د. عبد النور بزا
من المعلوم أن التكاليف الشرعية منها ما هو عيني خاص بأفراد المكلفين، ومنها ما هو كفائي عام؛ ممثلا فيما له علاقة بتدبير الشأن العام السياسي بما يعنيه من سلطات سياسية، ومناصب حكومية وما يتبعها من مؤسسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية وصحية وإعلامية وعسكرية ودبلوماسية … إلخ
وكل هذه التكاليف العينية أو الكفائية؛ مشروطة باستيفاء شروط التكليف؛ وهي: البلوغ والعقل والقدرة؛ بحيث كل من توفرت فيه؛ فهو مخاطب بأحكام الشريعة؛ العينية الخاصة، أو الكفائية العامة أيضا.
وما يهمنا هنا؛ هو سؤال التكليف السياسي بحكم أن السياسة فعل كباقي الأفعال التكليفية الكفائية المنوطة بمن يتولاها؛ كما هو المستفاد من ماهيتها؛ ذلك أن ” السياسة هي: ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، ولو لم يشرعه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا نزل به وحي.”
وهذا يعني؛ أن السياسة الشرعية هي مجموع الأفعال السلطانية والإجراءات والتدابير المصلحية التي يتخذها أولو الأمر/ الحاكمون لفائدة الأمة، ولو لم يأت فيها حكم شرعي خاص ؛ كما قال ابن نجيم:” السياسة هي فعل شيء من الحاكم لمصلحة يراها، وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي.” ولم تمض فيها سوابق تاريخية على العهد النبوي والخلافة الراشدة ومن اقتفى أثرها.
وعليه؛ فإن السياسة ليست محصورة فيما نصت عليه الشريعة من أحكام؛ بل تشمل منصوصاتها وكل ما وافقها، ولم يناقض مقاصدها من الاجتهادات السياسية والإبداعات التدبيرية في تنظيم العمران، ورعاية المصالح العامة في جميع أبعادها الدنيوية والأخروية. وكل ذلك وفق ما تقتضيه مراتب التكليف السياسي من وجوب أو تخفيف أو إسقاط؛ وفيما يلي بيان كل مرتبة وما تعنيه:
1- واجب التكليف السياسي؛ فمتى استوفى الفاعل السياسي؛ ( رئيس الدولة، أو ممثل الأمة، أو أي مسئول سياسي آخر ) شروط الولاية السياسية: ( البلوغ والعقل والقدرة ). أعني كل من بلغ سن التكليف السياسي؛ وهو في كامل قواه العقلية؛ وتمام قدرته البدنية؛ فهو مطالب بفعل كل ما تعين في حقه من خدمات مصلحية كفائية؛ لفائدة الأمة كلها، أو أغلبها أو بعضها.
وبكلمة أخرى؛ إن واجب التكليف السياسي؛ من الواجبات الشرعية الكفائية التي لا تتم إلا بشروطها وانتفاء موانعها. فكما أن الصلاة وإمامتها لا تصح إلا بشروطها وانتفاء موانعها؛ فكذلك هي السياسة وقيادتها؛ وكل ما في معناها من مشمولاتها، وهو ما يقطع بأن من يتولى تدبير الشأن العام بجميع مؤسساته السياسية أو الاقتصادية، أو الاجتماعية أو التعليمية أو الصحية، أو العسكرية، أو الدبلماسية، وغير ذلك من مؤسسات الدولة المدنية والعسرية؛ فهو ملزم بواجب التكليف السياسي الكفائي العام؛ متى توفرت لديه شروط التمكن التام؛ عملا بقوله تعالى:﴿ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.﴾ ( الحج: 41 ).
وهذا يعني أن القيادة السياسية ذات المرجعية الإسلامية؛ إذا كانت دولتها مكتفية بذاتها؛ وهي في منعة من أعدائها؛ آمنة في سربها على جميع المستويات، ولها قوتها العام، ودواؤها اللازم، وليست في حاجة لغيرها في جميع المجالات؛ المدنية والعسكرية؛ فهي مطالبة – والحالة هذه- بما يقتضيه تمام شرط التكليف السياسي، من تنزيل لأحكام الشرع بما يوافق قصد الشارع، ويخدم مصالح الأمة في الداخل والخارج، والاجتهاد في ذلك إلى أبعد الحدود، بحيث يعم الخير والرحمة والعدالة والكرامة كل من يعيش في كنفها ويتعامل معها، وهي في نمو مطرد وتقدم مستمر، بما لديها من قوة وهيبة وأبهة لا يجرأ معها أحد على التفكير في مناوشتها، أو الاعتداء عليها من قريب أو بعيد، وهذا هو المؤمل في كل دولة ذات قيادة شرعية نابعة من اختيار الأمة وعاملة باطراد في اتجاه امتلاك شرط التمكن بما يعنيه من صلاح أخلاقي وخبرة ميدانية وحنكة سياسية وتأييد شعبي عام. لأن قيام الدول ودوامها من غير عصبية ( قوة مادية ومعنوية ) لا يتم. كما هو المستفاد من قول ابن خلدون في مقدمته.
2- تخفيف التكليف السياسي؛ فمتى عجز الفاعل السياسي عجزا جزئيا، عن القيام بما يلزمه القيام به من واجبات التكليف السياسي المصلحي العام؛ فما عليه إلا أن يقوم بما استطاع منه، ولا يكلف الله نفسها إلا وسعها.
وهذا يعني؛ متى بدل الفاعل السياسي قصارى جهده في تدبير شؤون الدولة بما يخدم مصالح الأمة؛ لكنه واجه من الموانع والضغوط والإكراهات الداخلية والخارجية ما أعجزه جزئيا عن القيام بواجب التكليف المنوط به على وجهه الأكمل؛ ففي هذه الحالة ما عليه إلا أن يجتهد في تدبير شؤون الدولة والأمة بما يخدم مصالحهما العامة قدر الإمكان، ولا حق لأحد أن يطالبه بما ليس في الإمكان من المواقف، أو التدافع، وليس له من القدرة ما يقوى به على ذلك.
وحينها؛ يبقى القرار موكولا لما يراه -رئيس الدولة مثلا- بمعية من معه من المستشارين والخبراء والمؤسسات الدستورية وذوي الكفاءة، في فقه المقاصد وفقه الواقع، لوضع الخطط الاستراتيجية والتدابير المناسبة لمعالجة المعضلات والنوازل المختلفة بحسب كل مجال من المجالات المدنية أو العسكرية، وما يتطلبه من سياسات ملائمة لواقع الحال في الداخل و الخارج بقدر الإمكان.
وعليه؛ فكلما كانت أوضاع الأمة والدولة وظروفها وإمكاناتها محدودة، ولا تسمح لها برفع سقف التحدي والمواجهة أمام قوة خصومها في الداخل وأعدائها في الخارج، وجب عليها الاكتفاء بالتوافقات الداخلية مع مختلف الفرقاء السياسيين، وتوقيع اتفاقيات السلام والمهادنة الخارجية مع المتربصين بها من الأعداء الحقيقيين، والمحتملين. بمقتضى آيات السلم، والمعاهدات وما في معناها من السوابق التاريخية النبوية والخلفائية في هذا الشأن.
ولا حق لأي كان أن يملي عليها من القرارات والفتاوى والمواقف الداخلية والخارجية، وهو بعيد كل البعد عن مجالات التدبير الداخلي، وميادين المدافعة الخارجية مع مختلف المتربصين بها وهم يملكون من القدرة ما يزيلها من خريطة العالم أصلا، وهي لا قبل لها بذلك كله، ولا علم للمنتقدين لها به من قريب ولا من بعيد.
وكل هذا ليس من باب التسويغ أو الدفاع عن من نحب من القيادات السياسية الواعية بما تفعله، وما تريد تحقيقه على المدى المتوسط والبعيد. كما هو الأنموذج التركي بقيادة السيد رجب أردغان، على سبيل المثال.
وعليه؛ فالعاقل من يميز بين خير الخيرين؛ فيفعل أخيرهما، ويميز بين شر الشرين؛ فيترك أشرهما. أي من يفرق بين الأصلح فالأصلح من الأعمال والعلاقات والمواقف … فيقدم على الأكثر مصلحة منها، ويفرق بين الأفسد فالأفسد من الأفعال والارتباطات والمواقف … فيحجم عن الأكثر مفسدة منها. وهو الميزان الذي جاءت به الشريعة وأرشدت إليه.
وما على دعاة الإصلاح وقادة الدول الناهضة بأمتنا؛ إلا أن يسترشدوا بهذا المنهج ويتسلحوا به ويأخذوا بأحسنه، ويتعاملوا بمنطقه في إدارتهم للشأن العام؛ بحيث تصبح قاعدة التفاضل والترتيب والتقديم والتأخير والموازنة والترجيح، بين الصالح والأصلح والمفيد والأفيد، والحسن والأحسن، والفاسد والأفسد، والقبيح والأقبح، والرذيل والأرذل في كل شيء، من القواعد الشرعية المنهجية المعتمدة باستمرار في الحياة اليومية للمسلمين على مستوى الفكر والممارسة.
فلا يقدموا على أمر حتى يعلموا ما فيه من الخير والنفع والمصالح الراجحة في واقع الحال ومتوقع المآل. وما فيه من الشر والضرر والمفاسد المرجوحة حالا أو مستقبلا، فيعملوا بأحسن العملين في كل عمل، ليحققوا أكمل النتيجتين، وينالوا أفضل الأجرين. وبذلك يكونوا من الراشدين على جميع المستويات وفي كل المجالات الخاصة والعامة. وبالتزام هذا المنهج المقاصدي في الإصلاح السياسي العام يتحقق الإصلاح المأمول ولو بعد حين.
3- إسقاط التكليف السياسي؛ وذلك عند فقدان أي شرط من شروط التكليف السياسي الضرورية، وهذا يعني أن من عجز عجزا كليا عن القيام بما وجب عليه عينا أو كفاية، رفع عنه التكلف بإطلاق، إذ لا تكليف مع العجز، ولا عذر مع القدرة. ومن ثم؛ فمن كان دون سن البلوغ السياسي، أو طرأ عليه خلل عقلي، أو لم يعد قادرا على تحمل مسؤولية تدبير الشأن العام بالمرة؛ فلا حرج عليه. ولا يجوز تكليفه بأي مسئولية سياسية؛ ما دام فاقدا للأهلية الولائية؛ عملا بقاعدة: لا تكليف بما لا يطاق. لأنه منفي عن الشريعة بالاتفاق.
وعليه؛ إذا انعدمت شروط التكليف السياسي في أي فاعل سياسي؛ فلا معنى لتوليته أي مسئولية كفائية عامة، ولا كلام عنه؛ ما دام لم يستعد عافيته؛ ببلوغه سن التكليف السياسي، وامتلاكه للعقل المدبر، والقدرة الكافية للنهوض بأعباء العمل السياسي في أبعاده الحضارية العامة.
وختاما؛ هذا ما تيسر من النظر في سؤال التكليف السياسي العام، والجواب عنه بما دونته في هذه الورقات، ورجائي أن أكون قد أسهمت – جهد المقل- في معالجته بما يوافق قصد الشارع؛ ويسعف المخاطبين بفقهه والتفاعل الإيجابي معه، والعمل الجاد على تمثله؛ في أبعاده العلمية والعملية الحضارية؛ الكفيلة بإخراج الأمة من مهاوي التيه والضلال، والظلم والفساد والاستبداد؛ إلى كنف العيش في ظلال العدالة والكرامة والحرية والمنعة التامة على جميع المستويات وفي كل المجالات. وإنما الأعمال بالمقاصد. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
Source : https://dinpresse.net/?p=16948