
عبد الخالق حسين ـ رئيس المجلس العلمي لطانطان
كنت أسمع بأخبار متواترة عن كرمه وعظم “تخمامه”.. والأجمل تكريمه وحبه لأهل القرآن..
وتمنيت أن أراه.. إنه الشيخ سيدي إبراهيم ولد الرشيد..
ولقد جاء الإذن الرباني بأن أراه.. فرأيته؛ بل “استقبلته” في بيته، وهذا من أعجب ألوان الكرم والتسامح والمحبة؛ أن تجد نفسك في بيت غير بيتك، وفي نفس الآن تستقبل صاحبه كأنك في بيتك..
نعم، أحس بشيء من التفلسف يخترق تعبيري.. لكنها الحقيقة التي تشبه الهذيان..
إنه الشيخ الفاضل الأصيل الشريف، ابن الأكرمين، سليل الشرفاء الرقيبات الوطنيين، سيدي إبراهيم ولد الرشيد، الأخ الأكبر لحمدي ولد الرشيد..
كنا نجري المسابقة النهائية لحفظ وتجويد القرآن الكريم بمسجد مولاي عبد العزيز يوم الاثنين 24 فبراير 2025.. يدخل مع الوفد الرسمي ليشارك في الجلسة القرآنية الربانية المباركة..
يدخل المسجد مبتسما في وجه من يعرف ومن لا يعرف، ويأخذ مكانه بجوار السيد والي العيون الساقية الحمراء، وبمحاذاة أخيه حمدي..
تبدو على الرجل سمات الصلاح والوقار.. ينتهي الحفل، فينادى عليه ليسلم جائزة من الجوائز..
كنت أتملى في حركات الرجل بدقة وإمعان؛ إنها خصال أهل الصحراء الأصلاء مجتمعة فيه؛ رزانة وشهامة في تواضع، وقدرة على التعبير عن التقدير للآخر..
بعد انتهاء الحفل القرآني، أُخبرنا بأن الحاج سيدي إبراهيم مستدعٍ الجميع لحفل غداء ببيته الكريم..
ودعنا السيد الوالي وتوجهنا إلى حيث اللقاء.. وجدنا في الاستقبال الحاج سيدي إبراهيم، ببَردته الجميلة، وابتسامته الأجمل، يعانقك وبحر قاموس من الترحيب “لا ساحل له” يغرقك.. بل تكاد سريرته تطل عليك بصفائها مرحبة لعجز الكلمات..
دخلنا البيت، وبمجرد الدخول؛ تغمرك روحانية خاصة، وكأن الحيطان تهمس لك: “هذه زاوية ذكر؛ اسم الله فيها كثيرا”..
تشعر كأنك في بيتك؛ تحملك نفسك على التنقل في أرجاء بيت الضيافة كما تشاء، تقصد هناك لتجري مكالمة، وتنتقل إلى هناك لتسلم على من لم تلتقه منذ شهور.. تحدثنا بكل عفوية، وتبادلنا الضحكات والابتسامات؛ كان حفلا بهيجا، لحظة من لحظات الجنان..
زينت الموائد بما لذ من الطيبات، وجللت الأجواء بما أنعش من البخور والروائح الزكية..
طيلة المدة التي قضيناها ضيوفا عند الحاج سيدي إبراهيم، وهو يجول بين الموائد مكررًا عبارات الترحيب والفرح بلهجته الحسانية الجميلة: “مرحبة بيكم كبيرة.. وسهلة ووهلة”..
حدثنا عن بيته، وأنه محل استقبال الوفود والشخصيات الوطنية، وأنه بيت يختزن ذاكرة الدفاع عن الوحدة الترابية للمملكة، وعن أخوة الشمال والجنوب..
ذكر وعدد شخصيات جلست هنا، وتشاورَت هنا، وتعاهدت عهد الله على التعلق بالأرض وخدمة إمارة المؤمنين..
يؤثث الحاج سيدي إبراهيم فضاء الضيافة بلوحة سُطِّرَت عليها “الكلمة والشهادة” المؤثرة التي شهد بها في حقه وحق جهاده وتضحياته المندوب السامي للمقاومة وجيش التحرير الدكتور لكَثيري.. حيث طلب الحاج إبراهيم من الأستاذ، الذي كان قد بدأ يلقي قصيدة في مدحه، أن يقرأ بدل القصيدة شهادة المندوب السامي على مسامع الحضور..
كانت كلمة مدونة بمداد الاعتراف ورد الجميل إلى الحاج إبراهيم ولد الرشيد، ومنه إلى أسرة أهل الرشيد.. اكتشفت من خلال السرد والكلمات المنتقاة بعناية الدكتور لكَثيري، عظمة (الأسر الصحراوية) الأصيلة، التي تجمع بين “الشرف” الممتد إلى الجد الولي العارف بالله سيدي عبد السلام بن مشيش قدس الله سره، ومنه إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين الإخلاص والوفاء بالبيعة لساداتنا أمراء المؤمنين بالمملكة الشريفة..
لقد أخطأ الاستعمار وانهارت نظرياته الانقسامية والتآمرية عندما توهم أن أهل الصحراء يمكن إغراؤهم وشراء ذممهم (بمصالح مادية دنيوية).. نعم، لقد أنتجت المدرسة الكولونيالية آلاف الدراسات والمونوغرافيات والوثائق حول الشرف والزوايا والأولياء في المملكة المغربية الشريفة، وخاصة في الصحراء؛ كان الاستعمار يحاول فهم (ما لا يُفهَم).. ويستوعب بالعقل (ما هو فوق العقل)..
أليس من الأوراد الروحانية في زوايا الصحراء الذكر بالاسم المفرد، وبترديد “هو.. هو” أي: هو الله الذي لا إله إلا هو..؟
في “الهو” الغائب الحاضر، تاهت بحوث ودراسات وفلسفات وعقلانية “ديكارت والاستعمار”..
استمعت لشهادة الدكتور لكَثيري في الحاج إبراهيم ولد الرشيد، وقلت في نفسي: (سيدي إبراهيم ولد الرشيد رجل من أهل الله؛ يعشق مجالسة أهل القرآن، ويكرم العلماء والصالحين؛ فليس مستغربًا أن يمده الله بسر القبول، والحكمة، وجمع الشمل..)
في آخر الضيافة، كرر الحاج عبارات الترحاب، وألبس دراعية فاخرة للدكتور عبد الرحيم الأمين، مدير معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية، كهدية تليق بمقام الضيف.. وبعد رد الدكتور بكلمات شكر وتقدير على الهدية، طلب من الحاج إبراهيم أن يقول كلمة بالمناسبة؛ فأجاب بكلمات تدل على أن الرجل (سليل خيمة كبيرة من أهل الصحراء)، قال: “أنا لست في مستوى ومقام الكلام أمام العلماء”..
هكذا، بتواضع الكبار والعظماء، اعتذر الحاج إبراهيم عن الكلام.. ثم أضاف: “هذا البيت عندما يدخله حفظة القرآن والفقهاء والعلماء، يكون من الواجب علينا أن نستمع، وليس أن نتكلم!!”..
حفظك الله، سيدي الحاج سيدي إبراهيم ولد الرشيد، الشريف الأصيل..
صدقني، لقد ذكرتني بأخلاق وسمت وكرم “والدي” الشاف لحسن رحمه الله، وبأخلاق جيله كله، جيل المقاومة وجيش التحرير.. الجيل الذي “بتخمامه الكبير” دافع عن الدين والتقاليد والأسرة والصحراء والبيعة وإمارة المؤمنين..
ولا يزال يقدم لنا -على كبر السن وشيبة الرأس- الدروس والقيم والرؤية والذاكرة، في زمن يُراد لنا أن نعيش (بلا ذاكرة)..
زادك الله، سيدي الحاج إبراهيم ولد الرشيد، علمًا وحكمة ومددا وسرا..
وإنه لإحساس باطني أترجمه كلمات: “ما دام مثلك يمشي في حاضرنا، فلا خوف على مستقبلنا.. فقد جمع صدرك محبة القرآن والصفاء، وجمع بيتك الوفاء بالبيعة وشهامة الصحراء”..
فهنيئا لمدينة العيون بسرّك، وللمملكة الشريفة بجهادك..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23713