الزبير مهداد mahdad.zober@gmail.com
كانت العمرة الرمضانية إحدى أهم أسباب الرحلة لدى المسلمين، وقام عدد من زوار الحرم بتدوين وقائع رحلتهم، وعادات وتقاليد الحياة الاجتماعية لبلاد الحرمين. وكان من أطرف ما دونوه، مشاهداتهم لاحتفالات سكان مكة بشهر رمضان المبارك. وفي المبحث التالي حاول تركيب صورة لاحتفالات أهل مكة برمضان المبارك، من خلال مذكرات ثلاثة من أشهر الرحالة الحجاج: ابن جبير، وابن بطوطة، وأبي سالم العياشي، التي دونوها في كتبهم.
تهيئة الحرم
وصف الرحالة استعداد المكيين المبكر لاستقبال شهر الصيام. وبالنظر إلى المكانة الخاصة التي يحظى بها المسجد الحرام، وقيمة الصلاة فيه، وتوق النفوس إلى زيارته والتعبد فيه، فإن هذا المسجد يستقطب خلال شهر رمضان آلاف المصلين، من المكيين، والمعتمرين الوافدين من سائر البلاد الإسلامية. وحرصا على توفير شروط العبادة الملائمة، جرت العادة أن يتم الاستعداد للشهر الكريم بتهيئة المسجد الحرام لاحتضان ضيوف الرحمن، بتجديد فرشه، وأحيانا صباغته وتزيين مرافقه. وتقوية شبكة إضاءته من المشاعل والشموع، لتوفير الإنارة الكافية للمصلين والطائفين، طيلة الوقت الممتد من المغرب حتى الفجر، وقد وصف ابن جبير ذلك بدقة.
الرحالة الشهير ابن بطوطة أيضا تحدث عن استعداد المكيين لاستقبال رمضان، معيدا إلى الأذهان ما ذكره ابن جبير، من فرش المسجد الحرام، والعناية به، وتقوية إضاءته، وأضاف بأن المسجد يعرف خلال الشهر، وفودا للأئمة الذين يتوزعون على مختلف جوانبه لإمامة المصلين، والصدح بالقراءة أثناء التراويح (فيرتج المسجد لأصوات القُرّاء، وترقّ النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين) (1).
ولعل الأمراء والموسرين كانوا يتنافسون في تحمل نفقات تهيئة المسجد الحرام، طلبا للأجر، إذ يخبرنا العياشي، أن الحرم كان يشهد إصلاحات في السنة التي زار فيها مكة، هذه الإصلاحات كلفت مائة ألف دينار، تبرع بها أحد السلاطين (لتجديد ما يحتاج الى التجديد من معالم الحرمين. فصرفت جملة من ذلك المال في تنظيف المسجد والمسعى وما احتيج الى التنظيف من مشارب الماء)(2) . عملية الصيانة كانت هامة وشاملة، بعد السيل الذي ضرب المنطقة، فتضررت منه عدة جوانب ومرافق من المسجد الحرام، والمسعى أيضا، فجند القائمون على المسجد مائة وخمسين عاملا، ليتولوا ذلك، واشتغلوا طيلة شهر رمضان وأكثر شوال.
الاحتفال بالرؤية
كان المكيون يترقبون حلول الشهر بشوق كبير، ويترصدون هلاله، ويعلنون عنه بمظاهر احتفالية شعبية رائقة، يذكر ابن جبير أن الإعلان عن شهر الصيام بمكة كان يتم “بضرب الطبول والدبادب”، في ليلة رمضان عند أمير مكة(3)، حتى يبلغ السمع من كان بعيدا عن الحرم، فيقع الإيذان بالصوم. ويدخل الأمير داخل الحرم الشريف مع طلوع شمس اليوم الأول، احتفاء بالشهر.
كان دخول الأمير إلى الحرم، في وفد كبير من القادة والأعيان، وابن بطوطة عاين المشهد، وأسهب في وصفه: (يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقوّاده يحفلون به، وهو لابس البياض، معمم، متقلدٌ سيفاً، وعليه السَكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين ثم يقبل الحجر، ويشرع في طواف أسبوع، ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم، فعندما يكمل الأمير شوطاً واحداً ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له والتهنئة بدخول الشهر، رافعاً بذلك صوته، ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم، ويفعل به هكذا في سبعة أشواط، فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع خلف المقام أيضاً ركعتين ثم انصرف)(4) .
ولا شك أن الدخول يكون بنية التبرك، كما تتحقق منه مراقبة أحوال الحرم والاطمئنان على راحة ضيوف الرحمن. لأن المكيين والمعتمرين كانوا كلما دخل رمضان، (شمروا عن ساق والاجتهاد في العبادة) على حد تعبير العياشي(5)، فلا تكاد ترى بالمسجد ليلا إلا طائفاً أو تالياً أو مصلياً. كما أن حلول الشهر، كان مناسبة للرواج التجاري، لتوفير ما يشتهيه الصائمون من مأكولات وملبوسات، ولذلك كانت تنصب الأسواق طوال الليل في هذا الشهر الفضيل. ما يحتم تكثيف المراقبة على الأسواق وسائر المعاملات.
قناديل وطبول
كان يتم الإعلان عن موعدي السحور والفطور بطرق مختلفة لإسماع الصائمين. وكان يعهد إلى الزمزمي القيام بإعلام الناس بوقت السحور من المئذنة التي توجد في الركن الشرقي للمسجد الحرام، القريبة من دار شريف مكة، فيقوم الزمزمي بأعلاها وقت السحور داعيًا ومذكِّرًا ومُحَرِّضًا على السحور، ومعه أخوان صغيران يجاوبانه ويقاولانه.
وكان اتساع مكة المكرمة، وانتشار منازلها وأحيائها بعيدا عن الحرم، يحول دون وصول صوت المؤذن إليهم، إلا أنهم كانوا يستدلون على وقت السحور بقنديلين ينصبان عاليا بالحرم، (لا يزالان يوقدان مُدَّةَ التَّسحير، فإذا قَرُبَ تبيُّنُ خطَّيِ الفجر، ووقع الإيذان بالقطع مرَّة بعد مرة، حطَّ المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة، وبدأ وثوب المؤذنين في كلِّ ناحية بالأذان، وعندما يرى أهل مكة من سطوح منازلهم العالية القنديلين قد أُطْفِئا علموا أن الوقت قد انقطع)(6).
كما أقر أمير مكة ضرب الطبول ثلاث مرات في اليوم، بعد أذان المغرب وعند انقضاء صلاة العشاء وثالثة عند ميعاد العشاء الاخير أي في منتصف الليل.
التراويح
لم يكن رواد الحرم يجتمعون في صلاة التراويح على إمام واحد، بل كان أتباع كل مذهب يختارون إمامهم، ومكاناً بالمسجد الحرام لإحياء هذه السنّة، ويتخذون لهم محرابا خاصا بطائفتهم. فتقام صلاة التراويح في عدّة أماكن متفرقة، وكانت التراويح بلغت أربعاً وعشرين ركعة خارجاً عن الشفع والوتر، مع تعدد مرات الطواف حول الكعبة فيما بينها.
وكان أتباع كل مذهب يتنافسون على التميز وجذب انتباه رواد الحرم، ولا يقصرون في تجميل فضائهم، وإضاءته، ويحكي ابن جبير أن (قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً، من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب، وقد حفت بها شمع دون ذلك صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسْناً وترتمي الأبصار نوراً)(7). كما وصف ابن جبير وابن بطوطة الشافعيين بأنهم (أكثر الأئمة اجتهاداً، حيث يصلّون التراويح عشرين ركعة وبعد كل أربع ركعات يطوفون بالبيت سبعاً، وبعد كل طواف يضربون طبلة ضربة عالية، إيذاناً بالعودة إلى الصلاة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون)(8) .
ختم القرآن
كان المكيون يكثرون من العبادات والصدقات خلال العشر الأواخر من رمضان طلبا للأجر والثواب، وكذلك مجاورو البيت العتيق. وتحرياً لليلة القدر، كان الناس يختمون القرآن في الليالي الوترية. حيث كان أبناءُ أعيان مكة أو أئمة الحرم، يتنافسون في ختمه والاحتفال بذلك، بإيقاد الشموع والثريات وتقديم الطعام، وكان يحضر هذه الختمات القاضي وجماعة من الأشياخ، فيتولى الصبيان إمامة المصلين، ثم إلقاء الخطبة بعد الصلاة، وبعد الفراغ، يدعى المصلون إلى منزل الصبي لحضور وليمة، تقدم فيها الأطعمة والحلويات والأشربة، احتفاء بالمناسبة.
وكانت المناسبة تعرف مظاهر احتفالية مبتكرة وغير مسبوقة، مثل إحدى الليالي التي أعد فيها والد الصبي الذي أم الصلاة (ثُرَيَّا صُنِعت من الشمع، وذاتَ غصون عُلِّقت فيها أنواعُ الفواكه اليابسة والرطبة، وأعدَّ لها والدُه شمعًا كثيرًا، ووَضَع وسْطَ الحَرَم شبيهَ المحراب المربع، أُقِيمَ على قوائمَ أربعٍ، تَدَلَّت منه قناديل مُسرجَة، وأحاطَ دائرةَ المحراب المربع بمساميرَ مدبَّبَة الأطراف غُرِزَ فيها الشمع، وأُوقدت الثُّرَيَّا المغصنة ذات الفواكه، ووَضَعَ الأبُ بمقربةٍ من المحراب منبرًا مجلَّلاً بكِسْوَة مُجَزَّعَة مُخْتَلِفَ الألوان، وحضر الإمام الطفل، فصلَّى التراويح وختم، وقد مُلِئ المسجد بالرجال والنساء، وهو في مِحْرابه وحوله الشمع المضاء)(9).
كما كانت تنصب منابر خصيصا للمناسبة، فقد عاين ابن بطوطة حفل ختم أحد الصبيان للقرآن، حيث قام أبوه بنصب (منبر مزين بالحرير، وأُوقِدَ الشمع)(10).
وجرت العادة أن يكون ابتداء التراويح خلال الختم بقراءة سورة القدر، وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها.
والختم الأكبر يكون في ليلة السابع والعشرين. وصفها ابن جبير: (بالليلة الغرّاء، والختمة الزهراء، والهيبة الموفورة الكهلاء)(11). وكان الختم فيها في المقام المالكي. حيث استعد لها المسؤولون عن الحرم قبلها بيومين، فتفننوا في إضاءة المسجد أكثر من الليالي الماضية. وتقدم قاضي مكة فصلى فريضة العشاء الآخرة، ثم قام وابتدأ القيام بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح، تعظيماً لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها. فختم القاضي بتسليمتين، وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق. فلما فرغ الإمام من خطبته، عاد أئمة المذاهب لإقامة تراويحهم.
وكان صبيان مكة يحدقون بشرفات الحرم المكي من نواحيه الأربع وإيقادهم لشرفاته ورفع أصواتهم بيارب يا رب على لسان واحد، وكذلك ارتجاج الحرم لأصواتهم. وعقب انتهاء الصلاة تركت الشموع لعامة المصلين من أدرك منهم شيئاً أخذه بلا حرج.
وتواصلت التراويح والختم على هذه الشاكلة، بتعدد الأئمة عدة قرون، كما يستفاد من رحلة العياشي من تعدد الختمات، وإكرام الأئمة بالخلع السلطانية، والفتوح الزائدة على الخلعة.
ولم يلاحظ التجيبي الذي حج عام 696ه، تغييرا كبيرا في احتفالات المكيين، وخاصة ما يتعلق بالإقبال على العبادات، وخاصة صلاة التراويح، وتهيئة المسجد الحرام، والحرص على ختم القرآن في ليالي الوتر من العشر الأواخر. إلا أن بعض العادات اختفت كعادة اعتلاء الصبيان حفظة القرآن المنبر لأجل إمامة ختم القرآن، وأصبحت إمامة صلاة الختم تسند لإمام مصري، الذي يؤم الصلاة ويختم القرآن، ويدعو بالمناسبة لشريف مكة، الذي كان يجيزه بلبسة فاخرة مموهة بالذهب، يلبسها على المنبر والناس ينظرون.
عمرة رمضانية
ومن باب الإقبال على العبادة في هذا الشهر، فإن مكة تعرف زيادة في زوارها من الحجاز نفسه، ومن الوافدين من البلاد الإسلامية، لأداء العمرة.
وقد لاحظ العياشي أن يوم الجمعة هو اليوم المفضل لأداء العمرة، وأن الطريق من التنعيم إلى مكة يملأها المعتمرون رجالا ونساء، كبارا وصبيانا، أحرارا وعبيدا، ركابا ومشاة طوال الليل(12).
أحيانا، كان بعض الأمراء يزورون الحرم لأداء العمرة، مثل الأمير سيف الإسلام طغتكين بن أيوب، الذي دخل الحرم بموكب مهيب في يوم مشهود، وحظي باستقبال باهر، تقديرا للانتصارات التي حققها أخوه صلاح الدين الأيوبي في الحروب الصليبية. قال عنه ابن جبير إنه (من الأيام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن) ، دخل الأمير المسجد الحرام، وسط وولولة النساء وأصوات دبادب الأمير مكثر الذي استقبله، فتقاطر الناس على الحرم لمشاهدة الأمير، الذي كان محاطا بالقاضي وزعيم الشيبيين، والزمزمي المؤذن، الذي أبان عن تواضعه بالسعي راجلا، ولم يركب حتى أنهكه التعب، ثم دخل الكعبة(13).
فتح الكعبة للطائفين
كانت الكعبة تفتح في وجه الطائفين في رمضان، يذكر ابن جبير أنها فتحت لما اعتمر الأمير سيف الإسلام طغتكين، فدخلها الأمير حيث أطال المكث، وبعده اصطف الناس لنيل شرف دخول الكعبة من الداخل بعد فتحها لهم.
ويؤكد العياشي أن العادة كانت كلما فتحت الكعبة يوماً للرجال، فُتحت في غده لدخول النساء، ولا يقرب ساحة البيت يوم دخول النساء أحد من الرجال، كفعل النساء يوم دخول الرجال(14).
مع رؤية هلال شوال، يودع الناس شهر رمضان، بعيد الفطر، الذي لا يقصر المكيون في مظاهر وفعاليات الاحتفاء بهذه المناسبة، وإبراز رمزيتها الدينية، بأداء صلاة العيد في الحرم، ودخول الكعبة، وأثرها في تقوية الروابط الاجتماعية، بأداء زكاة الفطر، وبتبادل التهانئ فور الانتهاء من الصلاة، ليعدوا العدة لاستقبال موسم الحج ويومه الأكبر، في أجواء إيمانية غامرة.
ــــــــــــــــــ
1 ـ رحلة ابن جبير، بيروت، دار صادر، ص122
2 ـ العياشي، عبد الله بن محمد: الرحلة العياشية، تحقيق الفاضلي والقرشي، أبو ظبي، دار السويدي، 2006، ج2، ص141
3 ـ رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار، تحقيق العريان والقصاص، بيروت، دار إحياء العلوم، 1987، ص 178
4 ـ رحلة ابن بطوطة، ص 174-175
5 ـ العياشي، جزء2، ص145
6 ـ رحلة ابن جبير، ص123
7ـ رحلة ابن بطوطة، ص122
8 ـ رحلة ابن جبير 123
9 ـ رحلة ابن جبير، ص127
10 ـ رحلة ابن بطوطة، ص 179
11 ـ رحلة ابن جبير، ص130
12 ـ العياشي، ج2، ص145
13 ـ رحلة ابن جبير، صفحات 122-127
14 ـ العياشي، ج2، ص147
المصدر : https://dinpresse.net/?p=24051