17 أبريل 2025 / 22:02

شارل داروين وأطروحة الشطرنج البيولوجيّ: وقفات نقدية

طارق هنيش

تتجلّى أطروحةُ “داروين” في هذا القول الحاسم: “إذا افترضنا وجود المادّة العضويّة، وأقررنا بما تنزعُ إليه فطرتُها من نقل خصائصها، وأخذنا في الحسبان ما يُحيطُ بها من ظروفٍ معيشيّة، فإنّ هذه العوامل مجتمعةً تُشكّلُ العلّة الكامنة وراء أحوال الكائنات العضويّة، في ماضيها وحاضرها.” وإنّ عظمة هذا القول لتتجلّى في ما ينطوي عليه من صرامةٍ علميّةٍ، ونزوعٍ إلى التفسير الآليّ المحض للظواهر، شأنُهُ في ذلك شأنُ الفيزيائيّ حين يتناولُ مقولتي القوّة والكتلة، فينبذُ كلّ ما هو فعليٌّ ليشتغل وفق مقاييس العلاقات المحضة. وعلى هذا النهج، أزاح “داروين” كلّ الاعتبارات الميتافيزيقيّة، وأقام منهجًا قوامُهُ القيمُ النّسبيّةُ الخالصةُ، فغدتْ نظريّتُهُ ميزانًا جديدًا تُوزنُ به معطياتُ الواقع. لقد كان “داروين” أوّل من تناول علم الأحياء بأدوات الفيزيائيّ، إذ استقرأ الحقائق البيولوجيّة من زاوية التفاوت في التوتُّر والإمكانات، فجاءتْ نظريّتُهُ في “بقاء الأصلح” مكيالًا للقوّة في ميدان الأحياء. وما التطوُّرُ مجرّد تعاقب حوادث، بل هو جذوةٌ متقدةٌ لا يحدُّها زمانٌ، ولا يقيّدُها طورٌ دون آخر. وإنّ الاعتقاد بتفوُّق عصرٍ على عصرٍ في سلّم التطوُّر محضُ وهمٍ ساذجٍ، إذ إنّ كلّ حقبةٍ هي التجلّي الوحيدُ الممكنُ لناموس التكيُّف، وما كان ممكنًا فهو، بالضّرورة، حتميٌّ لا محيد عنه.

إنّ عالم السّديم الكونيّ، بوصفه زهرة العوالم الدّابرة وبذرة العوالم الدّائرة، لا يقلُّ نشوءًا وارتقاءً عن عالم “الإكثيوصور” أو عالم “الهوموساپين”، فكلاهما أطوارٌ متعاقبةٌ في سلسلة التّناغم الذّاتي. وإنّ زعم أنّ العصر الحاضر أرقى وأكملُ من العصر الفحميّ، لهو من السّذاجة بمقام من يظنُّ أنّ الحجر الهاوي بعد خمس ثوانٍ قد بلغ من الرُّقيّ ما لم يبلغهُ بعد ثانيةٍ واحدة! فسرعةُ السُّقوط عند لحظةٍ ليست سوى تكيُّفٍ مماثلٍ عند اللحظات التّوالي. وما هذا الفهمُ البيولوجيُّ القاصرُ إلّا طيشُ عقولٍ تستطيبُ الرُّكون إلى الأوهام، وتؤثرُ الرّضا بالظّواهر الواهية، استنادًا إلى مفاهيم هي من صُنعها، لا من صنع الحقائق! وفي أصل تعليم “داروين”، لا مكان لهذه التّرهات، فقد كان رجلًا مسيحيًّا تقيًّا، لم تُساورْهُ هواجسُ منازعة الإله في الخلق، ولا سوّلتْ لهُ نفسُهُ أن يُقيم نظريّاتٍ تُزاحمُهُ في التّدبير. وإنّ جوهر “الداروينية” قائمٌ على نظريّة الاصطفاء الطّبيعيّ، وأيُّ فيزيائيٍّ يكونُ أبله لو قال: “لن أبحث في القوى ما لم أُدركْ كُنْهها حقًّا!” فالفيزيائيُّ لا يُؤرّقُهُ السؤالُ عن ماهيّة القوّة، بل غايتُهُ أن يُسخّرها قياسًا وتجريبًا. وعلى ذات السُّنن، لم يكن “داروين” يلتمسُ معرفة حقيقة الكائنات الحيّة، فإنْ قال قائلٌ: “هم من خلق الله”، وقال آخر: “بل هم من صنع الشّيطان”، لم يكنْ ذلك ليعنيه في شيءٍ؛ إذ إنّ غايتهُ لم تكن التّأصيل الميتافيزيقيّ، بل الاستقراء العلميّ الصّرف. وكما يُمسكُ الفيزيائيُّ بالبُندول المُتأرجح قائلًا: “إن أطلقتُهُ الآن، فلا بدّ أن ينحرف بكذا وكذا”، يُمسكُ “داروين” – استعارًة – بالبُندول البيولوجيّ، ويقول: “إن أفلتُهُ، فلابدّ أن يحدث كذا، ويترتّب عليه كذا”. فهو، كحال الفيزيائيّ، يُهيّئُ الظُّروف الابتدائيّة ليُحصي النّتائج، إذْ كما أنّ المادّة تُقاسُ بمردودها العمليّ، فإنّ “داروين” يُقيسُ النّتائج البيولوجيّة بمبدأ بقاء الأصلح. وما قبلهُ، كان علمُ الأحياء أشبه بمنظور الكون البطلميّ، مستندًا إلى الملاحظة دون قياسٍ مُنضبط، كمن يُقدّرُ الكُتلة ولا سبيل لهُ إلى قياس القوّة. وهكذا، لم يكنْ “داروين” محض باحثٍ في الطّبيعة، بل كان ثائرًا في ميدان العلم، قافزًا بعلم الأحياء قفزةً جسورةً، إذْ نقلهُ من حيّز الرّصد العفويّ إلى صرامة القياس، فغدا في مصافّ “ماير” وخلفائه، ممّن أرسوا عُمد العلم على أُسُسٍ محكمةٍ، لا على حدسٍ هائمٍ في مجاهل الظُّنون.

إنّ الفهم والعلم لا سبيل لهما إلى الاستمرار إلّا حيث يكونُ التدفُّقُ دائبًا، والتغيُّرُ ناموسًا لا محيد عنه. فلقد أطاح عالمُ الكائنات الحيّة بالمفهوم الجامد للأنواع، وزعزع الإيمان بفكرة الخلق الفريد، حتى جعلها في متناول فهمٍ ماديٍّ لا يني يرتكسُ إلى التفسير الآليّ، إلى الميكانيكية المُطلقة، حتى وهو يُسمّي نفسه “وضع الطّاقة”. أمّا نظريّتهُ في الانتقاء الطبيعيّ، فهي – في جوهرها – محضُ تصفيةٍ لمخزونٍ مترهّلٍ من الأفكار البالية؛ غير أنّ عظمتها، كأيّ منظومةٍ ميكانيكيّةٍ، لا تكمنُ إلّا في كونها تفاعليّةً خالصةً، مُنحصرةً في تقديم “علاقاتٍ قيميّةٍ” بيولوجيّةٍ لا غير. وإني لأميلُ إلى عدّ الطريقة التي تلقّى بها العلمُ التفسير الدّاروينيّ واحدةً من أظرف المفارقات في التّاريخ البشريّ؛ إذ لم تُقدّم نظريّةٌ قطُّ على حساب العقل الإنسانيّ بمثل هذه الصُّورة! ترى النّاس يتجادلون بجدّيّةٍ حول صواب عقيدة “داروين” أو خطئها، وكأنّما يتنازعون – على سبيل المثال – حول حقيقة أو زيف النّظام العشريّ! وكلّما امتدّت الأيّامُ لاختبار نظريّة الانتقاء الطّبيعيّ، تكشّف عجزُها في مواضع شتّى؛ وهو ما يُشبهُ القول بأنّ من أصرّ على قياس كلّ شيءٍ بمسطرةٍ واحدةٍ، كان لزامًا عليه أن يُواجه، مع الزّمن، أعدادًا متزايدةً من الأشياء التي تأبى الخضوع لهذا القياس! وما أشدّ ما يُدهشُ في هذا السياق، أنّ “بوذا” – وهو بعيدٌ عن أساسيّات الوراثة الحيويّة، جاهلٌ بما يُسمّى بالتّكوينات البدائيّة – قد جاءت الحقائقُ عينُها شاهدةً على حقيقة فكره، أبلغ وأمتن من أيّ برهانٍ! فبالنّسبة لكلّ دارسٍ متبصّرٍ بـ”البوذيّة”، لا تُعبّرُ هذه الحقائقُ عمّا يُعزى إليها في الخطاب البيولوجيّ الحديث، وإنّما تُثبتُ صلاتٍ وثيقةً بين الكائنات الحيّة، ممتدّةً إلى أدنى المراتب الحيويّة، وتكشفُ عن كفاءة “الكارما” في اجتياز الآفاق والتوغُّل خارج نطاق المملكة البشريّة. وكما يحملُ المُسافرُ آثار الطُّرق التي قطعها، فإنّ الجنين – في مختلف أطواره – يحملُ بصمات “السامسارا”، كاشفًا عن قابليّته “للتّرسُّخ” في الأعالي كما في الأغوار، في وفاقٍ مطلقٍ مع ناموس “الكارما”، حيثُ تتجلّى آثارُهُ في العلوّ كما في السُّفول، كلٌّ وفق طبيعته وقدره. وإنّ الأشكال الجنينية، بلُغة الفيزيائيين، لا تكشفُ إلّا عن سعة “اهتزاز” هذه العمليّة العُظمى، وتُبرهنُ على وحدة المنشأ والمورد، إذ نحنُ جميعًا نأكلُ من صحفةٍ واحدةٍ، وإن تعدّدت ألوانُ الطّعام فيها. وإني لأوجّهُ حديثي إلى من يملكون من الاستقلال الفكريّ، والإحساس العميق بحقائق الوجود، ما يُمكّنُهم من أن يمنحوا هذه الحقائق ثقلها الصّحيح. فإنّ القانون الأساسيّ للوراثة الحيويّة، كما فسّره “هيكل”، هو النّقيضُ التامُّ لنظريّة الانتقاء الطّبيعيّ، إذ يأتي – كما هو شأنُ أيّ رؤيةٍ علميّةٍ خالصةٍ – بإيقاعٍ غير مألوفٍ، إذا جاز التّعبيرُ.

ينطلق الأمرُ من اختلافٍ أصيلٍ في الاحتماليّة، وليس للمرء أن يفعل أكثر من مُلاحظة الأعراض التي تُجليها عمليّةُ التّعويض، ممتنعًا عن كلّ تفسيرٍ لكيفيّة نشوء هذه الاختلافات. غير أنّ التفسير الذي يتبنّاه التطوريُّون يُفضي، على نحوٍ لا مفرّ منه، إلى “بدايةٍ أولى” تستندُ إليها الحقائقُ التي يُؤسّسُ عليها قانونُ الوراثة الحيويّ الأساسيّ. إنّهم يجتمعون حول فكرة أنّ “الحياة قد أُعدّتْ إعدادًا”، ومن ثمّ يُخضعون أنفسهم لشكلٍ علميٍّ من الإيمان، يستلزمُ بالضّرورة حربًا ضاريةً ضدّ المؤسّسة الكنسيّة ذاتها؛ فـتلك “الخليةُ البدائيّةُ”، القائمةُ في كمالها، لا تختلفُ – في جوهر الأمر – عن مقولة: “في البدء خلق اللهُ السّماء والأرض”، فكلتا العبارتين ليستا سوى محاولتين مختلفتين لتفسير الحدث عينه. إنه صراعُ الكلب والذّئب؛ خصومةٌ قد يكونُ من شأنها أن تنقلب إلى زمالةٍ، لولا أنّ كلًّا منهما مشغولٌ بمحاولة الظّفر بلقمةٍ من فم الآخر. ولكن، كما هو حالُ جميع الملاحدة في العصور القديمة، ينسى “المونيزم” الحديثُ كذلك أنّ تحدّي الإله في معركةٍ واحدةٍ لا يعدو أن يكون – وفقًا لما يقولهُ السّاسةُ – “اعترافًا به كمبدأ”، وأنّ هذه المبارزة ليست، في جوهرها، سوى نموذجٍ وجوديٍّ [modus vivendi] لكلا الطّرفين. أمّا موقفُ “داروين” الأصليُّ، فينأى بنفسه تمامًا عن هذا المأزق؛ إنّهُ – كما ينبغي لكلّ علمٍ – لا أخلاقيٌّ على الإطلاق، إذ يُسقطُ كلّ الاعتبارات الخارجة عن نطاق الملاحظة والتّفسير الميكانيكيّ؛ فالبُنى الحيويّةُ ليست سوى قطع شطرنجٍ على رقعة الكون، وقد انطلقت اللُّعبةُ، بحيث تتعاقبُ الحركاتُ وفقًا لناموس الضّرورة. بل إنّ “داروين” لا يفعلُ أكثر من أن يقول: “دعونا نفترضُ الآن أنّ السّلف القديم لوقواقنا الأوروبيّ كان ذا عاداتٍ تُشابهُ وقواق أمريكا، بحيثُ يضعُ بيضةً بين الفينة والأخرى في عشّ طائرٍ آخر […]” {أصل الأنواع، ص.212}، وهكذا تمضي الأمور. إنّما يعني بذلك ببساطةٍ أنّ اللُّعبة قد انطلقت، وعليه فحركةٌ تتْبعُ أُخرى! وليس ببعيدٍ أن يُلقّب “داروين” بـ”السيّد الكبير” في فنّ الشطرنج البيولوجيّ، إذ لم يكن ثمّة غايةٌ أبعدُ عندهُ من إضفاء طابعٍ جادٍّ على هذه اللُّعبة، والمُضيّ في استنباط الإجابة عن السُّؤال الجوهريّ: “كيف حدث هذا كلُّه؟”.

*****************

العنوان من اختيار الموقع. رابط صفحة الكاتب على فيسبوك:

https://www.facebook.com/tarik.hnich.3