ضريح سيدي عبد الرحمن: من ممارسات مرفوضة إلى منارة روحية وجسر للتسامح والحوار الثقافي

دينبريس
المغرب
دينبريس12 سبتمبر 2024آخر تحديث : الخميس 12 سبتمبر 2024 - 11:29 صباحًا
ضريح سيدي عبد الرحمن: من ممارسات مرفوضة إلى منارة روحية وجسر للتسامح والحوار الثقافي

ذ. محمد عسيلة، باحث في قضايا الثقافة والدين والهجرة أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية
تلعب الأضرحة دورًا محوريًا في المخيال الشعبي المغربي، حيث تعتبر مراكز للتواصل الروحي والاجتماعي وتُجسد في المغرب التقاليد المتوارثة عبر الأجيال، وهي تُمثل رموزًا دينية تحظى بتقدير كبير لدى العامة.

يرتبط المغاربة بالأولياء الصالحين المدفونين في هذه الأضرحة، باعتبارهم شخصيات مباركة يُعتقد أنها تمتلك القدرة على تحقيق الحاجات وتقديم العون الروحي، سواء عبر التبرك أو الدعاء. وتُعد هذه الأضرحة أيضًا جزءًا من النسيج الاجتماعي، حيث تجتمع المجتمعات المحلية حولها خلال المواسم الدينية للاحتفال والالتقاء، ما يعزز الهوية المشتركة والتلاحم الاجتماعي. إلى جانب البعد الروحي، تساهم الأضرحة في دعم السياحة الدينية في المغرب، حيث يتوافد عليها الزوار من داخل البلاد وخارجها بحثًا عن تجربة فريدة تجمع بين الروحانية والتاريخ.

على الرغم من المكانة الروحية الكبيرة التي تحتلها الأضرحة في المخيال الشعبي المغربي، فإن بعض هذه الأضرحة قد تحولت، للأسف، إلى معاقل لممارسات الشعوذة. ويعود هذا التحول إلى استغلال البعض للإيمان الشعبي بقوة الأولياء الصالحين لتحقيق غايات شخصية أو اقتصادية، عبر الترويج لممارسات لا تمت بصلة للتعاليم الدينية الصحيحة، مثل بيع الأحجبة، و”ضرب الكارطة”، وغيرها من الطقوس التي تدعي القدرة على حل المشاكل الاجتماعية مثل العقم والعنوسة والتخلص من السحر.

هذا الواقع الجديد أدى إلى تشويه الصورة الأصلية للأضرحة التي كانت دائمًا مرتبطة بالدين والورع والروحانية، إذ أصبحت بعض هذه الأماكن ملاذًا لمن يبحثون عن حلول سريعة لمشاكلهم عبر وسائل غير مشروعة. ومع ذلك، فإن إعادة تأهيل هذه الأضرحة وتوجيهها نحو دورها الأصلي يمكن أن يساهم في محاربة هذه الظواهر السلبية. تحت إشراف الولاية و وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، يجري اليوم العمل على ترميم الأضرحة وإعادة تأطيرها ضمن مسار ثقافي وروحي يركز على نشر العلم والاعتدال، ما يعيد لها مكانتها الصحيحة كمراكز إشعاع ديني وثقافي.

وفي هذا السياق شهد ضريح سيدي عبد الرحمن، الواقع على صخرة في كورنيش عين الذئاب بالدار البيضاء، تحولاً جذريًا في الآونة الأخيرة، بعد حملة شاملة لإعادة تهيئته وتأهيله تحت اشراف والي جهة الدار البيضاء سطات، السيد محمد امهيدية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. هذه الخطوة الهامة تأتي لتغيير الصورة النمطية التي كانت ملتصقة بالضريح، حيث ارتبط لعقود طويلة بممارسات تعتبر غير قانونية أو مرتبطة بالشعوذة. لكن مع انطلاقة مشروع التأهيل، يظهر الضريح الآن كنموذج حضاري جديد يعكس الوجه المشرق للتدين المغربي ومؤسساته.

تأتي إعادة تأهيل هذا الضريح في إطار رؤية أوسع يرعاها السيد الوالي و وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في شخص السيد المندوب الجهوي للشؤون الإسلامية، بهدف تحويل الأضرحة من أماكن تقليدية يرتبط بها البعض لممارسات الشعوذة إلى فضاءات علمية وروحية تسهم في النهضة الفكرية والعرفانية.

وقد تم تصميم الضريح الجديد ليكون مركزًا للتأمل والاستجمام الفكري، مستفيدًا من موقعه الجغرافي الفريد المطل على المحيط الأطلسي، ما يوفر لزواره فسحة رحبة للتدبر والتفكير.

وبهذا أصبح ضريح سيدي عبد الرحمن، الواقع في منطقة عين الذياب بالدار البيضاء، نموذجًا متجددًا للثقافة الروحية والدينية بفضل الجهود التي تبذلها ولاية الدار البيضاء-سطات ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. بتوجيه مباشر من هذه المؤسسات، ومن خلال التنسيق مع المجلس العلمي الجهوي والمجالس العلمية المحلية، ستساهم الأنشطة الثقافية والفكرية والدينية والثقافية في الضريح في إطار مؤسساتي منظم في تعزيز الفكر والروحانية.

إن أعمال التأهيل لم تقتصر على إعادة ترميم البنية التحتية للضريح فقط، بل شملت أيضًا إنشاء فضاء ومركز إشعاع والتقاء ومكتبة متخصصة، مما يوفر للباحثين والطلبة فرصة للاستفادة من مراجع غنية تتناول التصوف والتراث الروحي المغربي. وبذلك، يُسهم الضريح اليوم في نشر المعرفة وتعزيز الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالثقافة الدينية، إلى جانب كونه مركزًا للتأمل الروحي ومكانًا للتواصل الفكري.

بعد هذا الترميم وإعادة التأهيل حسب رؤية موحدة وتنسيق محكم ومسـؤول بين كل المسؤولين والفاعلين بالولاية وبوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، سيصبح ضريح سيدي عبد الرحمن اليوم مركزًا ونموذجا حيًا للثقافة الروحية والدينية بفضل الجهود المبذولة لإعادة تأهيله. وقد تم تحويل الأنشطة الثقافية والفكرية في الضريح إلى إطار مؤسسي منظم يعزز الفكر والروحانية، من خلال التنسيق مع الجهات المعنية.

لم تقتصر أعمال التأهيل على إعادة ترميم البنية التحتية للضريح فقط، بل شملت أيضًا إنشاء فضاءات استقبال ومكتبة، مما يوفر للزوار تحقيق لقاء روحي وفكري وللباحثين والطلبة تحقيق مصادر غنية ومتخصصة تتناول التصوف والتراث الروحي المغربي. وبهذا، يسهم الضريح اليوم في نشر المعرفة وتعزيز الدراسات الأكاديمية المتعلقة بالثقافة الدينية، إلى جانب كونه مكانًا للتأمل والتواصل الفكري.

وبالتعاون مع مركز التوثيق والأنشطة الثقافية التابع للمندوبية الجهوية للشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الجهوي والمجالس العلمية المحلية، يمكن تنظيم فعاليات دورية تسلط الضوء على التراث الروحي للضريح ولكل الأضرحة في المغرب وأهميتهم التاريخية والدينية، مما يجعل من هذا الضريح مقصدًا للمريدين والمهتمين من مختلف أنحاء المغرب وخارجه. وبهذا، يلعب هذا الضريح دورًا رياديًا في تعزيز الوعي المجتمعي والروحي، حيث أصبح يُنظر إليه كنقطة تحول نحو المزيد من الانفتاح الفكري والتواصل الحضاري.

إعادة تأهيل ضريح سيدي عبد الرحمن لا تتعلق فقط بإصلاح المباني والبنى التحتية، بل تتطلب كذلك إشرافًا يوميًا دقيقًا من الولاية و المندوبية الجهوية للشؤون الإسلامية، حيث تتم متابعة تطور الإقبال على الضريح ومدى استفادة الزوار من الأنشطة الثقافية. وبهذا يُعتبر هذا الإشراف المؤسساتي ضروريًا لضمان استمرار الضريح في أداء دوره الريادي بعيدًا عن الممارسات القديمة، وليصبح معلمة تاريخية وثقافية تسهم في السياحة الدينية في المغرب.

وتأتي هذه المبادرة في وقت مناسب لمواجهة التحديات الثقافية والفكرية التي يعيشها المغرب، خاصة في ظل تزايد التيارات المتطرفة التي تسعى لتشويه الصورة السمحة للإسلام المغربي. هنا، يأتي دور الضريح في نشر قيم التسامح والاعتدال والوسطية، بما يعزز مكانته كواحة للسلام الروحي والتواصل الثقافي بين مختلف فئات المجتمع.

في إطار تحويل ضريح سيدي عبد الرحمن إلى مركز إشعاع فكري وروحي، أرى اقتراح العديد من الأنشطة مساهما في تعزيز الدور الثقافي والديني للضريح:

• إقامة ندوات فكرية وروحية: تنظيم ندوات ومؤتمرات تجمع بين العلماء والمفكرين والمختصين في التصوف والفكر الديني لبحث قضايا روحية وثقافية معاصرة. يمكن لهذه الأنشطة أن تستضيف باحثين من داخل المغرب وخارجه لمناقشة دور الأضرحة في نشر العلم والسلام الروحي.
• دروس ومحاضرات توعوية: يمكن تنظيم دروس دينية ومحاضرات تعليمية موجهة للجمهور العام وزوار الضريح، تُعنى بتعريفهم بأهمية التدين الوسطي والروحانية في الإسلام، مع التركيز على دور الأضرحة في نشر التسامح والتعايش بين الأديان.
• إنشاء مكتبة قارة: دعم البحث العلمي عبر إنشاء مكتبة تحتوي على كتب ومراجع عن التصوف والتراث الروحي المغربي. يُمكن للمكتبة أن تكون مرجعاً للباحثين والطلاب المهتمين بدراسة الأضرحة والتدين المغربي.
• معارض ثقافية دائمة: إنشاء معارض توثق تاريخ ضريح سيدي عبد الرحمن وغيره من الأضرحة المغربية، مع تسليط الضوء على الدور التاريخي والروحي الذي لعبته هذه الأماكن في تاريخ المغرب.
• تنظيم أوراش عمل تربوية للأطفال بروض الأطفال والشباب وتلاميذ المدارس والأسر: يمكن تنظيم أوراش عمل تهدف إلى تعزيز الهوية الدينية والثقافية بين الأجيال الصاعدة، وتربية الأطفال و الشباب على القيم الدينية المعتدلة وروح ثوابت التدين المغربي.
• فعاليات موسمية: تنظيم مواسم دينية وثقافية تجذب الزوار من مختلف أنحاء المغرب والعالم، مثل المواسم الصوفية والاحتفالات الروحية، والتي تُعزز من مكانة الضريح كمركز للسياحة الدينية.

هذه الأنشطة المقترحة يمكن أن تجعل من ضريح سيدي عبد الرحمن نموذجًا حيًا للمزج بين التراث والحداثة، وبين الروحانية والعلم، مما يسهم في نشر الوعي ومواجهة الفكر المتطرف، وتعزيز روح المواطنة والانتماء إلى المجتمع المغربي.

لا شك أن تجربة إعادة تأهيل ضريح سيدي عبد الرحمن تمثل نموذجًا يحتذى به في إعادة النظر في دور الأضرحة المغربية. فهذا المشروع يعكس توجهًا جديدًا نحو تطوير السياحة الدينية والثقافية، ويعزز من قيمة الأضرحة كمراكز إشعاع فكري وروحي بدل أن تظل مقترنة بممارسات مرفوضة. هذا النهج الجديد يجب أن يشمل كافة الأضرحة بالمغرب، لتعزيز دورها في تنمية المجتمع من خلال نشر العلم والمعرفة، وتعزيز الهوية الروحية للمغاربة.

من خلال هذا التحول، يمكن أن تسهم هذه الأضرحة في جذب المزيد من الزوار المحليين والدوليين، وتشجيع السياحة الدينية التي تقوم على الاحترام والفهم المتبادل. يمكن لهذه الأضرحة أن تصبح منارات للسلام والتعايش، تعزز روح المواطنة والانتماء، وتساهم في بناء مجتمع قائم على الاحترام والتعددية.

إن إعادة تهيئة وتأهيل ضريح سيدي عبد الرحمن تأتي كنموذج يحتذى به في تحويل الفضاءات الروحية إلى مراكز للعلم والثقافة. وبدعم من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية و المجلس العلمي الجهوي والمجالس العلمية المحلية ومركز التوثيق والأنشطة الثقافية، يمكن لهذا المشروع أن يفتح الباب أمام نهضة فكرية وروحية شاملة تسهم في نشر الوعي ومواجهة الفكر المتطرف، وتجعل من الأضرحة معالم إشعاع حضاري وديني.

ونتساءل بصوت مرتفع: هل يمكن للأضرحة المغربية أن تلعب دورًا رياديًا في تعزيز الدبلوماسية الدينية والسياحة الروحية، وأن تصبح جسورًا حقيقية للحوار بين الثقافات والأديان، مما يعزز من مكانة المغرب كمنارة للتسامح والتعايش في العالم؟ خاصة أن التشريعات السماوية الأخرى، كاليهودية والمسيحية، تحتفي هي الأخرى بأضرحة لشخصيات تاريخية وروحية لها تأثير كبير على شعوبها. في هذا السياق، يُمكن للأضرحة المغربية أن تتبنى رؤية مشتركة عابرة للقارات، تجمع بين الثقافات والأديان المختلفة، مستفيدة من تراثها العريق وجذورها الروحية، لتشكل قاعدة للحوار الثقافي والديني على الصعيدين الوطني والدولي.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.