6 يونيو 2025 / 10:26

عبد الله إبراهيم: عن الأسلوب ينبغي أن أتكلم

عبد الله إبراهيم

عن الأسلوب في كتابة (موسوعة السرد العربي) يلزمني التريّث لأصف علاقتي بألفاظ اللغة العربيّة، وطريقة استخدامها في التعبير عن أفكاري. لم يكن لديّ أسلوب اعتمده في بداية أمري، ولم أنتبه إلى أهمّية الأسلوب إلّا بعد أن شرعت في إعداد أطاريحي الجامعيّة.

في البدء، إبان الدراسة الثانويّة، كنت أشبه ما أكُون بشويعر مشّاء يتباهي بالمحاكاة، ويغترف جمله الشعريّة من خليط مضطرب من أقوال الشعراء المحدثين، وعلى ذاك المنوال انقلبت من الشعر إلى القصّة القصيرة، وزادي إنشاء ركيك أزعم أنّني به سوف أبني معمارًا سرديًّا لا نظير له. مؤونتي شحيحة، وقليلة الدسم، قوامها تراكيب جاهزة وفدت إليّ من فيض الأشعار والقصص والروايات الذي خلب لبّي في صباي وشبابي، عثرت على بعضه بالمصادفة، ووردني بعضه بإيعاز من الآخرين.

لا أستهجن حكمًا على تلك المرحلة يُقرّر أنّها متخبّطة، فتلك حقيقةُ حالها، ولا يُراد منّي تهذيبها الآن، وإسباغها بثناء ليس فيها؛ فقد كنت أنهل من الآداب العكرة كحاطب ليل، ولا أعدم أن أرتشف قطرات صافية، وأعوزني التفريق بين أصناف الأدب من ناحية الجودة والرداءة، فتلك مرحلة تأخّرت إلى أن انغمست مع جماعة كركوك الثانية خلال دراستي الثانوية، وهي التي هذّبت طباعي الأدبيّة، وأحدثت نقلة في حياتي حينما أرغمتني على أن أكُون كائنًا ثقافيًّا، وعن ذلك تحدّثت طويلًا في سيرتي الذاتيّة “أمواج”.

يصعب اختطاط طريق مميّز في القول الأدبيّ، طريق ممهّد لا يتعثّر فيه القارئ، فيقلّب صفحات الكتاب متعجّلًا، أو يرميه وراء ظهره متأسّفًا على الوقت الذي أمضاه في التعثّر بأفكار كدرة، وخلال دراستي الجامعيّة لامست، أوّل مرّة، الأساليب العربيّة النثريّة، وليس لي بها إلّا معرفة ضئيلة، فقد غمرتني، قبل ذلك، الآداب المترجمة، وهي تتراوح في أساليبها بين فصاحة القول أو ركّته، فقد عايشت آخر مراحل الترجمة شبه المرتجلة للنصوص الأدبيّة، ولم تكن أعراف الترجمة الدقيقة شاعت بين المترجمين، فتجمّعت حصيلتي اللغويّة من معرّبات ملخّصة أو مشذّبة، وندر أن كانت كاملة، وما كنت على دراية بذلك، وما حذّرني منه أحد، وما تنبّهت إلى ضرورة الاعتناء بأسلوب التعبير اعتناء يعصمني من السقوط في ما لا أعرف من دقّة التركيب، ويُجنِّبني خلط الأفكار، ويذهب بي إلى الدقّة.

ولعلّي أتذكّر، الآن، وصية رافقتني زمنّا طويلّا للشاعر الفرنسيّ “فاليري” يقول فيها “أوصيك بالدقّة لا بالوضوح”. عبارة ردّدتها من غير سؤال عن فحواها، وكأنّ الدقة تُخالف الوضوح، وكأنّهما على طرفي نقيض في وظيفتهما التعبيريّة. وبقيت على حال من الفوضى إلى أن التحقت بالدراسات العليا في جامعة بغداد حيث فطنتُ للأمر، وعاهدتُ نفسي على بذل قصاري همّتي لكي أتجاوز ذلك.

غير أنّ المطلب عسير، وليس بالرغبة تتحقّق المعجزات، وإلى ذلك طرأ أمر لم يكن في واردي؛ فالكتابة النقديّة غير الشعريّة والسرديّة، ومن شروطها اجتناب الغموض، وتفادي الإبهام، وتحاشي الالتباس بانتقاء الألفاظ الرشيقة، وتقطيع الفكرة الكبيرة إلى فِكر صغيرة، ويستحسن التعبير عنها بجمل قصيرة، ولم أُدرك هذا إلّا بعد لأي، ولم أتمكّن من بعضه إلى الآن. وظنّي أنّه كشْف شخصيّ توصّلت إليه بالمراجعة والتدقيق، ولم يحرّضني أحد على الاهتمام به، فغيابه عنّي نوع من عدم الاستدلال عليه.

بالتحاقي بالدراسات العليا في عام 1985، تذبذبت قراءاتي بين مصادر فكريّة ونقديّة حديثة وقديمة، وبين نصوص روائيّة لا تتوفّر على شروط الفصاحة، وتغيب عن أكثرها أعراف التعبير الصحيح. ومن سوء طالعي أنّ الروايات الخمسين التي اخترتها موضوعًا لأطروحة الماجستير، كانت غثّة الأسلوب، وشبه سقيمة، كتب معظمها هواة سرد مجاراة للمناخ الذي فرضته الحرب، ومسايرة لمقتضياتها، وبدوري لم أكترث بأسلوبها، وأعرضت عنه، وتولّيت أمر مبانيها السرديّة، وما كنت لأخرج بشيء ذي بال لو صرفت نفسي لذاك، وما تنبّهت إلى خطأ الاستخفاف بالأسلوب إلى أن شرعت في كتابة أطروحة الدكتوراه.

ليس الأسلوب ابنًا لقيطًا لا يعرف أصله وفصله، بل هو وليد الجهد والمثابرة، وهو طريقة في التعبير عن الأشياء وهي تترعرع، ويطول بها زمان النمو، قبل أن يستقيم أمرها، وتستوفي شروطها، وينتهي أمرها بأن تُصبح ميسورة في التعبير عن العالم؛ لأنّ صاحبها قد عهدها، وصارت طوع بنانه، فلا تستعصي عليه، ولا تتأبّى حينما يحتاج إليها، وإنّما تعرض حالها عليه طوعًا، وأحيانًا بجهد يسير، وهو ما انتهى أمري إليه في كتبي المتأخّرة.

فيما كنت أعدّ العدّة للدكتوراه، وأتجهّز لها بالقراءة، وجمع المصادر، وتلخيص ما أراه مفيدًا لي، بهتُّ بمتانة أسلوب القدماء، وتحيّرت في قوّته، وكان أغلبهم خارج مدار اهتمامي من قبل، فإذا بي أُفاجأ بهم، وأُباغت بما لم أحسب له حسابًا. وجدتني في منطقة لا أكاد أعرفها، ولم أتبيّن ملامحها، ويبدو أنّ كبوتي كانت طويلة، فأفقتُ منها، وقد استجدّ لديّ وازع أصيل في استيعاب تلك الأساليب المتينة.

جاء الأمر في وقته، ولو لم يحدث لبقيت جاهلًا به. عهدت في دراستي الجامعيّة أسلوب الجاحظ وأضرابه من كتّاب النثر، وواصلته مع أسلوب طه حسين الذي تولّهت به، ولكنّني رُميتُ الآن في منطقة وعرة، وشاقّة، فتمنّع عليّ، في أوّل الأمر الغزالي، وابن الصلاح، وأبو الحسين البصري، والقاضي عبد الجبار، والباقلّاني، والبيروني، والرّازي، والكرماني، غير أنّني صبرت، ثمّ ظفرت.

ومع كبار الإخباريّين والمؤرّخين، من أمثال ابن إسحاق، والطّبري، والمسعودي، وابن الأثير، وابن خلدون، ومجايليهم من الأدباء من أمثال الأصفهاني، والثعالبي، والأبشيهي، والنّويري، لم أتعثّر، كما خشيت، فأساليبهم، بمجملها، واضحة، ولكنّها صارمة، أمّا المتون الأدبيّة التي عملت عليها، فمتباينة من ركاكة التعبير في المرويات السيريّة والخرافيّة التي دوّنت عن أصول شفهيّة، إلى وقار كتب التراجم والطبقات عند الخطيب البغدادي، وابن أبي أصيبعة، وابن خلّكان، وياقوت الحموي، إلى ما صحّ نعته بالطلاسم التي انتهى إليها الحريري، وابن الصيقل الجزري، والشريشي في المقامات، وأبي العلاء المعرّي في رسائله النثريّة، ومن بين هؤلاء وأولئك كان يُطربني ابن المقفّع، والتوحيدي، وابن طفيل، وبديع الزمان، والتنوخي، فإليهم كنت شديد الإصغاء، يغمرني ارتياح، ويغزوني طرب. وفي ظلّ ذاك المزيج من المؤثِّرات التي انحدرت إليّ من مؤلّفات القدماء بدأ أسلوبي يستقيم، ويتّخذ طابع الدقّة في التركيب، والرفعة في التأليف.

ولكن ليس كلّ ما يتمنّى المرء يُدركه، فعلى غير التركيب الساطع الذي وجدته في كثير من المؤلّفات القديمة، وتآلفت معه في درجات متباينة من التناغم الذي بدأ بالامتعاض وانتهى بالشغف، تسلّل إليّ، في تلك المرحلة من حياتي، المؤثّران النقديّ والفلسفيّ، وكلاهما غربيّ النشأة والسياق، فخلخل المؤثّر النقديّ الانسياب الذي قصدت الأخذ به في أسلوب الكتابة.

يجوز لي القول، على وجه التقريب، بأنّ معظم الترجمات النقديّة الجديدة جاءت برطانة صريحة لما شاب معظمها من ضروب الالتباس، والاشتباه، والاختلاط. أدرج في هذا الحكم كثيرًا من الآثار التي تُرجمت عن الأصول الفرنسيّة لبارت، وغريماس، وجينيت، وتودروف، وكرستيفا، أو عن الفرنسيّة بوصفها لغة وسيطة مثل أعمال باختين، وبروب، وياكوبسن.

وإلى تلك الترجمات التي لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل أولى ملامح الوعي النقديّ الجديد أعزو تفشّي الإبهام في الكتابة النقديّة العربيّة. ولم ألبث أن زدت الطين بلّة، حينما غصت في المتون الفلسفيّة من محاورات أفلاطون، ومؤلّفات أرسطو، وتأمّلات أفلوطين، مرورًا بديكارت، وسبينوزا، وليبنتز، وصولًا الى كانْت، وهيغل، وماركس، وهيدغر، وبين حقبة وحقبة من هؤلاء عرض لي عشرات غيرهم مثل: أوغسطين، والأكويني، وباركلي، وبرغسون، وبوبر، وغادمير، وغارودي، وهابرماز، ودريدا، وقد حظي معظم هؤلاء بتحليل موسّع في كتابي “المركزية الغربيّة”.

لست مخوّلًا للتعليق على ترجمة الآثار الفلسفيّة الغربيّة إلى العربيّة، فأصولها مجهولة لديّ، ولكن غزاني تأثيرها من حيث أُريد أو لا أُريد: غزتني الأفكار المركّبة، والجمل الطويلة، والعبارات الاعتراضيّة، والتأويلات المعمّقة، والمفاهيم المعقّدة التي كنت ألوذ بمعاجم “لالاند” لفكّ ألغازها، وقد استغرقت بعض الفقرات التي دوّنتها في كتابي “المركزية الغربيّة” صفحة أو زادت عليها في غير مرّة، ولا يخفى الالتواء فيها من ناحية التفكير، ولا الاعوجاج من جانب التعبير؛ فأصبح أسلوبي عويصًا، وبلغني أمر صعوبته، وامتناع بعضه عن الفهم، فكان أن شغلت بالمراجعة والمعاودة.

لم أستأصل أيّا من التأثيرات التي وفدت إليّ، بل بدأت أُعيد النظر فيها، وأميل إلى متانة الأسلوب العربيّ القديم، ولكن ليس بصيغه الجاهزة المتوارثة، بل في تنوّعه، وثراء معجمه، ودقّته الوافية في التعبير عن المقاصد، وأسعفني التحرير، وإعادة النظر بالفقرات جملة إثر جملة في تهذيب الأسلوب، وتيسيره بما لا يُخلّ بشروط التعبير عمّا أُريد من أفكار.

وأحسب أن شيئًا من ذلك تجسّد في الموسوعة، فهي تنهض دليلًا على كلّ ما قلت؛ لأنّ كتابة أجزائها تزامنت مع التحوّلات الأسلوبيّة التي ذكرتها، ومداومتي على التحرير محتْ التفاوتات الأسلوبيّة بين جزء وجزء، وإن كنت لا أعدم وجود ظلال لها بين هذا وذاك تُؤكِّد ارتهاني لتلك المؤثّرات.

الأسلوب الجيّد هو رداء الأفكار، فبه يقع التعبير عنها، وقد اتّخذت موضوعًا واضحًا، ولكن لا يجوز إرغام الموضوع على اتّخاذ أسلوب خاصّ به؛ فالأسلوب ينبثق من صلب الموضوع، وهو كالنسغ في الخليّة الحيّة، يتغذّى منها، ويُغذّيها، فكأنّ الموضوع هو الذي يقترح أسلوبه، فلا ينتقي الكاتب الألفاظ التي ستُشكّل قوام أسلوبه، لأنّ الأسلوب يتلبّس الكاتب وموضوعه بمرور الزمان، وتظهر ملامحه بالرعاية المتواصلة، ولا يكتسب شرعيته إلّا حينما يخلع على الموضوع سمته المميّزة.

على أنّني، بعد أن خلعت عن كاهلي عِذار الموسوعة (استغرق العمل عليها ربع قرن)، التي بمقدار متعتي في معايشتها الطويلة كانت عبئًا لازمني في حلّي وترحالي؛ فلقد تآلفنا، وتوافقنا، وتبادلنا السهر والأرق، ولكنّ شدّة القرب حجاب، كما روي عن ابن عربي، فلا بدّ من وضع الحمل، وطلب الراحة التي طال انتظارها، والانصراف إلى غيرها. حدث ذلك بعد أن صدرت الموسوعة بنشرتها الوافية في تسعة أجزاء في عام2016، وخلتني سوف أذهب إلى الكتابة الذاتيّة، إلى تدوين الأسفار الطويلة التي خضتها، وأخذت مكانها في يومياتي عن كثير من بلاد العالم، مادّة خام لا يصحّ طمرها في يوميات قد لا ترى النور في يوم ما.

وفيما بدأت أعدّ العدّة لذلك، تغيّر قراري، فرحت ألمّ شتات الينابيع التي وردتُ منها طوال عمري، وما وجدت لها مكانًا في مؤلّفاتي، فذهبت إلى حقل بكر، إلى ثقافة ذوي البصائر، العميان الذين هم جماعة تواصليّة من هوميروس إلى بورخيس في كتاب “عين الشمس”، ثمّ عكفت على تقديم خلاصة لما رأيت من الأعراف المجيدة لكتابة الرواية، فأصدرت كتاب “أعراف الكتابة السرديّة”، ثمّ عرّجت على إشباع قضيّة تطوّرت معي عبر الزمان، ولم تجد لها محلًّا مناسبًا في ما كتبت إلّا بما تطرّقت إليه في قضية التمثيل السرديّ، قصدتُ بذلك، السرد بوصفه أرشيفًا مجازيًّا للأحلام والعنف والسخرية. وأصدرته بكتاب “الأرشيف السرديّ”.

وفي الثلاثة من كتبي تلك لم أهتمّ بأساليب الكتابة التي غابت عنّي لانشغالي بالأبنية السرديّة والدلاليّة للنصوص الأدبيّة، فحسب، بل، جوّدت أسلوبي الذي غزاه الإيقاع، وغمرته المرادفات اللفظيّة، وأمسى خفيفًا على النفس، وقد جرّدته عمّا تتعثّر به الأفكار والمشاعر، فتراوح بين شدّة التحليل والتأويل، وانفراج التوضيح والتعليق، وغزته طبقات من التنويع اللفظيّ والمجازيّ، وتحلّل من صرامة التركيب القديم، وهجر كلّ غريب.

رابط صفحة الكاتب على منصة فيسبوك: https://www.facebook.com/abdullah.ibrahim.73932