منتصر حمادة
معلوم أن تسليط الضوء البحثي والإعلامي على الظاهرة السلفية، ومنها السلفية الوهابية، سنعاينه بشكل جلي مباشرة بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن، بسبب تورط إسلاميين ينهلون من مرجعية سلفية وهابية، في نسختها القتالية أو “الجهادية” في تلك الأحداث وفي أحداث لاحقة، طالت العديد من الدول العربية والأوربية، خاصة أن تنظيم “القاعدة” ومعها باقي الحركات الإسلامية القتالية، وخاصة تنظيم “داعش”، تزعم أنها جزء من هذه الحركة، أو على الأقل طفرة عنيفة منها؛ السلفية الجهادية.
كما تمّ تسليط الضوء على الظاهرة في مرحلة ثانية، بعد اندلاع أحداث “الفوضى الخلاقة” أو “الربيع العربي” حسب الاصطلاح الأمريكي، مع صعود أسهم التيارات السلفية ومعها الأحزاب الإسلامية السلفية، وفي مقدمتها حزب النور المصري.
ومن بين الأعمال النوعية التي حُررت حول الظاهرة السلفية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، العمل الجماعي الصادر بداية بالإنجليزية، بعنوان “السلفية العالمية” وأشرف على تحريره الباحث الهولندي رول ميير، حيث تضمن 18 فصلاً، موزعة على عدة أقسام، اشتغلت على خضوع العقيدة السلفية لتحولات مفصلية على مدى العصر الحديث، وأتاحت مجالاً للاختلاف أيضاً في مسائل الإيمان بين المفتي السلفي الوهابي عبد العزيز بن باز، وعالم أهل الحديث ناصر الدين الألباني، والجهادي الراديكالي أبو محمد المقدسي، وهناك قسم ثاني توقف عند البعد السياسي للسلفية، مستقصياً تجلياتها في بلدان متعددة، من مصر إلى إندونيسيا، وعلاقتها بحركات الإسلام السياسي، بينما تناول القسم الثالث ظاهرة “السلفية الجهادية”، متوقفاً عند بعض الاختلافات والتناقضات، والنقاشات بين التفرعات الإيديولوجية المحسوبة على هذا المشروع.
في هذا السياق، يأتي التعريف بهذا الكتاب النوعي الذي يشتغل على الظاهرة، وألفه المؤرخ الأمريكي هنري لوزيير، وجاء تحت عنوان “صناعة السلفية: الإصلاح الإسلامي في القرن العشرين”، وترجمه إلى اللغة العربية أسامة عباس وعمر بسيوني، وصدر عن دار النديم ودار روافد، جاء في 477 صفحة.
تضمن الكتاب مقدمة أشبه بمناقشة، بقلم عمر بسيوني، في سياق تمرير بعض الملاحظات النقدية على الكتاب، إضافة إلى ستة فصول، جاءت عناوينها كالتالي: أن تكون سلفا في أوائل القرن العشرين؛ محمد رشيد رضا ورد الاعتبار للوهابية وعواقبه؛ السلفية النقاوية في عصر القومية الإسلامية؛ مفارقات الحداثة وظهور السلفية الحداثية؛ البحث عن علة الوجود، في حقبة ما بعد الاستعمار؛ الانتصار، وتحول السلفية النقاوية إلى أيديولوجيا.
نقرأ لمحمد بسيوني في المقدمة المطولة للكتاب (وجاءت في حوالي 80 صفحة)، أننا إزاء كتاب مهم وجاد، ولو أن المؤلف يركز بصورة أدق على مطبخ تكون السلفية في بدايات القرن العشرين وصولاً إلى فترة التحرر الوطني ما بعد الاستعمار، والذي آل إلى بزوغ نجم السلفية المعاصرة كما نعرفها الآن، وأضاف بسيوني، أن أهمية هذا الكتاب ذات صلة بسعة الفترة التي يؤرخ لها، والزخم الكبير الذي شهدته، حيث ماجت تلك الفترة بتيارات فكرية وسياسية واجتماعية كثيرة ومتشابكة ومعقدة. وما أضفى على الكتاب حيوية وفاعلية أن المؤلف مزج فيه بين البحث المفهومي عن السلفية المعاصرة في تكونها الأول في مرحلة ما بعد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، من خلال تتبع أهم رموزها، في المشرق والمغرب، مع التركيز بالدرجة الأولى على سلفية رشيد رضا ودوائره القريبة والبعيدة الإصلاحية والنقاوية وتماسّها مع السلفية الوهابية النجدية، وبعض انعكاساتها المغربية، وتماسها مع نمط الفكر الإصلاحي الإسلامي في المغرب، وأبرز رموزه علال الفاسي، حيث مزج مؤلفه بين ذلك، وبين التطبيق في صورة على رمز سلفي معاصر لتلك الحقبة الواسعة، وممثل لتطوراتها التي تعكس تطور السلفية المعاصرة نفسها، وهو الشيخ تقي الدين الهلالي، العالم السلفي المغربي المعروف.
يُفرق بسيوني بين التيمية الوهابية والسلفية المعاصرة، فبينما كانت منصة الإطلاق في المشروع التيمي موجهة ضد الكلام، فقد كانت السلفية الوهابية ضد مسائل الشرك التوحيد، وكلاهما صارع المقلدین صراعا لزوماً لا أصلاً، وكانت منصة السلفية المعاصرة موجهة ضد سؤال الانحطاط بعد الجمود وصدمة الحداثة الاستعمارية [نموذج رسالة شكيب أرسلان الشهيرة، وجاءت تحت عنوان: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟”] ومن ثم فقد واجهت التقليد من الباب اللزومي نفسه، مضيفاً أن مشكلة السلفية المعاصرة أنها غفلت عن ذلك أحياناً، فبالغت في استهداف التقليد، وهذا خطأ ترتبت علیه مشکلات علمية وسلوكية كثيرة، متفقاً في عدة نقاط مع المؤلف، منها أن سلفية رشيد رضا تحديداً وجيله السلفي الإصلاحي، يُحسبُ لها أنها وسعت مفهوم السلفية، بالمخالفة لمعناها اللاهوتي الضيق في المدونة التراثية الإسلامية.
من الملاحظات النقدية التي حُررت حول العمل، كما نقرأ في مقالة ترجمتها يسرى مرعي، أنه بالنظر إلى صناعة السلفية، مفهوماً وحركة، من سبعينيات القرن الماضي وعلى مدار القرن العشرين بصورة أعم من منظور هذا التنوع داخل المعسكر السلفي، تبرز ثلاث ثغرات للرابطة السلفية ــ الإخوانية التي ينبغي أن تُسد، أولها أنه على الرغم من حساسيته تجاه الناحية المفاهيمية، ورغم تكرار ظهور المملكة العربية السعودية في سرديته، يفشل المؤلف في توضيح ما إذا أصبحت الوهابية المعاصرة سلفية بالمعنى الحديث للمصطلح ومتى وإلى أي مدى؛ ثانياً، على الرغم من ملاحظته للعلاقات بين الإخوان المسلمين وأنصار السنة المحمدية في المشهد الفكري المتقلب لمصر الكولونيالية، وبالنظر إلى التعريف الذاتي للبنا لحركته على أنها دعوة سلفية قبل أي شيء، فهي لا تُعتبر على هذا النحو في أي مكان من الكتاب؛ وأخيراً، على الرغم من الإشارة إلى العلاقة الجدلية بين السلفية والحركات الإسلامية، في النسخة المتأثرة لأدبيات سيد قطب، يبقى نقاش المؤلف مقتصراً على السلفيين النقائيين.
يرى المؤلف أن تصنيف السلفية جاء هنا ليبقي، لأنه حتى أشد المعارضين له من المسلمين يرفضون أحياناً التخلص منه، بل يحاولون انتزاعه من قبضة السلفيين، والوضع مشابه لذلك في الأوساط الأكاديمية العربية، مضيفاً أن الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية يحتاجون إلى تضييفات تحليلية محددة؛ ولولاها لن يكون النقاش ولا التحليل أمراً ممكناً. ربما تكون السلفية تصنيفاً عسيراً؛ لكنه أثبت أنه نافع وسيظل كذلك لبعض الوقت، ما امتنع الباحثون عن استعماله بحماقة، وبالنتيجة، لا ينبغي تطبيق هذا التصنيف على الأفراد الذين يرفضونه، أو من لم يلتزموا على الأقل بالتفسير السلفي للصفات الإلهية، وهذه هي السمة الأساسية في أي سلفية نقاوية. ولا ينبغي للباحثين أن يستعملوا هذا المصطلح وفقاً لرغباتهم وأمانيهم، لأن هذا المصطلح، باختصار؛ له تاريخ معقد وعدة طبقات من المعنى. وكما أنه من الخطأ أن يفترض أن السلفي هو كل من يتخذ السلف قدوة ونموذجاً يُقتدى به؛ فمن الخطأ كذلك أن يظن أن السلفية هي علامة بسيطة على المحافظة الدينية، بالمعنى الواسع لذلك. وعلى الرغم من اهتمام السلفيين بإعفاء اللحى، ومنع الاختلاط، واللباس المناسب شرعا؛ فإن هذه المسائل لا تختص بالسلفيين. ولا يمكننا أن نقيم التاريخ المفاهيمي لكلمتي السلفي والسلفية ما لم تدرك أنها مصطلحات فنية.
أما الدرس الرئيس الذي نستخلصه من التاريخ المفاهيمي للسلفية الحداثية حسب المؤلف، فهو وجوب التخلص من ثلاث عادات سيئة، أولها أنه يجب أحذ مسافة من الادعاء بأن الأفغان ومحمد عبده كانا في مقدمة النسخة الحداثية من السلفية، وأنهما استفيد السلف كشعار لهما، حيث لم يفعل الرجلان ذلك. واستناداً إلى ما كان يعنيه المصطلح الفني السلفي للمتخصصين الدينيين المسلمين في أوائل القرن العشرين؛ فليس من الممكن أن يعتبر الأفغاني ومحمد عبده سلفيين، ولا عجب أنهما لم يدعيا قط تلك التسمية لأنفسهما.
وثانيها، أنه يجب ألا تفترض أن السلفية كانت مفهوماً ملحوظاً، ناهيك أن تكون حركة، في أي وقت سابق على القرن العشرين، وليس لدينا الآن أي سبب يدعو للاعتقاد بأن المسلمين قد استعملوا هذا التصنيف قبل العشرينات من القرن الماضي.
وثالثها، يجب أن نقاوم أي إغراء في تخیل تاریخ للسلفية يقوم على التفكير بالتمني، لأنه لا جدوى من محاولة صقل سردية المنشأ الزائفة التي طرحها ماسینیون بين عامي 1919 و1925، أو تعديلها. وحتى إذا أخرجنا الأفغاني ومحمد عبده من المعادلة، وجعلنا رشید رضا مثلاً هو المؤسس الفعلي للسلفية؛ فهذا زائف أيضاً حسب المؤلف، لأن رشيد رضا، خلافاً للأفغانی ومحمد عبده، يصف نفسه بأنه سلفي في العقيدة والفقه، ولكنه لم يستعمل الاسم المجرد السلفية في كتاباته، ولم يعرفها قط على أنها مفهوم أو حركة، ولم يضع قط سردية حولها. وخلافاً لما يقال، لم يرث رشيد رضا عباءة حركة سلفية ما من محمد عبده، ولو يورث تلك العباءة إلى الوهابية ولا إلى حسن البنا ولا إلى أي شخص آخر، وكذلك لم يساعد في تحويل سلفية موجودة مسبقاً إلى سلفية جديدة.
من أهم خلاصات الكتاب، أن صناعة السلفية، والصراع حول معنى هذا التصنيف؛ يخبراننا بأمر مهم عن التاريخ الفكري الإسلامي في القرن العشرين. فمثلما كان نمو الاستعمار في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين قد استتبع تفاعلاً أكبر بین الشأن الأصليين لبلدان المنطقة، فإنه أدى كذلك إلى زيادة التلاقح بين طرق التفكير الأصلية وغير الأصلية حول الإسلام. وفي حين أن هذا أكثر وضوحاً في حالة السلفية الحداثية؛ فإن النسخة النقاوية ليست بتلك الأصالة التي يتزعمها أنصارها المعاصرون. إن بناء السلفية النقاوية يدين بشيء من الفضل للمفاهيم الحديثة للدين والإيديولوجيا، التي صبت في بوتقة الاستعمار الأوربي والعملية المعقدة لإنهاء الاستعمار السياسي والثقافي. وليس من المستغرب أن السلفية لم تكن، قبل القرن العشرين.