أحمد الطَّوْد (*)
الفصل الأول: الزمن في (البعيدون)
مـا يـشـبـه الـمـقـدمـة:
قبيل صيف 1998، توصلنا بنسخة مرقونة من رواية (البعيدون) (**)، وكان قصد صاحبها من بعثها إلينا هو أن نتولي تصحيحها. وأثـناء قراءتها تجمعت لدينا ملاحظات عديدة سجلناها في خمس صفحات بعثنا بها إليه، ناصحين إياه بمسح الطاولة وإعادة كتابة الرواية، وأرجأنا التصحيح معتقدين أنه سيعمل بنصحنا وينكب على كتابتها من جديد …، لكنه ركب رأسه، وسعى بوسائله الخاصة، فإذا بـ (البعيدون) تصدر أوائل سنة 2001 عن (روايات الهلال) المصرية، ثم صدرت صيف السنة ذاتها في طبعة ثانية بمدينة طنجة المغربية.
وعندما قرأنا النسخة المطبوعة، وجدناها تزيد بما يزيد عن أربعين صفحة عن النسخة المرقونة، وعرفنا من محتوى تلك الصفحات الزائدة سبب إخفائها عنا عمدا، وهذا ما ألمحنا إليه في مناسبة سابقة (1)، وسنعرضه مفصلا في أحد الفصول لاحقا، كما اتضح لنا أن ما سجلناه في تلك الصفحات الخمس من ملاحظات على النسخة المرقونة ليس شيئا أمام ما ينبغي تسجيله على الرواية المطبوعة كاملة .. فكانت هذه القراءة المطولة التي ننشر منها اليوم هذا الفصل المتعلق بالزمن :
1 – الـــزمــــن فـــي ( الــــبــــعــــيــــدون )
بعد صدور(البعيدون) في طبعتها المغربية صيف 2001، لاحظنا أن أصحاب المقالات التي كُتبَتْ عنها لم ينتبه أي واحد منهم إلى اضطراب الزمن فيها، ولا إلى فلتان زمامه من يد صاحبها، ذلك أنهم إنما دبجوا مقالاتهم لمديحها وتمجيد صاحبها بعد أن قرؤوها بعيون الإعجاب والانبهار، ولو قرؤوها قراءة متمعنة متفحصة لما كانوا غافلين عما فيها من تصدعات بلغت بها حد التداعي والانهيار.
لذا آثرنا تقديم هذا الفصل على بقية الفصول نظرا لأهمية نتائجه وخطورتها.
لا يهمنا الزمن كمبحث فلسفي، ولكنه يهمنا كوعاء للأحداث، يترابط فيه بعضها ببعض حسب الترتيب الذي اختاره الكاتب لبناء الرواية، فمن المسَلَّم به أن كاتب العمل السردي لا يتقيد بالتسلسل الكرونولوجي للأحداث إلا إذا شاء ذلك بمحض إرادته، إذ ليس ضروريا أن تـتـتابع الأحداث تتابعا صارما وفق تـعاقبها زمنيا؛ إن للزمن السردي منطقَه الخاص، وهذا المنطق يمنح الكاتب حرية مطلقة يتصرف بها في ترتيب الأحداث الترتيبَ الذي يراه خادما لمعمار روايته حسب تصوره وتصميمه فيستدعي أحداثا من الماضي إلى الحاضر استرجاعا، و يستحضر استباقا واستشرافا أحداثا لم تقعْ بعد أو هي محتملة الوقوع مستقبلا، شريطة ألا تفيض تلك الأحداث عن الوعاء الزمني المخصص للعمل السردي، وألا تضيق وتـنكمش عنه تاركةً ثغراتٍ أو فراغات زمنيةً ملحوظة. وقبل كل ذلك وبعده وجب أن يكون الكاتب عارفا متمكنا من كل تفاصيل القصة ليكوِّن منها بناءً مرصوصا منسجم الأجزاء مقْنعا.
إن النص الروائي قبل تسطيره على الأوراق يمر بمرحلة اعتمال في ذات الكاتب تسمى زمن المخاض، وبعد هذا الزمن ينتقل به كاتبه إلى زمن الكتابة حين يشرع في كتابته بدءاً من السطر الأول إلى نقطة نهايته؛ وعندما ينشر عمله بواسطة إحدى وسائل النشر ( كتاب ، جريدة ، مجلة ، موقع إلكتروني) ينتقل النص إلى زمن آخر هو زمن القراءة (2). ورغم مرور النص عبر تلك الأزمنة، فالكاتب بقصد أو بدون قصد منه يجد نفسه قد ضمنه مؤشرات وقرائن تدل تصريحا أو تلميحا على وقوع الأحداث في زمن – وأيضا في مكان – معين ، حيث يبقى النص محتفظا بزمنه الخاص: زمن أحداثه، أو الزمن السردي؛ ويكفي مثلا أن نستدل على ذلك بروايات نجيب محفوظ الأولى ( رادوبيس ، عبث الأقدار ، كفاح طيبة ) التي يدرك قارئها في يُسر أن أحداثها وقعت في التاريخ المصري القديم أيام الفراعنة؛ وبثلاثيته ( قصر الشوق ، بين القصرين ، السكرية ) المشحونة بمؤشرات دالة على أن أحداثها بدأت قبيل ثورة 1919 بقليل، واستمرت إلى ما يقارب منتصف أربعينيات القرن العشرين.
والملاحظ أن الزمن السردي في النص سابق على زمن كتابته – مع استثناءات نجدها في روايات الخيال العلمي وروايات المستقبل -، كما أن زمن قراءته متأخر بالضرورة عن زمنَيْ أحداثه وكتابته؛ لكن .. حين تضطرب الضوابط وتـتضبب في ذهن كاتب مبتدئ عديم التجربة، وغير مؤهل للإقدام على مغامرة الكتابة بما تتطلبه من نباهة ومهارة وحِذق وعُدَّة ثقافية شاملة، فلا مفر أن يُنتج هذه الاختلالات التي ستثبتها السطور التالية:
لقد أورد صاحب (البعيدون) بعض المؤشرات التاريخية / الزمنية ، لكنه لم يحسن استغلالها لتكون داعمة للأحداث في السياق ، فحاصرت النص وأغرقته في كوارث غير مسبوقة . وسواء اعتُـبرتْ أحداث (البعيدون) واقعية حقيقية – على رأي من اعتبروا الرواية سيرة ذاتية -، أو اعتُبرتْ أحداثا متخيلة كُـتبتْ بحبر على ورق، فإن ورود تلك المؤشرات قد نبهنا تـنبيها إلى اختلالات جسيمة وفرض علينا القيام بتدقيق تاريخي، أي بإخضاع الزمن السردي المحض للزمن التاريخي الصرف ، ونحن لا نروم التأريخ في حد ذاته ، ولكننا نضبطه ليكون الدليل المادي الملموس – بلغة القانونيين – على تورُّط صاحب (البعيدون) في واحدة من أعظم الزلات وأضخم الاختلالات السردية وهي سوء تدبير الزمن. وإذا صح أن نعتبر تدبير الزمن في العمل السردي عمودا فقريا، فإن سوء تدبيره في (البعيدون) قد جعله عمودا مصابا بانزلاقات غضروفية أعجزت النص عن الوقوف والسير في استواء.
وردت في نص (البعيدون) إشارات مباشرة إلى مُدد زمنية متعلقة ببعض الأحداث والشخصيات وخاصة إدريس: فقد أخبرنا هذا البطل أنه قضى ثلاث سنوات في مدريد قبل أن يرحل عنها ويهجرها هجرته السرية إلى لندن في غفلة عن جميـع أصدقائه باستثاء خوصي عباد:
[ وجدت نفسي أفكر في خوصي عباد أعز أصدقاء مدريد ، ثلاث سنوات من العشرة وكأنها عمر كامل … ] (ص40).
وأكد تلك المدة وهو في القطار راحل عن مدريد:
[ داهمني إحساس غريب ، ربما هو نفسه الإحساس الذي غمرني منذ ثلاث سنوات ، حين كنت في طريقي إلى مدريد ] (ص61).
وأخبرنا الراوي في الفصل الثاني بمرور ثلاثين سنة على الاختفاء المفاجئ لإدريس من مدريد:
[ ثلاثون عاما وليس ثلاثة أشهر… قد مرت دون أن أعرف شيئا عن مصير إدريس ] (ص15).
وعندما علم من رسالة خوصي عباد أن إدريس يعمل محررا بمجلة “فواصل” اللندنية، أخبرنا أنه اقتنى أحد أعدادها ووجد اسم إدريس بارزا ضمن أسماء المحررين وبقي مترددا:
[ حلمتُ بلقائه أشهرا طويلة، راودتني فكرة الكتابة إليه، لكنني عزفت عنها وقررت أن أقابله شخصيا، أن أطير إلى لندن وأداهمه في مقر عمله ] (ص 18).
وفي الفصل الأخير أخبرنا أنه بعد عودته من لندن إلى طنجة – حيث يعمل طبيبا للتوليد – ، قرأ مذكرات إدريس، وكتب إليه يسأله عن إسْتر اليهودية، وموقف خالها ج. كورت من علاقتهما، وأنه انتظر الجواب [ أشهرا .. وأعواما .. ولا جديد. فقد عاد الرجل – إدريس – إلى الصمت والاختفاء ] (ص175).
وتوالت تلك الأعوام .. إلى أن التقى الراوي صدفة بإدريس وهو في حالة مزرية بمقهى غرناطة في مدينة القصر الكبير في اليوم الأخير من حياته.
تضعنا إذاً تلك الأحداث أمام ثلاث سنوات قضاها إدريس في مدريد، ثم مدة زمنية استغرقت ثلاثين سنة على اختفائه، تضاف إليها ” الأشهر الطويلة “التي سبقت سفر الراوي للقائه في لندن، وتلك ” الأعوام ” التي لم يذكر عددَها ، الفاصلة بين لقائهما الأول في لندن ، ولقائهما الثاني يوم موت إدريس غرقا بمدخل قيسارية العطارين في مدينة القصر الكبير (ص187).
فمتى حدث اختفاء إدريس من مدريد؟
ومتى تم لقاؤه الأول بالراوي في لندن بعد ” ثلاثين سنة ” وتلك ” الأشهر الطويلة “؟
سؤالان لم يفكر أحد في طرحهما، وسنجيب عنهما من خلال استعراض بعض الأحداث والربط بينها:
فأما تاريخ اختفاء إدريس الذي غفل عنه الغافلون، ففي تحديده تكمن المفاجآت الصادمة .. وهو أمر يسير غير عسير، لم يكلفنا سوى أن نقرأ السطور الأولى من مذكراته في الفصل الثالث، وأن نقرأ سطورا أخرى من الفصل الرابع:
جاء على لسانه في بداية مذكراته ما يلي :
[استيقظت متأخرا كعادتي أيام الصيف، بقيت في فراشي أخطط (لـ) برنامج يومي الأخير في مدريد، فغدا سأرحل إلى لندن ] (ص34). وسينسى إدريس البرنامج والسفر ليغرق في ذكريات بعضها قديم يرجع إلى طفولته في القصر الكبير، وبعضها الآخر إلى السنوات الثلاث التي قضاها في مدريد .. لكنه في الفصل الرابع سيشرع في تـنفيذ برنامج يومه ذاك، وهو زيارة بيت صديقه الإسباني ” خوصي عباد ” وتوجههما معا إلى بيت صديقه الجديد ” أنْخِل دي رامون ” الذي سيرافقه إلى لندن، ثم لقاؤه مساءً في كافيتيريا مانيلا بـ ” بـيـلار ” التي ستسهر الليل معه في غرفته حتى مطلع الفجر. (هنا لاحظنا أن يوم زيارته لبيْـتَيْ خوصي وأنْخِل ليس يومَه الأخير في مدريد كما ذكر في بداية مذكراته، إذ إن يومه الأخير فيها هو يوم الغد، أي اليوم الموالي الذي تسلل في فجره من بيته صحبة ” بيلار ” لإيصالها إلى بيتها، ثم التقيا في زواله بمحطة القطار لتوديعه عند مغادرته مدريد. وهذا اختلال زمني بسيط ومغفور). وحينما كان في بيت صديقه ” خوصي عباد ” شارد الذهن موزعا بين صور ماضيه في مدريد ومشاهد لما قد تكون عليه مدينة الحلم الضبابية / لندن حتى إن [ من يراني – كما سجل على نفسه – يعتقد أنني مأخوذ بخطاب فرانكو على شاشة التلفيزيون … انتشلتني السيدة كارمن والدة خوصي بتعليقات ساخرة على خطاب فرانكو فهمت منها أن رئيس الدولة يتحدث عن مزايا دستوره الجديد ] (ص45) .
بهذا المشهد يكون صاحب (البعيدون) قد أمدَّنا – من حيث لم يقصد ولم يحتسب – بمؤشر زمني بالغ الأهمية عظيم الشأن، ويكون في الوقت ذاته قد ورَّط نفسه ورطة لا فكاك له منها؛ فـالدستور الذي سخرت منه والدة ” خوصي ” حدثٌ تاريخي وقع في مكان وزمان محددين، وهو لا يدخل في المتخيل؛ إنه آخر دستور في عهد الجنرال فرنكو الذي حكم إسبانيا ستا وثلاثين سنة ( 1939 – 1975 ). والثابت تاريخيا أن إسبانيا في مارس 1968 أعلنت تحت ضغط الأمم المتحدة والقوميين في غينيا الاستوائية أنها ستمنح الاستقلال لهذه الدولة الإفريقية المستعمرة، وقد تم تشكيل المؤتمر الدستوري الذي أنتج قانونا انتخابيا ومشروع الدستور الذي عرضه فرنكو في خطاب لم يكن إدريس منتبها إليه وهو يُلقى على شاشة التلفزيون، والذي صوت عليه الإسبان يوم 11 . 8 . 1968 بنسبة 63 % تحت إشراف فريق من الأمم المتحدة؛ وبما أن الإعلان في كل الدول عن مشروع الدستور يقتضي تمكين الشعب والقوى السياسية من قراءته ودراسة فصوله وتحديد الموقف منه بمدة كافية قبل التصويت عليه، فإن مغادرة إدريس لمدريد في اليوم الموالي لخطاب الجنرال فرنكو، لابد أنها حدثت في يوم قريب جدا من منتصف شهر يوليوز سنة 1968. ( يتأكد هذا التاريخ بحدث تاريخي آخر هو المظاهرة التي صادفها إدريس ورفيقاه أنخل وأرماندو في إحدى الساحات في يومهم الخامس بلندن بعد مغادرتهم حقل تشغيل الطلبة (ص 105)، وهي مظاهرة احتجاج ليس ضد غزو الولايات المتحدة لـفيتنام ، كما ذكر إدريس عجزا منه عن إدراك فحوى اللافتات المرفوعة، وجهلا منه بتطورات حرب الفيتنام لانصرافه الكلي عما يحدث في العالم ؛ فأمريكا كانت قد أرسلت قواتها وشرعت في شن غاراتها على فيتنام الشمالية منذ 1965، بل إن تلك المظاهرة إنما كانت ضد المجازر التي ارتكبتها الولايات المتحدة صيف 1968 في المدنيين الفيتناميين بعد أن زاد الرئيس جونسون عدد الجنود الأمريكيين تلك السنة في فيتنام فبلغ 550000 جندي مما جعل الأصوات في معظم العواصم تـتعالى محتجة ومطالبة بإنهاء تلك الحرب القذرة).
فإذا حسبنا بدءاً من هجرة إدريس إلى لندن حوالي منتصف يوليوز 1968، مضيفين إلى هذا التاريخ ثلاثين عاما مدة اختفائه، وأشهرا طويلة قضاها الراوي حالما بلقاء صديقه إدريس قبل أن يطير ليلتقي به بمقر عمله في لندن، سنصل حتما ودون عناء إلى الجواب عن سؤالنا الثاني وهو أن سنة لقاء الصديقين هي 1999. وهذا فرَض علينا سؤالا ثالثا:
إذا كان الصديقان ( الراوي وإدريس ) قد التقيا لقاءهما الأول سنة 1999. فمتى تم لقاؤهما الثاني بعد أعوام في مدينة القصر الكبير؟
ومع أن الجواب عن هذا السؤال لم يكن عسيرا ، بل كان هو الآخر سهلا يسيرا ، فما كدنا نمسك به حتى انتصب أمامنا سؤال رابع:
متى فرغ صاحب (البعيدون) من كتابة روايته؟
بقي هذا السؤال سابحا وقتا طويلا، قبل أن نحصل بالجواب عنه على وسيلة إثبات لا يرقى إليها الشك، دعمت نتيجة بحثنا بإقامة دليل مادي ملموس آخر على سوء تدبير الزمن في الرواية.
لا بأس أن نبدأ بهذا الدليل مستعرضين ما جاء على لسان صاحب (البعيدون) لضبط تاريخ انتهائه من كتابتها:
ففي الحلقة 20 من ركن ” كرسي الاعتراف ” في جريدة ” المساء ” المغربية . العدد 2264 بتاريخ 6 . 1 . 2014 ، قال ما يلي:
“كنت قد قابلت إيميل حبيبي سنة 1993 في الدار البيضاء على هامش حفل تقديم كتاب ذاكرة ملك للحسن الثاني…. بعدها بسنتين ـ أي صيف 1995 ـ سيأتي إيميل حبيبي إلى أصيلة للمشاركة في أحد منتديات جمعية المحيط …. كنت بصدد إيجاد نهاية مشوقة لروايتي البعيدون وحدث أن سألته يوما وكان برفقتنا الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي قائلا: أنا أشتغل بوضع نهاية لروايتي، فالبطل إدريس لم يلتق بحبيبته الإسبانية بيلار لأكثر من عشرين سنة. وأنا حائر بين أن أجعله يلتقي بها أو لا ؟ ففاجأني إيميل حبيبي بقوله منفعلا: أرجوك .. لا تستجب لرغبات المتلقي، كن قاسيا معه. فنبهه أحمد عبد المعطي حجازي إلى انفعاله المبالغ فيه ، ثم وعلى طول الطريق الفاصلة بين طنجة وأصيلة حكى لنا إيميل قصة حب شبيهة عاشها بين حيفا وفيينا فأثرت فيّ إلى درجة أنني سميت إحدى الشخصيات المركزية في البعيدون باسم إيستر”.
وفي الحلقة 33 من كرسي الاعتراف بالعدد 2279 / بتاريخ 23 . 1 . 2014 ذكر ما يلي:
“محمد شكري كان قد قرأ مسودة الرواية قبل صدورها… كان ذلك سنة 1996. وقال لي حينها هذه ليست رواية… وبما أنني كنت أثق في ذائقة شكري الأدبية فقد وضعت الرواية في الرف، إلى أن زارني جابر عصفور في غشت 2000 … وطلب مني (!؟) إمداده بعمل أدبي مغربي لقراءته فتذكرت مسودة (البعيدون) التي كانت تحمل حينها عنوانا مؤقتا هو “منافي” وبعد أن نزعت غلاف المطبوع – يقصد المسودة وهي مرقونة قبل الطبع – الذي كان يحمل عنوان الرواية واسمي، وسلمته إياه … “.
وما قاله عن جابر عصفور أكده بصوته وصورته في برنامج ( المشَّاء ) الذي عرضته قناة الجزيرة الفضائية.
ما يهمنا من أقواله عن (البعيدون) هو تحديد تاريخ انتهائه من كتابتها. فحديثه مع إيميل حبيبي عن انشغاله بوضع نهايتها ، وعَرْضُ مسودتها على شكري سنة 1996. وبقاؤها في الرف خمس سنوات قبل أن يعرضها على جابر عصفور ، يعني أنه فرغ من كتابتها بعد صيف 1995، ومن المؤكد أنه ” منذ كتابة أول كلمة في الرواية يكون كل شيء قد انقضى، ويعلم الراوي نهاية القصة، فالراوي يحكي أحداثا انقضت ” كما تقول الباحثة سيزا قاسم (3). ولاشك أن صاحب البعيدون لم يقم أواخر سنة 1995 برسم نقطة نهايتها على المسودة إلا وبطلها إدريس قد مات غرقا ، أي أن موته الثابت في النص لا يمكن منطقيا أن يحدث بعد الانتهاء من كتابة المسودة أو بعد طبع الرواية.
فكيف استقام في ذهن صاحب (البعيدون) أن يلتقي الراوي سنة 1999 في لندن لقاءه الأول بإدريس الذي من المفروض أنه مات غرقا في مسودة الرواية قبل سنوات ، بل من المفروض أنه مات قبل الشروع في كتابة الرواية؟ إذا طأطأ صاحب (البعيدون) رأسه واعترف بأنه لم يحسب الزمن حسابا دقيقا حين ضرب للصديقين ذلك الموعد المستحيل، وحكم تلقائيا على زلة تدبيره السيئ للزمن في روايته بـ ” إنها لإحدى الكُبَر “، فذاك. أما إذا عبس وبسر وعاند واستكبر فأنكر، فسنطالبه بتقدير عدد الأعوام الفاصلة بين اللقاء الأول للصديقين سنة 1999 في لندن، وبين لقائهما الأخير بمقهى غرناطة في مدينة القصر الكبير، ثم نطالبه أن يضيف عدد تلك الأعوام إلى سنة لقائهما الأول 1999، فإن أعجزه الحساب ذهنيا أسعفناه ببعض الخُشـيْـبات ليكتشف ويتأكد بنفسه أن بطله إدريس الذي أماته في الزمن السردي، وقبل انتهائه من الكـتابة أواخر 1995، مازال – بسبب التدبير السيئ للزمن – حيا في زمن القراءة، أي أنه لا يمكن بحساب السنوات أن يموت إلا بعد أعوام من صدور (البعيدون) مطبوعة سنة 2001. وهذا يعني أن موت إدريس حدث فائض ، يقع خارج الإطار الزمني المخصص للرواية.
ولا ندري .. أهذه الزلة السردية هي العجب الذي وُلد في رجب وصام رمضان؟ أم أن صاحب (البعيدون) قد نجح نجاحا باهرا في صنع زمن خاص بنصه الفريد من نوعه، ونجح في جعله أكذوبة ونجح أكـثر في جعل تلك الأكذوبة حقيقة ساطعة كالشمس أعجزت قراء الغفلة عن النظر إليها ؟؟
ولو كانت تلك الزلة على ضَخامة حجمها وعظَمة جِرمها وثقل وزنها هي الوحيدة في النص لقلنا هانت. أما وقد آخاها صاحب (البعيدون) ببوائق سردية أخرى، فلا نجد أمامنا إلا أن نرصد منها ما يؤكد ما أثبتناه من سوء تدبير الزمن في هذا النص العُجاب:
ذكر لنا إدريس أنه بعد أن رأى بيلار في مقصف الكلية أول مرة … واصل استراق النظر إليها … وراح يقتفي أثرها ويراقبها من بعيد، إلى أن كان ذلك المساء الشاتي حيث اندفع لمشاركتها مظلتها ، فكانت تلك الخطوة هي الأولى في طريق تحقيق حلمه ، ” ذلك الحلم الذي كان قد بدأ منذ عدة أشهر ” (ص37) والذي أعقبته لقاءات أخرى قبل أن يصطدم بعطلة رأس السنة الميلادية التي حالت دون لقاءاتهما … فإن بحثنا عن تلك الـ ( عدة أشهر) التي زعم أنه قضاها متعقبا بيلار ، سنجد أن المدة الزمنية الفاصلة بين بداية السنة الدراسية الجامعية أواسط شهر أكتوبر وعطلة رأس السنة الميلادية في بداية العشر الأواخر من شهر ديسمبر، لا تتجاوز الشهرين إلا بأيام قليلة ، فهي ليست ( عدة أشهر ) كما سجل في مذكراته . ونحن لا نلومه إن كان استدعاء ذكرى محاولة اصطياده فتاة قد جعل إحساسه بالزمن مضطربا . فهذه زلة بسيطة ، ومثلها هذه الزلة الأخرى :
في السهرة التي جمعت الراوي بإدريس في شقته اللندنية ، وأثناء حديثهما عن بيلار وزوجها وابنها الصغير … ذكر إدريس أنه في زيارة قام بها من لندن إلى مدريد كاد أن يقابل بيلار ، لكن الحمَل انتصر فيه على الذئب فغادر مدريد دون أن يلتقي بها ؛ وقد جعلنا في حيرة من أمر هذه المغادرة ، أكانت في يوم موعدهما كما قال في (ص 27 س 4):
– [ … أنا الذي رفضتُ – مقابلة بيلار – أو بالأحرى غادرتُ مدريد في نفس اليوم الذي كان سيتم فيه اللقاء ” .
أم أن المغادرة حدثت قبل ذلك اليوم كما ذكر لنا في (ص 29 س 4 ) :
– [ بيلار لم تحضر لذلك الموعد الذي كان محددا بيننا في منزل صديقي الإسباني ، لكنني كنت قد غادرت إسبانيا قبل ذلك التاريخ بيوم واحد دون أن تعلم بسفري ] .
ولنا أن نسأله متبسمين ضحكا دونما رجاء في جواب: إن كانت بيلار لا تعلم بمغادرته مدريد فماذا انتصر فيها على ماذا فلم تحضر في الموعد؟
ونحن لا نلومه على هذا الاضطراب في تحديد يوم مغادرته مدريد ، لكننا نلومه أشد اللوم على ما أثار به استغرابنا الشديد زاعما حضوره رفقة صديقيه أنخل و أرماندو [ سهرة غنائية للمطرب المصري الشهير في قاعة رويال ألبرت هول ] (ص129) .. فالمعروف أن المطرب المصري الوحيد الذي أحيا حفلا في تلك القاعة اللندنية الشهيرة في ستينيات القرن العشرين هو المرحوم عبد الحليم حافظ ، وكان حفله بالتحديد يوم 17 . 11 . 1967، وليس في سنة 1968 التي هاجر إدريس في منتصف يوليوز منها إلى لندن. نسجل هذا ونحن مدركون إدراكا تاما أن من حق صاحب (البعيدون) أن يتخيل ما يشاء ، لكن ليس من حقه أن يجعل بطله إدريس يكذب علينا كما يشاء. وهذه ليست الكذبة الأولى ، فقد كذب قبلها زاعما للراوي عندما زاره في شقته اللندنية سنة 1999 أن عمر الصورة التي جمعت صديقته إسْتر اليهودية بثلاثة من أعضاء فرقة البيتلز قرابة خمس سنوات (ص20)، أي أنها التُقطت سنة 1994، وهذا أيضا غير ممكن لأن فرقة البيتلز انتهت وتفرق أعضاؤها منذ سنة 1970. فالصورة إذاً (فوطوشوب) لفقها الكاتب دون وعي منه أنه أوقع بها بطله في موقف حرج.
سيزداد الزمن اضطرابا وتلبُّكا وتلبُّسا في ذهن صاحب (البعيدون) وهو يرتب الأحداث لا بل يراكمها ويكدسها في روايته، وسيُنتج اثنتين متلازمتين متراكبتين من أفدح الزلات السردية، ونحن نرجو من قراء هذه السطور – وخاصة قراء الغفلة – أن يتتبعوا معنا بقليل من التركيز هذه الأحداث التي أحلنا على أرقام صفحاتها في النص ليتمكنوا من وضع أياديهم على سوء تدبير الزمن في مداه الأقصى عند صاحب (البعيدون):
انتهت الزيارة الأولى التي جمعت إدريس بالمدير العام لمجلة ” فواصل ” المستر ج . كورت في بيته بقول هذا الأخير:
– [ إني أقبلك في المجلة ابتداء من يوم غد ، فعملك سيكون الترجمة ، كما يمكنك نشر مقالات تساير تخصص المجلة ].
خرج إدريس مزهوا بعمله الجديد ، وعندما وصل إلى العمارة التي يسكن في شقة بالطابق الخامس منها ، صعد السلالم يحمل في يده رسالتين:
واحدة من كريستيان آيسن الهولندية.
وأخرى من صديقه الإسباني أنخل دي رامون (ص137).
رسالة أنخل من مدريد مؤرخة في 25 مارس ( دون ذكر السنة ). وجاء فيها على الخصوص: [ … أنتقل بك إلى مواضيع الساعة كتلك التي تشغل الرأي العام عمن سيخلف فرنكو في حكم إسبانيا ، فالجينرال الحديدي أربكه المرض والشيخوخة ولم تعد له إرادة التحكم في أبسط الأشياء …] (ص140)، إذاً فالسنة التي لم يثبتها صاحب (البعيدون) في رسالة أنخل هي 1975، وهي سنة المرض الأخير الذي سيؤدي بالجينرال فرنكو إلى وفاته.
أما كريستيان آيسن فقد أخبرت إدريس في رسالتها (ص141) أنها تعتزم زيارة لندن في فاتح ماي المقبل (من السنة ذاتها). وإذا افترضنا أن إدريس تسلم الرسالتين بعد أسبوع – على الأكثر – من تاريخ إرسالهما، فهذا يعني أنه قرأهما حوالي فاتح أبريل (1975)، أي في اليوم الذي حظي فيه بموافقة المستر ج . كورت على عمله في مجلة ” فواصل “.
وبعد مرور أسبوعين على اشتغاله في المجلة ـ دعاه المستر ج . كورت إلى بيته مرة أخرى ليدرس معه (مشروعه) [ وإن كانت دعوة مدير أشهر مجلة سكسونية – كما وصفها إدريس – لكاتب مبتدئ مغمور لا يحمل أية شهادة جامعية أو مهنية أمرا يستدعي قليلا أو كثيرا من الابتسام ] . وفي هذه الزيارة الثانية سيقدم له ابنة أخته ” إسْتر” (ص144). وهذا يعني أيضا أن لقاء إدريس بإسْتر أول مرة حدث في منتصف أبريل 1975.
ستصل كريستيان إلى لندن كما وعدت في فاتح ماي 1975 وستقضي مع إدريس أياما ثم تعود إلى أمستردام لتبعث إليه رسالتها المؤرخة في 25 ماي التي أخبرته فيها أن زميلا لها طلب يدها للزواج (ص155). وإذا كانت رسالة كريستيان هي الأخرى قد استغرقت أسبوعا من أمستردام لتصل إلى يد إدريس في لندن، فمعنى ذلك أنه قرأها حوالي فاتح يونيو 1975 أي في اليوم ذاته الذي كان في مسائه على موعد مع إستر في بيت خالها ج. كورت لتصحبه إلى حفل العشاء في شقة ” ستيف ” زميله في المجلة .(ص156)، وهو اليوم ذاته الذي استغل فيه غياب ج . كورت عن بيته فأبدى إعجابه بجمال إستر ثم طوَّق خصرها … و – على حد تعبيره – عبث بخلقتها … فاستسلمتْ موشوشة في أذنه: ” أحبك منذ أشهر طويلة ” (ص162).
هنا نسأل إدريس أو بالأحرى صاحب (البعيدون): متى ابتدأت هذه الـ ” أشهر ” التي يوحي نعتها بـ ” طويلة ” أنها كثيرة عديدة؟. إننا بحساب الزمن من يوم اللقاء الأول بين إدريس وإستر في منتصف أبريل 1975 إلى يوم اعترافها له بحبها، لا نجد إلا مدة شهر ونصف؛ فلا وجود لـ (أشهر طويلة) إلا في الاضطراب الذي أفقد الكاتب الإحساس بالزمن وجعل خيطه يتشابك في ذهنه تشابكا أدى به إلى اقتراف بائقة أخرى أدهى وأمر:
عند وصول إدريس وإيستر إلى حفل العشاء، قادهما ” ستيف ” ( صاحب الشقة ) إلى أربعة أشخاص غرباء عنهما: ” مايك ” وزوجته ” شاري ” ويعملان في إحدى دور النشر، و” كين ” ومرافقته ” هاني “؛ ومن ثرثرة ” كين ” وهو مصور تابع لوكالة الأنباء رويتر، عرف إدريس أنه [ وشيك العودة (كذا) من حرب مالوين الدائرة رحاها بين بريطانيا والأرجنتين في نهاية الأطلسي … ] (ص169)، وأنه – كين – لإفراطه في شرب الويسكي فرض على الجماعة أخبار الحرب وأدخلهم في دهاليزها، وكان يتلذذ بسرد بطولاته الصحفية … (ص170). وبهذا يكون صاحب (البعيدون) قد زلت به قدماه جميعا فسقط أرضا على قفاه متخبطا في خطإ مريـع ومضرجا بجهل فظيع، ومثيرا فينا من الشفقة أضعاف ما أثارته فينا من الضحك تلك النكتة التي زعم بطلها الحشاش أنه احتفل بعيد الأضحى في يوم من أيام شهر رمضان. وإذا كان الفارق الزمني بين شهر رمضان وعيد الأضحى لا يتعدى الشهرين إلا بعشرة أيام، فإن الفارق الزمني بين حفل العشاء في شقة ستيف في فاتح يونيو 1975 قبل وفاة الجينرال فرنكو ، وبين حرب المالوين يبلغ سبع سنوات، إذ إن هذه الحرب لم تبدأ إلا في أبريل 1982 عندما حطت فرقة عسكرية أرجنتينية في بويرطو أرخينتينو وطردت السلطات البريطانية، لكن بريطانيا لم تستسلم بالتنازل عن هذه الجزيرة التي كانت تحتلها منذ 1883، فأشعلت الحرب لاستعادة مستعمرتها القديمـة.
وكما اعتدى صاحب (البعيدون) على الزمن في (روايتـ)ـه ، فقد اعتدى فيها أيضا على المكان ، وهذا ما سنتطرق إليه ونحن نعرض شخصياتها ( الراوي . إدريس وعاشقاته ) على سكانير قراءتـنا هذه المختلفة في فصول لاحقة.
ولا يفوتـنا أن نسجل أن إدريس توقف عن حديثه النرجسي عن نفسه الذي سماه تعسفا بـ (مذكرات) في منتصف سنة 1975 ، تاركا بين هذه السنة ولقائه بالراوي في لندن سنة 1999 فراغا زمنيا مدته ربع قرن تقريبا .
بقي أن نسأل أخيرا:
حين قال د . جابر عصفور لصاحب (البعيدون): ” إنك كتبتَ رواية لم يكتب مثلها أي مغربي” .. أكان جادا مادحا؟ أم أنه كان هازلا هازئا قادحا؟؟
سنتلمس لهذا السؤال جوابا…
ــــــــــــــــــــ
هــوامــش :
* شاعر من المغرب .
** اعتمدنا في الاستشهادات على (رواية البعيدون) . بهاء الدين الطود . ط : 2 . غشت 2001 . سليكي إخوان . طنجة .
وقد أثبتنا كل شاهد متبوعا برقم الصفحة في هذه الطبعة .
(1) جريدة ” المساء ” المغربية . العدد 2291 . الخميس 6 . 2 . 2014 .
(2) ” نظرية الرواية ” عبد الملك مرتاض . عالم المعرفة . العدد 240 . ص 210 .
(3) ” بناء الرواية . مقاربة في ثلاثية نجيب محفوظ . ص 40 . الهيئة المصرية العامة للكتاب . القاهرة . 2004 .
(4) نثبت هذه السنة مستغربين أن يكون ” أنخل ” جاهلا بمن سيخلف الجنرال فرنكو في الحكم ، وهو ابن رجل ملكي النزعة يعلق في صالون بيته صورة الأمير دون خوان كارلوس (ص 48) الذي تعهده الجنرال فرنكو ورعاه ليكون بعده ملك إسبانيا ، كما نستغرب أن ينسب ذلك الجهل إلى والد أنخل ، وإلى الرأي العام الإسباني الذي صوت سنة 1947 على قانون خلافة رئيس الدولة Ley de sucecion en la jefatura del estado الذي ينص على أن إسبانيا مملكة بهوية كاثوليكية ، وأن رئاسة الدولة للفريق / الجنرال فرنسيسكو فرنكو القائد الأعلى للقوات المسلحة،وأن خليفة رئيس الدولة يحمل اسم ملك .
(5) توفي الجنرال فرنكو في 20 . 11 . 1975.
(6) كيف أجاز صحفي إنجليزي لنفسه أن يطلق اسم ( المالوين ) على حرب يسميها البريطانيون : حرب الفوكلاند Falklands War؟
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5277