30 أكتوبر 2025 / 21:39

عالمات وفقيهات مغربيات في خدمة الخصوصية الدينية المغربية

الشيخ الصادق العثماني ـ أمين عام رابطة علماء المسلمين بأمريكا اللاتينية
منذ القرون الأولى لنشأة الدولة المغربية، لم يكن حضور المرأة في الحقل الديني حضورًا هامشيًا أو عابرًا؛ بل كان راسخًا في عمق الذاكرة الحضارية المغربية، إذ شاركت العالمات والنساء المتعلمات في بناء الأسس الأولى للخصوصية والهوية الدينية المغربية، تلك الهوية التي تميزت عبر العصور بالوسطية، والاعتدال، والتوازن بين العقل والنقل، وبين العلم والعمل، وبين الشريعة والحقيقة.

وإذا كان التاريخ قد حفظ أسماء العلماء والفقهاء من الرجال الذين أثروا في المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، فإنه لم يخلُ من نساء عالمات وفقيهات كان لهن دور جوهري في بناء هذه المنظومة الفكرية والدينية، سواء من خلال التعليم أو الفقه أو التصوف أو الرعاية العلمية للمؤسسات الدينية، وفي هذا السياق تعد فاطمة بنت محمد الفهرية، المتوفاة حوالي سنة ( 266 هـ / 880 م) ، من أبرز رموز العلم النسائي في تاريخ المغرب؛ بل وفي تاريخ العالم الإسلامي بأسره، إذ أسست جامعة القرويين بمدينة فاس سنة ( 245 هـ / 859 م) ، لتكون بذلك أول مؤسسة تعليمية نظامية في التاريخ البشري.

ولم يكن عملها مجرد مبادرة إنشائية؛ بل فعلًا حضاريًا يرسخ لثقافة العلم والتدين في المجتمع المغربي الناشئ، فالقرويين كانت منطلقًا لترسيخ المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية والتصوف السني، وهي المكونات التي تشكل اليوم جوهر الهوية الدينية المغربية. إنّ فاطمة الفهرية لم تكن عالمة بالمعنى الاصطلاحي الفقهي فحسب؛ بل كانت صاحبة وعي ديني عميق، ترجَمَتْه في فعلٍ اجتماعي مؤسسي ظل أثره ممتدًا إلى يومنا هذا .

إلى جانبها، نجد أسماء بنت محمد الفهرية، أخت فاطمة، التي أسست جامع الأندلسيين بفاس في نفس الفترة تقريبًا، حوالي سنة ( 246 هـ) ، مساهمة بذلك في بناء الفضاء الروحي والعلمي للمدينة، إذ أصبح المسجد مركزًا للدرس والتعليم، واستقبل كبار العلماء والفقهاء، فكان له أثر بارز في نشر العلم الشرعي بين سكان الأندلسيين الوافدين إلى فاس بعد سقوط بعض مدنهم بالأندلس .

ومن الأسماء النسائية التي حفظها التاريخ أيضًا الشيخة حليمة السجلماسية في القرن السادس الهجري (القرن 12 الميلادي)، وهي من مدينة سجلماسة بالجنوب المغربي، عُرفت بعلمها في الفقه المالكي وبقدرتها على الإفتاء والتعليم، حتى كان بعض العلماء يأخذون عنها العلم ويستفتونها في المسائل الفقهية الدقيقة.

وقد مثلت نموذجًا للعالمة المالكية التي جمعت بين الفقه والورع، وأسهمت في ترسيخ الثقة في كفاءة المرأة العالمة داخل المجتمع المغربي المحافظ. وفي القرون اللاحقة، تبرز أسماء نساء صالحات وعالمات من الزوايا والمدارس الصوفية التي لعبت دورًا في التربية الروحية للمجتمع، من أمثال لالة عائشة البحرية، التي عاشت في القرن الثامن الهجري (القرن 14 الميلادي) وكانت من العابدات المعروفات في منطقة دكالة.

وقد عُرفت بورعها وعلمها وبتأثيرها التربوي في المريدين والمريدات؛ حيث ساهمت في نشر قيم الإحسان والزهد والتقوى، وهي القيم التي شكلت البعد الروحي للهوية الدينية المغربية المرتبطة بالتصوف الجنيدي السني.

كما تبرز في القرن الثالث عشر الهجري (القرن 19 الميلادي) لالة فاطمة الزهراء الوزانية، التي تنتمي إلى البيت الوزاني الصوفي بمدينة وزان. وقد كان بيتها مركز إشعاع ديني وروحي، إذ أشرفت على تربية النساء المريدات وغرس القيم الصوفية فيهن، كما ساهمت في توارث السلوك الصوفي النقي عبر الأجيال.

ويمثل حضورها امتدادًا للدور النسائي في الزوايا المغربية التي كانت من ركائز التربية الدينية والاجتماعية في المغرب الحديث.

ومع بدايات القرن العشرين، بدأت المرأة المغربية تنخرط في مجالات التعليم والإصلاح الاجتماعي، فظهر جيل جديد من العالمات والمفكرات اللواتي ساهمن في إعادة قراءة الدين في ضوء التحولات الاجتماعية والفكرية، من أبرزهن فاطمة المرنيسي (1940–2015)، التي وإن لم تكن فقيهة تقليدية، فإنها أسهمت من موقعها كعالمة اجتماع في تجديد الوعي الديني النسائي بالمغرب، ودافعت عن قيم الإسلام العقلاني والمعتدل، وعن ضرورة المزاوجة بين التراث والاجتهاد، وبين الأصالة والمعاصرة.

وقد كان فكرها جزءًا من الدينامية الفكرية التي أسهمت في تثبيت الهوية الإسلامية المغربية كهوية منفتحة ومتوازنة، وانفتاحها هذا جلب لها انتقادات حادة من قبل التيارات الإسلامية في المغرب، كما تبرز الدكتورة أسماء المرابط (مواليد 1961)، التي تعد من أبرز الأصوات النسائية المعاصرة في الفكر الإسلامي المغربي، إذ قدمت قراءة مقاصدية وإنسانية للقرآن الكريم، تدعو إلى الفهم العادل للدين وإلى استحضار القيم الكبرى في التعامل مع قضايا المرأة والمجتمع، وتمثل كتاباتها امتدادًا للعقل المغربي الإصلاحي الذي يسعى إلى الحفاظ على جوهر الهوية الدينية المغربية في سياق عالمي متغير.

ولا يمكن الحديث عن الحاضر دون الإشارة إلى الدور الكبير الذي تقوم به المرشدات الدينيات والعالمات اللاتي تكونت أعداد كبيرة منهن في معاهد وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية منذ سنة 2006، ضمن مشروع وطني يهدف إلى تعزيز دور المرأة في الإرشاد الديني، ونشر قيم الوسطية والتسامح، ومكافحة الفكر المتطرف. وقد أصبحت هؤلاء المرشدات اليوم واجهة حية تعكس استمرار حضور المرأة في تشكيل الهوية الدينية المغربية وتجديدها وفق مقتضيات العصر.

ويكتمل هذا الحضور النسائي في الحقل الديني المعاصر بمشاركة العالمات المغربيات في الدروس الحسنية الرمضانية التي تُقام تحت الرعاية الملكية منذ عقود؛ حيث يُلقي العلماء والعالمات دروسًا أمام أمير المؤمنين جلالة الملك محمد السادس في موضوعات تمس جوهر الدين وقضاياه الراهنة. وقد شكّل هذا الفضاء الديني والعلمي محطة بارزة لتكريس المساواة في الكفاءة العلمية بين الجنسين، إذ شاركت فيه عدد من العالمات المغربيات البارزات ، وقد كانت

الدكتورة رجاء ناجي المكاوي، أول إمرأة تعتلي منبر الدروس الحسنية ؛ حيث ألقت سنة 2004، درسا حسنيا بعنوان “الاجتهاد في المسألة النسائية”، وبعدها الدكتورة فريدة زمرد الأستاذة بدار الحديث الحسنية؛ حيث قامت كذلك بإلقاء درسا دينيا من سلسلة الدروس الحسنية سنة 2005 حول “المرأة في القرآن بين الطبيعة والوظيفة”.

كما ألقت الدكتورة السعدية بلمير في رمضان 2006، درسا بعنوان “حركة التقريب بين المذاهب: منطلقاتها وآفاقها المستقبلية”، تلتها الدكتورة زينب العدوي التي قدمت سنة 2007 درسا بعنوان: “حماية المال العام في الإسلام”، ثم الدكتورة سعيدة أملاح، التي ألقت درسا سنة 2008 بعنوان “عناية المغاربة بلغة القرآن الكريم”.

وفي سنة 2009، ألقت الدكتوره عالية ماء العينين، الأستاذة بجامعة محمد الخامس بالرباط، في حضرة جلالة الملك حفظه الله درسا بعنوان “مكانة الأم في الإسلام ودورها في نقل وترسيخ قيم المواطنة”، تلتها الدكتورة سعاد رحائم، أستاذة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة، التي ألقت سنة 2010 درسا بعنوان “أشراط الساعة في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف” ، وشاركت الأستاذة وداد العيدوني سنة 2015م بمحاضرة حول مقاصد الشريعة في العلاقات الاجتماعية، كما ألقت الأستاذة زبيدة هرماس الدرس السابع من سلسلة الدروس الحسنية يوم 26 رمضان 1440 هـ الموافق 1 يونيو 2019م بعنوان “لباس المرأة في بعديه الإسلامي والوطني”.

وقد عكست هذه المشاركات حضورًا نسائيًا وازنًا يعبّر عن كفاءة المرأة المغربية في مجالات الفكر والفقه والتفسير واللغة، وعن استمرار تقليد أصيل من التقدير العلمي الذي عرفه المغرب للنساء العالمات منذ قرون.

ختاما، إنّ تتبع مسار العالمات المغربيات عبر التاريخ يكشف أن الهوية الدينية المغربية لم تكن وليدة الفكر الذكوري وحده؛ بل نتاج تفاعلٍ متكامل بين الرجل والمرأة، بين العالم والعالمة، بين المدرسة والزّاوية، بين الفقه والتصوف، وبين الاجتهاد والنقل. فالمرأة المغربية، من فاطمة الفهرية في القرن الثالث الهجري إلى العالمات المشاركات في الدروس الحسنية في القرن الخامس عشر الهجري، ظلت حاضرة في خدمة الدين والعلم، مساهمة في صياغة هوية روحية وفكرية متفردة جعلت من المغرب نموذجًا للإسلام الوسطي المعتدل في العالم الإسلامي .