صحة الدليل قد لا يدل على سلامة التنزيل

8 نوفمبر 2025

د. صلاح الدين المراكشي 

إمام وخطيب ومرشد ديني بالمستشفيات والسجون الفرنسية، ومبتعث سابق من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية

من جميل ما يميّز المسلم الواعِي في فكره وسلوكه، أن يستند في أقواله وأفعاله إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ فذلك يمنحه الشرعية والمصداقية، ويُقوِّي حجته أمام الناس، ويُكسب كلامه القَبول والاحترام.

غير أن حُسن الاستدلال لا يتحقق بمجرد إيراد النصوص الشرعية ! بل لا بد للمستدِل – ولا سيما عند الاحتجاج بالسنة النبوية – أن يجمع بين أمرين لا غنى لأحدهما عن الآخر:

أولاً: صحة الدليل.

ثانيًا: حُسنُ التنزيل.

فقد يكون الدليل صحيحًا في ذاته، لكن يخطئ صاحبه في وجه الاستدلال وموضع التنزيل. فكثيرًا ما نرى من يستشهد بحديثٍ رواه مالك في الموطأ، أو أخرجه البخاري ومسلم، أو ورد في كتب السنن، غير أنه يُنزله على مسألة لا يدلّ عليها، فيأتي استدلاله بعيدًا عن المقصود. وهكذا يجتمع له صحة الدليل، لكنه يُفوِّت صواب التنزيل، فينقلب الاحتجاج – من موضع القوة – إلى موضع الوهم والخطأ.

وهذا من أكثر ما يزلّ فيه الناس؛ إذ يظنون أنهم يحتجّون بالسنة، ويستضيئون بأنوارها، بينما هم في الحقيقة يُنزِلون النصّ في غير موضعه، أو يَفهمونه على غير وجهه الصحيح.

ومن الأمثلة الواقعية التي حصلت لي مع أحد الشباب المسلمين بفرنسا، طلب مني نصحًا واستشارة في مسألة تتعلق بـ : الزواج، فأبديت له رأيي من الناحية الشرعية.

وبعد أن تعرّف على الحكم الشرعي الذي لم يكن في صالح موقفه، استدل عليّ بحديث النبي صلى الله عليه وسلم :

«إنما الأعمال بالنيات» وهو حديث صحيح

رواه البخاري (1)، ومسلم ( 1907 ) وغيرهما.

لكنه فهم من هذا الحديث أن مجرد حسن النية، حتى وإن شابها شيء من المخالفات، تكفي لقبول الأعمال، فبدأ يبرّر خياراته في مسألة الزواج !

فبيّنت له أن فهمه من الدليل الذي استنبطه من الحديث غير سليم من حيث التنزيل على الواقع فحسن النية لا تبرر المخالفة أو التقصير كما في مبدإ ميكاڤيلي: ” الغاية تبرر الوسيلة ” !

وهكذا تغيّر فهمه تمامًا، وعاد إلى الصواب، وأدى الواجب كاملاً بإخلاص دون شائبة، ودعونا الله أن يبارك له في عمله وحياته.

وينطبق الأمر ذاته على الاستدلال بالقرآن الكريم. فآيات الكتاب العزيز ثابتة ثبوتًا قطعيًا، لا يُحتاج في سندها إلى بحث، غير أن موضع الإشكال يكمن أحيانًا في توظيف الآية في غير محلها، فيأتي الاستدلال بها بعيدًا عن المعنى الذي أراده الله سبحانه وتعالى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك تفسير قوله تعالى: ( سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ ( سورة الفتح: 29. )

كان أحد الإخوة، حينما نمرّ بهذه الآية خلال قراءة الحزب الراتب، يفرح بعد انتهائنا من القراءة بمظهر أثر السجود على جبهته، وظنّ أن هذا هو المقصود بالآية: السمة المذكورة على الوجه. فبينت له أن الدليل — الآية الكريمة — صحيح، لكن التنزيل على الواقع كان خاطئًا، إذ إن المراد بالآية هو نور الإيمان الذي يشعّ من القلب على الوجه. فإذا أشرق القلب بنور الطاعة، ظهر أثره على ملامح الإنسان، وإذا اسودّ بالمعصية غشّى الوجه الكآبة والظلمة، كما قال تعالى: ( يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ﴾ (سورة الرَّحْمَن: 41)

وهكذا يتضح الفارق الكبير بين صحة الدليل، وحسن التنزيل؛ فالأول متعلق بثبوت النص، أما الثاني فمرتبط بفهمه وتطبيقه في موضعه الصحيح.

 

والله أعلى وأعلم.

“الإسلام الإخواني”: النهاية الكبرى

يفتح القرار التنفيذي الذي أصدره أخيرا الرئيس الأميركي “دونالد ترامب”، والقاضي ببدء مسار تصنيف فروع من جماعة “الإخوان المسلمين” كمنظمات إرهابية، نافذة واسعة على مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز أثرها حدود الجغرافيا الأميركية نحو الخريطة الفكرية والسياسية للعالم الإسلامي بأكمله. وحين تصبح إحدى أقدم الحركات الإسلامية الحديثة موضع مراجعة قانونية وأمنية بهذا المستوى من الجدية، فإن […]

استطلاع رأي

هل أعجبك التصميم الجديد للموقع ؟

Loading...