ترجمة يوسف اسحيردة
فقد الفيلسوف أندريه كونت سبونفيل الإيمان حين كان مراهقا، و”هذا كان تحرّرا”، كما كتب في كتابه “روح الإلحاد”. مُتشبعة بالأناجيل وتعاليم بوذا كما سبينوزا، هذه الروح المتعطشة للمطلق، في ظل غياب القدسية، تضع حيز التطبيق “روحانية من دون إله” .
المجلة (Le monde des religions): ماذا تعنون ب “روحانية من دون إله”؟
أندريه كونت سبونفيل: ما هي الروحانية؟ إنها حياة الروح، خاصة في علاقتها باللانهائي، بالخلود، وبالمطلق. كل ديانة تعبر عن ذلك، على الأقل في جانب منها؛ لكن ليست كل روحانية هي ديانة بالضرورة. الملحدون، هم أيضا، يملكون حياة روحية: فهم يعيشون، قدر المستطاع، علاقتهم النهائية باللانهائي، علاقتهم الزمنية بالخلود، علاقتهم النسبية بالمطلق. هذا المطلق، بالنسبة لهم، ليس شخصا، ولكنه الوجود أو الصيرورة، الكل أو الطبيعة، لِنَقُل هو المجموع المحايث الذي يحتويهم ويتجاوزهم. بإمكانهم مساءلته والتفكير فيه، وهذا ما ندعوه بالميتافيزيقا، كما يمكنه تجربته وعيشه، وهذا ما ندعوه بالروحانية. نحن منفتحون ضمن المنفتح، كما يقول ريلكه. هذا الانفتاح، هو الروح نفسها. هل من واجبي، بصفتي ملحدا، التخلي عن كل تجربة خلود، وعن كل تجربة لانهائي ومطلق؟ طبعا لا ! الكثير من الفلاسفة – على سبيل المثال أبيقور أو اسبينوزا– رفضوا إمكانية وجود روح متعالية، دون التخلي عن الاستمتاع بما كان يدعوه أبيقور بـ “الخيرات السرمدية”. هذا ما أدعوه برُوحَانِيةٍ ضمن المُحَايِث. نحن نُوجد مُسبقا في المملكة: الخلود، هو الآن.
المجلة : لِمَ تفضلون بأن يكون الإله غير موجودٍ؟
أندريه كونت سبونفيل: هذا ليس تفضيلا ! كنت لِأُفَضِّلَ في المقابل أن يكون الإله موجودا، وهذا من بين أسباب عدم إيماني به. وجود مُوافق، إلى هذا الحد، لرغباتنا الأكثر قوة، كيف لنا ألا نشك لحظة في أنه ابتُكِرَ من أجل تلبيتها؟ هذا ما يدعوه فرويد وهماً: إيمان مُشْتَقّ من رغبات البشر. بما أنه لا وجود لكائن، بالتعريف، مرغوب فيه أكثر من الإله، فلا وجود لفكرة تنطوي على وهم أكبر من فكرة الإيمان بوجوده. ثم هناك قسوة الشر (خاصة معاناة الأطفال)، دناءة الإنسان (بداية من دناءتي)، غياب أي دليل حقيقي… لِمَ عليَّ أن أُومن بوجود إله لا شيء يدل عليه، إله لا أملك عنه أي تجربة، إله لا يفسر كل شيء إلا لأنه هو نفسه يظل عصيا على الفهم. يبقى أنِّي لست ملحدا دوغمائيا. فكما أنه لا وجود لأدلة على وجود الإله، فلا وجود أيضا لأدلة على عدم وجوده. إلحادي ليس علما؛ إنه اعتقاد أو اقتناع.
المجلة: بالنسبة لكم، ما مصير الإجابات التي تقدمها الديانات؟
أندريه كونت سبونفيل: روحانيتها ليست هي روحانيتي. مضمونها الأخلاقي، في المقابل، يواصل إضاءتي. لنفترض بأن عيسى لم يُبعث من جديد في اليوم الثالث؛ هل هذا من شأنه المساس برسالته التي ملؤها الحب والسلام؟ بالطبع لا ! أنا أفعل مثل سبينوزا، الذي لم يكن مسيحيا أكثر مني: أحاول أن أبقى وفيا ل ” روح المسيح”، التي أساسها “العدالة والمحبة”. المسيحية، ورغم انحرافات الكنيسة، تنتمي إلى أفضل ما أنتجته البشرية، مثل التراث السقراطي في اليونان، البوذي في الهند، الطاوي أو الكونفشيوسي في الصين… الروح لا تملك موطنا، وهذا أفضل أكثر.
المجلة : هل تفضل المسيحية؟
أندريه كونت سبونفيل: عاطفيا، نعم: المسيحية تشكل جزءا من تاريخي. فكريا، أجد نفسي أكثر قربا من البوذية أو الطاوية – وأكثر من التشان (زن) الذي هو بمثابة توليفة بين الاثنين – لأنها روحانيات من دون إله. بالنسبة لملحد، يُعتبر هذا الاختيار أكثر ملاءمة على كل حال ! ومع ذلك، فأنا أتوخى الحذر بخصوص السياحة الروحية، سواء كانت عصرية جديدة أو استشراقية. أحب أكثر تعميق التراث الذي أنتمي إليه، تراث فيلسوف غربي. ثم إننا لا نتعافى من طفولتنا، وطفولتي كانت متدينة جدا. منذ ذلك الوقت، وعلى امتداد السنوات، قمت بصياغة نوع من المسيح الداخلي، الذي هو ليس ربّا ولا ابن للربّ، ولكنه إنسان “وديع ومتواضع القلب”، كما يقول عن نفسه، والذي، وإن كنت لا أشاركه الإيمان، فأنا معجب بحكمته. في العمق، ما يقوله عيسى عن الإنسان وعن هذه الحياة يهمني أكثر مما يقوله عن الربّ وعن حياة مفترضة بعد الممات.
المجلة: روحانية إلحادية ومستلهمة من ديانة أخرى، هل ستكون مختلفة؟
أندريه كونت سبونفيل: كل واحد مِنَّا يُمَثِّلُ تقليدا، أو عدة تقاليد. أن يكون المرء ملحدا في أرض الإسلام أو البوذية، أمر يجب أن يُعاش بالضرورة بشكل مختلف عن أوروبا. لكنني لا أملك خيارا: أنا إنسان غربي، سواء أردت ذلك أم لم أرد. لن أقوم بحلق شعر رأسي وارتداء زَيٍّ برتقالي فاقع، أو إنشاء دير في منطقة أوفيرن. أصدقائي اليهود، بهذا الصدد، ساعدوني على الفهم. الكثير منهم يقدمون أنفسهم ك ” ملحدين يهود”: ملحدون لأنهم لا يؤمنون بأيّ إله، يهود لأنهم يعون ويقبلون بكونهم طرفا في تاريخ، وتراث، وجماعة… وقد حدث معي، تقريبا وفق تفكير مماثل، أن قمت بتعريف نفسي ك “ملحد وفيّ”، بل وحتى ك “غُوي مُكْتَسَب”(غوي هي مفرد غوييم، ومعناها الغرباء عند اليهود). إنّها طريقة في التعبير عن وفائي، مهما كان نقديا، نحو التراث اليهودي-المسيحي، الذي أصبح من الشائع الآن احتقاره، والذي لا أتوقف عن الإعجاب بعظمته. الوفاء هو ما يتبقى من الإيمان حين نفقده: الشعور بدين، وبالتالي أيضا التكليف بنقل. ما يهددنا اليوم، بالأخص في أوربا، ليس هو التعصب الذي هو بمثابة مبالغة في الإيمان، بقدر ما هو العدمية التي هي بمثابة نقص في الوفاء.
المجلة: ماذا عن المجتمعات: هل بإمكانها الاستغناء عن الدين؟
أندريه كونت سبونفيل: إذا ما أخذتم كلمة “دين” من ناحية ضيقة، كإيمان بإله خالق، ومجسد، ومتعال، في هذه الحالة، إذن الإجابة بشكل بديهي هي نعم: كثيرة هي الحضارات التي ازدهرت دون تَخَيُّلِ أي شيء من هذا القبيل! في المقابل، لا يمكن لأيّ مجتمع الاستغناء عن الوفاء، والقواعد، والتقاليد، والطقوس. لا وجود لمجتمع يمكنه الاستمرار دون شكلٍ من أشكال المشاركة. هل الممارسة الدينية وحدها الكفيلة بلعب هذا الدور؟ التجربة تثبت العكس. يمكننا أن نجتمع أيضا تحت راية عدد معين من القيم المشتركة (الحرية، المساواة، الأخوة، العدالة، الحب…)، حتى عندما نعتبرها صناعة بشرية فقط.
المجلة : هل من الممكن أن تتحول هذه الروحانية اللائكية إلى ديانة “الإنسان”، “الجمهورية”؟
أندريه كونت سبونفيل: عندما نفقد الإيمان بالإله، من الممكن أن يغرينا استبداله بشيء آخر، يأخذ مكانه. وضَرَرُ هذا، في نظري، أكثر من نفعه. تم تصوير الماركسية على أنها “ديانة التاريخ”. إنه مُكَوِّنُهَا الخلاصي (messianique): البروليتاريا تأخذ مكان المُخَلِّص، والشيوعية مكان الجنة… أرى في الأمر عبادة لوثن التاريخ. سيمون فايل عبرت عن ذلك بدقة حين قالت: “إذا كنت تعتقد بأن لديك أبا هنا على هذه الأرض، حتى وإن كنت مُوحدا، فأنت وثني”. الأصنام تُوجد بكثرة: الدولة عند هيجل، الإنسان عند فويرباخ، التاريخ عند ماركس، الجمهورية، ربما، عند البعض… في المقابل، تكمن عظمة التوحيد في كونه ابتكر التعالي والسمو. هذا تطور، ندين به لليهودية. الآلهة رحلت: “لم يبق سوى الصمت الهائل، في كل مكان حاضر”، كما كان يقول آلن. لا أملك أي حنين للإحيائية أو الشِّرك، بل العكس هو الصحيح، كما لا أشعر بأي انجذاب نحو الأصنام.
المجلة: في الأخير، ما الفرق الذي تقيمونه بين الروحانيات الإلحادية والدينية؟
أندريه كونت سبونفيل: في الدين، المُطلق عبارة عن شخص، صحيح أنه مُفارق ومتعالٍ، ولكن بإمكاننا مقابلته، والتضرع إليه، وعبادته. “إله، أقرب إليَّ من نفسي”، كما كان يقول أوغسطين، وأعلى، مع ذلك، من السماء… أرتاب من هذا العلو الذي يسحق كل شيء، كما أرتاب من هذا الانطواء على الذات الذي يسجننا في كينونتنا الداخلية. أومن أكثر بالروحانيات التي تفتحنا على العالم، التي لا تعرف مُطلقا آخر غير الواقع، ولا لانهائيا آخر غير الطبيعة، ولا خلودا آخر غير الحاضر. إنها روح ابكتيتوس، واسبينوزا، وكامو، كما هي أيضا، بحسب ما فهمته منها وما عشته، روح الزن. لا يتعلق الأمر بإنقاذ الأنا، ولكن بإنقاذنا منه، وبالتحرر منه على قدر المستطاع. المُطلق ليس هو هدف الطريق، ولكنه الطريق نفسه. الروحانية هي هذا المسار، الذي نعيشه في غالب الأحيان من وجهة نظر الزمن، بعبارة أخرى ضمن الحياة اليومية، بحُلوِهَا ومُرِّها، والتي قد يحدث معنا أحيانا أن نختبرها من وجهة نظر الخلود، كما يقول اسبينوزا : “sub specie aeternitatis”
المجلة: أنتم أيضا تدافعون على نوع من الصوفية؛ فيمَ هي ليست دينية؟
أندريه كونت سبونفيل : لأنها لا تفترض أي تعالٍ، أي عقيدة، أي إيمان، أي أمل! فقد حصل معي – أحيانا، نادرا – أن عشت ما ندعوه اليوم ب “حالة ذهنية مُعَدَّلَة”: الالتقاء المفاجئ بين الغرابة والبداهة، تجربة امتلاء، وبساطة، ووحدة، وصمت، وخلود، وطُمأنينة، وقبول (ولكن فَرِحٌ، فرِحٌ للغاية)، مثل سلام لا حدود له… هذا ما يدعوه فرويد، مستشهدا برومان رولان، ب ” الشعور المحيطي” الذي سبق أن جرَّبه الكثيرون، سواء كانوا مؤمنين أم لا. أنا واحد منهم، ولم يسبق لي أبدا أن عشت شيئا مماثلا من حيث القوة والسعادة. إذن، “نحن نحس ونختبر كَوْننا خالدون”، كما يقول سبينوزا، أو بالأحرى كَوْن الحاضر والخلود هما نفس الشيء، كالسَمْسارا والنيرفانا عند الفيلسوف البوذي ناغارغونا. لا نَعُود مفصولين عن الواقع بواسطة الأنا: لا يعود هناك وجود إلا لكل. كوجيف يقول بأن “كل صوفي أصيل، هو في الواقع ملحد إلى حد ما”. لن أذهب إلى هذا الحد. ما أستطيع الإشارة إليه، في المقابل، هو أن شخصا ملحداً ليس مجبرا على استئصال روحه: روحه، مثل أي شخص آخر، قادرة على الانفتاح بفرح، حتى أقصى نقطة حيث تبلغ ذروتها من خلال إلغاء ذاتها.
حاوره فابيان تريكور (Le monde des religions n° 57)
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7716