيث الهيئة والاهتمام بالمظهر عمن ينتقدهم في واقع الحال.
ما هو موقع الشيخ عبد الله رشديّ، من داخل التقليد الإسلاميّ؟ هل هو مفتٍ، وبالتالي هو عالم، له من القضاء والفقه والديانة نصيب يؤهله، أم هو طالب علم بالمعنى الذي منحه أهل هذا التقليد الإسلاميّ لطالب العلم، أم هو متمذهب، أم شيخ ترينديّ؟
في الواقع، لا يمكن بحال أن نجد تصنيفًا داخل التقليد الإسلاميّ يمكننا أن نردّ إليه الشيخ رشدي، وعليه؛ فهو إن تعاطيت معه من داخل التقليد لا يمكنك أن تفهم نموذجه تمام الفهم، لأنّه، بوعي أو دون وعي، خارج عن التقليد الإسلاميّ الذي يدافع عنه. للمفارقة، فإن الشيخ رشدي يتقاسم فضاءً «علمانيًّا» من الرؤى والأفكار التي يأخذها على التغريبيين والنسويين، من حيث هو لا يفتي بالمعهود التقليديّ للفتوى، بل ينخرط في التريند ويحاول محاكمته لما هو إسلاميّ. والشيخ رشدي وهو يقوم بذلك إنّما يترجم ما هو إسلاميّ إلى أداة عقابيّة وتقنيّة ضدّ من يسمهم بمحاربي الشريعة؛ إنّه كالإسلاميين تمامًا، في الوقت الذي يطبقون فيه أفكارهم، إنّما يقطعون مع التراث والتقليد الذي يدعون أنهم أبناؤه وسلالته «الطبيعيّة». لطالما كان تحويل الفتوى إلى أداة عقابيًّا منزعًا علمانيًّا حديثًا، بمبعدة عن الطبيعة الاجتماعيّة للفتوى في التقليد.
يحوّل رشدي الفتوى إلى تقنية، مازجًا بها ذكوريّة صريحة، وعقابيّة، ضد مستخدمين اجتماعيين لوسائل التواصل الاجتماعيّ، محاولًا ألّا ينظر في اللاعدالة التي تهيكل المجتمع الحديث، وموقع الذكر والمرأة داخل اللاعدالة هذه، ليخلص إلى فتاوى وتعليقات «ترينديّة» تؤدي بفعل جهوده وجهود غيره في هذا الصدد إلى مساعي الكثيرين للبحث عن «ما قاله الله في هذا الشأن» وليس ما «فهمه» وأوّله العلماء؛ وبالتالي فهو يفصل الناس -جماهير السوشيال ميديا- عن تراثهم الحيّ وتقاليدهم ليذهبوا مباشرة بشكوكيّة إلى ما يقوله الله في المسألة، وليس إلى التنوعيّة العُلمائيّة في الفتوى التي امتاز بها التقليد الإسلاميّ.
لا يخبط الشيخ الرشديّ خبط عشواء بطبيعة الحال، فهو يعرف ما يفعل، لكنه ليس يعرف ما يحكم «قواعد فعلِه» بالمعنى الاجتماعيّ، ومن ثمّ فهو يحاول أن «يجسّد» تقنيًّا لفكرة شيخ ترينديّ ومواكب لآخر صيحات التريندات، وكأنّه بعيد عنها، ويحكم عليها من موقع أعلى، يظنّ أنه بذلك يردّ الأمور إلى جادتها؛ في حين أنّه لا يمارس الإفتاء، وليس عالمًا بمعنى التقليد الإسلاميّ للعالم. إنّه إفراز مصبوغ بكلّ تلوينات جروح التقنية.
يكتسب الشيخ رشدي جمهوره العريض من رجال غاضبين ونساء أكثر غضبًا، يجدون أنهم في واقع الحال قد بدأوا يفقدون بعض الامتيازات الاجتماعيّة، ويحرّكهم جميعًا بصورة أو بأخرى موقفٌ معادٍ للموقع الذي تحاول نساء ونسويّات وحركات اجتماعيّة أن تحتله. لا أقول بالظبع إنهم ذكوريون، لكنّهم فئة غاضبة، وجدت في فتاوى الشيخ التريندي ما بعد الحداثيّ المعادية للنسويّة مكانًا ووجاهة يمكن أن يستندوا إليها لتفريغ طاقة من الغضب ضد الجميع وضد اللا أحد في فضاء علمانيّ للجميع دفاعًا عن تقليد إسلاميّ لا الشيخ الترينديّ عبد الله رشدي يمثّله ولا هم. إنهم، بشيخهم، في كفة تحاول أن تعادل فئة هم صورة أخرى لبعضهم بعضًا يمثّلها المثقف العلمانيّ وكاتب الروايات إبراهيم عيسى، على سبيل المثال.
وبالأخير، لا يمكن فهم مثال الشيخ رشدي إذا فهمناه كـ«شيخ»، عالم، وبالتالي نحكم عليه مما تقوله الكتب والمذاهب، بل هو حالة فريدة من تطوّر سرديّة بدأت منذ بدايات القرن العشرين من المصلحين العرب ممّن جرحتهم الحداثة، ولم يجدوا دواء، فراحوا يرفعون شعار الدفاع عن التقليد الإسلاميّ ضد الحداثة، بينما لبسوا أزياء حداثيّة لتداري جراحهم التي لم تفعل تلك الملابس الأنيقة سوى كشف جراحهم وإبرازها للعيان أكثر فأكثر.
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك: https://www.facebook.com/kareem.mohmmed92