سعيد الكحل
قدر المغرب الجيوسياسي أنه يجاور دولتين تكنّان له العداء بخلفيات إما إيديولوجية (حالة الجزائر التي لازالت سجينة الحرب الباردة والصراع بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي الذي انهار مع انهيار جدار برلين واسترجاع ألمانيا لوحدتها ، بينما لم تتحرر الجزائر من ذاك الإرث الإيديولوجي الذي كلف شعبها الكثير وأضاع عنه فرص التنمية وتحديث بنيات الدولة والاقتصاد) ، أو خلفيات استعمارية توهم إسبانيا أنها لا زالت تلك “الإمبراطورية” التي غزت قارتي إفريقيا وأمريكا واستنزفت خيراتها قرونا.
لقد انتهى عهد الإمبراطوريات لكن لم تنته ثقافته ولا أوهامه لدى الدول الأوربية. لقد ترجم البرلمان الأوربي تلك الثقافة الاستعمارية البائدة إلى قرار يمس بمصالح المغرب ويثبط عزيمته على لعب دور الشريك المتعاون والفعّال في حماية المصالح المشتركة بينه وبين الدول الأوربية .
وأثبت البرلمان الأوربي أن كل الشعارات والمواثيق التي تتغنى بها الدول الأعضاء هي مجرد أكاذيب ومساحيق لتجميل البشاعة التي تخفيها شعارات حقوق الإنسان وتقرير المصير ومناهضة الإرهاب والاتجار في البشر . وأيا كانت لغة قرار البرلمان الأوربية أو مضامينه ، فقد جاء معبرا عن النزعة الاستعمارية التي ظلت تحكم السياسات الأوربية تجاه دول الجنوب التي لا تسمح لها بتقرير مصيرها ومصير خيراتها وثرواتها الوطنية. إذ ظلت ولازالت تتعامل معها على نفس النهج الاستعماري الذي يمكّنها من ثرواتها كما لو أنها لم تحصل بعدُ على استقلالها .
لم تخفِ الدول الأوربية وجهها الاستعماري وهي تقر ، عبر برلمانييها ، أن حدودها الجنوبية تمتد لتشمل سبتة ومليلية والجزر المغربية التي تحتلها إسبانيا. حينها لم يؤنبها ضميرها الإنساني وتنبهها المواثيق الأممية إلى كون الثغور المغربية المحتلة ليست فقط صخورا و”أرضا خلاء” كما ظلت تزعم إسبانيا قبل أن تجهز المسيرة الخضراء على أحلامها الاستعمارية في الصحراء المغربية، بل ثغور يعمّرها المغاربة على مر التاريخ. وآن للمغاربة هناك أن تطبق عليهم تلك المواثيق الدولية وتراعى في أوضاعهم حقوق الإنسان في بعدها الكوني.
فإسبانيا لن تتخل عن إرثها الاستعماري ولن تغفر للمغرب “معجزة المسيرة الخضراء” التي اقتلعت جذور الاستعمار دون إطلاق رصاصة أو إراقة قطرة دم. ستظل مرارة الهزيمة والخيبة في فقدان الأقاليم الصحراوية التي اعتبرها الإسبان وطنا لهم لن يطردهم منه أحد، تخنق الإسبان ، مهما غيروا الحكومات.
لهذا يزداد مكر الإسبان خبثا كما تزداد خطورة كيدهم. هم يدركون افتخار المغاربة بأمجادهم الذين هزموا جيوشهم شر هزيمة، لهذا يخشون اللحظة التي يستعيد فيها المغرب قوته فيقرر تحرير ثغوره كما حرر صحراءه . خشية لم تزد الإسبان إلا مكرا وعداء وتآمرا على وحدة المغرب واستقراره .
ومن مكرهم وتآمرهم :
1 ــ دعم البوليساريو دوليا وإعلاميا واحتضان تمثيلياته وأنشطته العدائية التي تؤمّنها الأجهزة الأمنية وتشجعها على استهداف الرموز الوطنية : الاعتداء على قنصلية المغرب في فالنسيا من طرف عناصر البوليساريو عقب تحرير الجيش المغربي لمعبر الڴرڴارات وطرد عصابة الانفصاليين،دون أن تتدخل السلطات الأمنية الإسبانية في منع أو اعتقال الجناة. في شتنبر 2015 أمر قاضي بلدية “Liodio” بمقاطعة باييس باسكو الإسبانية، ناتشو أركيتشو، بوضع علم جبهة “البوليساريو” الانفصالية فوق بناية المؤسسة الحكومية بجانب سبعة أعلام أخرى في إشارة منه إلى الاعتراف بها .
كما أقدمت بلدية “توتانا”، بمدينة مورسيا شرق إسبانيا، على المصادقة بالإجماع على مقترح يروم تقديم الدعم لمن أسمتهم بـ “الشعب الصحراوي” .فإسبانيا لا تدعم البوليساريو لسواد عينه ، وإنما تفعل هذا لإطالة أمد الصراع الذي يخدم إسبانيا من جهتين:
ــ الأولى: شرنقة المغرب بصراع يستنزف قدراته وإمكاناته مما يعرقل جهود التنمية وبناء اقتصاد قوي يضمن للمغرب التفاوض من موقع قوة لضمان مصالحة ووضع حد لكل ابتزاز.
ــ الثانية: توظيف البوليساريو لابتزاز المغرب وإغراء الجزائر حتى تدفع أكثر مقابل هذا الدعم .
2 ــ استقبال زعيم البوليساريو بهوية مزورة، مما يعد فضيحة دبلوماسية وقانونية وأخلاقية تسيء إلى مؤسسات الدولة وقوانينها ودستورها، خصوصا وأن زعيم البوليساريو مطلوب إلى العدالة الإسبانية نفسها بسبب ما ارتكبه من جرائم في حق ضحاياه من الإسبان ومن المغاربة الصحراويين والأسرى العسكريين. إن الحكومة الإسبانية تصرفت وكأنها فوق القانون والأعراف الدولية.
3 ــ توظيف عضويتها في الاتحاد الأوربي لاستغلاله في مهاجمة المغرب والضغط عليه من أجل مزيد من الابتزاز واستغلال خيراته. فقد دأبت إسبانيا على الاستفادة من ثروتنا السمكية مستغلة حاجة المغرب إلى الاعتراف الأوربي بسيادته على الأقاليم الصحراوية المسترجعة. فالمغرب كان يحرص على أن تشمل اتفاقيات الصيد البحري المياه الإقليمية للأقاليم الصحراوية مهما كلفته من تنازلات.
4 ــ محاولات تشكيل تكتل أوربي للضغط على الرئيس الأمريكي جون بايدن ، لسحب قرار الاعتراف بمغربية الصحراء . فإسبانيا تدرك أهمية هذا القرار وخطورته على مصالحها وسياستها الابتزازية تجاه المغرب. لهذا لم تستسغ قرار الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” الاعتراف رسميا بمغربية الصحراء . قرار عزز موقع المغرب وعضد مواقفه في مواجهة هذا الابتزاز الإسباني . فمغرب اليوم مسنودا بالقرار الأمريكي ومدعوما بقرارات عدد من الدول الشقيقة والصديقة فتح قنصلياتها بمدينتي العيون والداخلة ، ليس هو مغرب الأمس الذي تكالبت عليه دول الاستعمار القديم ولم ترد له أن يعاملها معاملة الند.
إن إسبانيا لا تخفي حذرها من المغرب كما لم تتخلص من تأثير الماضي ومخلفات الهزائم التي ألحقها بها المغرب في مفاصل تاريخية مهمة (معركة الزلاقة، الأرك، معركة أنوال..). سيظل الإسبان متوجسين من تنامي القدرات العسكرية والاقتصادية للمغرب الذي بات ينافس إسبانيا، وقد يتفوق عليها في المدى القريب إذا أحسن استثمار مقدراته.
أمام الغطرسة الإسبانية ومكرها، ليس أمام المغرب سوى استثمار كل الفرص المتاحة له بدءا بإعادة النظر في كل الاتفاقيات التي تربطه بالاتحاد الأوربي في مجال الفلاحة والصيد البحري، وانتهاء بالبحث عن أسواق واتفاقيات دولية لا يخضع فيها للابتزاز مع مزيد من تضييق الخناق على إسبانيا باعتبارها المستفيد الأول من كل الاتفاقيات التي تجمع المغرب مع الاتحاد الأوربي.
لقد اختارت إسبانيا خندق العداء للمصالح العليا للمغرب فلتتحمل تبعات تخندقها.
Source : https://dinpresse.net/?p=14874