سعيد الزياني
مع اقتراب عرض فيلم “سوبرمان” في يوليو المقبل، لا يبدو أننا أمام مجرد حدث سينمائي، وإنما أمام عودة رمزية إلى سؤال بات يثقل ضمير البشرية: من ينقذ الإنسان من نفسه؟ أو هل البشرية أصبحت في أمس الحاجة إلى مخلص؟
الأمر لا يتعلق ببطل خارق يرتدي زيا ملونا ويحلق في السماء، إنها شخصية رمزية تستنهض في البشر ما تبقى من يقين، وتوقظ في وعي العالم ذلك الإحساس البسيط بأن الرحمة ما زالت ممكنة، وأن القوة ليست نقيضا للضعف، بل قد تكون امتدادا له.
يقدم المخرج “جيمس غن” والممثل “ديفيد كورنسويت”، في الفيلم الجديد، نسخة مختلفة من سوبرمان: رجل من فولاذ، نعم، لكن مشاعره قابلة للكسر، شخصية لا تبحث عن استعراض القوة، بل عن تجديد الإيمان بالناس، حتى في أكثر اللحظات ظلاما، يقول “كورنسويت” إن ما يلمسه في سوبرمان هو “قدرته على رؤية الخير في الآخرين”، بينما يصرح “غن” بأن الفيلم “يرفع قدسية الحياة فوق كل اعتبار”، في تباين واضح مع رموز العنف والهيمنة التي باتت تملأ الشاشات.
ولأن سوبرمان لا يصرح بانتماء ديني (له خلفية يهودية)، فقد ظلت قراءته مفتوحة أمام جميع الثقافات، لكن من يتأمل سيرته بعين إيمانية، يلمس فيها خيوطا توحيدية عميقة، فاسمه الكريبتوني “كال-إيل” يحمل دلالة دينية، حيث تشير “إيل” في العبرية إلى الله، تماما كما في أسماء أنبياء كـ”إسماعيل” و”جبريل”.
أما قصة خروجه من كوكبه المنهار نحو الأرض، فهي لا تبتعد كثيرا عن صورة موسى في التابوت، أو عن رحلات النجاة التي حفظت أطفالا من المحارق الكبرى، لكن الرمزية التي ولد منها سوبرمان لم تبق حبيسة خلفية يهودية أو ثقافة غربية، بل تجاوزت حدودها، وتحولت إلى سردية كونية تسكن الضمير الإنساني، وتذكره بأن القوة لا تكتمل إلا إذا كانت في خدمة الخير.
واللافت أن هذه السردية تتقاطع، بشكل مذهل، مع جوهر التصور الإسلامي للبطولة الأخلاقية، فالإسلام، كما نعلم، لا يحتفي بالبطش، بل يعلي من شأن من “يملك نفسه عند الغضب”، ومن “يأمر بالعدل وهو على قدرته”، ومن ينصر المستضعفين دون أن ينتظر جزاء ولا شكورا، ومن هذا المنطلق، يظهر سوبرمان كرمز لا ديني، لكنه قريب من روح النبوة، ليس لأنه معصوم، بل لأنه مصلح.
نشأ سوبرمان، وفق الرواية، في مزرعة ريفية على يد والدين طيبين، غرسا فيه قيما نبيلة: الرحمة، الأمانة، الصبر، الانتماء، وهو ما يعيد إلى الأذهان التربية النبوية التي أشارت إليها الآية: “ولتصنع على عيني”، حين يربى الإنسان في الخفاء، بعيدا عن الأضواء، ليحمل لاحقا أمانة لا يقدر عليها كثيرون.
وفي زمن اختلطت فيه صور البطولة بشخصيات مشوهة وعنيفة، من “هوملاندر” السادي إلى “أومني مان” الغادر، تظل شخصية سوبرمان استثناء أخلاقيا، لأنه لا يستسلم للرغبة في الانتقام، رغم ما يتعرض له، بلاده الأصلية دمرت، هويته مهددة، لكنه لا يتحول إلى جلاد، بل يزداد رحمة.
حتى في الأوساط غير المتدينة، لم تفقد هذه الشخصية حضورها الرمزي، فربما هناك من يرى فيها تجسيدا للقيم الانسانية الكونية، كصون الكرامة، والتضامن، والعدل، فالمعيار عند سوبرمان ليس معتقدك، بل سلوكك.
وما يزيد هذه الشخصية عمقا، هو كونها مرآة لتجربة “الإنسان الغريب”، أو “الانسان المهاجر”، ذاك الذي يعيش بين ثقافتين، باسمين، وولاءين، تماما كما يعيش كثير من المسلمين اليوم، خاصة في ديار الاغتراب، بين اسم عربي في البيت واسم غربي في المدرسة، بين هوية روحية وهوية اجتماعية، لكن سوبرمان، مثلهم، لا ينكفئ، بل يصنع من غربته شعلة تضيء الطريق.
ولأن العالم اليوم يبحث، بلا جدوى، عن رموز ملهمة وسط بحر من الضجيج والضياع، فإن عودة سوبرمان ليست حدثا سينمائيا فحسب، إنه عودة سؤال: من يذكر الإنسان بإنسانيته؟ من يقول لهذا الكائن الممزق إن الخير ما زال ممكنا، وإن الرحمة ليست ضعفا؟
ليست الإجابة في طائرات ولا أسلحة، بل في أن يحمل كل واحد في داخله شيئا من هذا “السوبر” الذي لا يحتاج أن يكون خارقا، بقدر ما يحتاج أن يكون صادقا.
هل كان الإيمان بوجود خالق وسيد لهذا الكون هو الأصل في وعي الإنسان الأول؟ وهل كان الإحساس بأن هناك يدا عظيمة تنشئ وتفني، جزء فطريا من إدراكه العميق؟ لكن مع تعاقب الأزمنة خبت جذوة هذا الإيمان شيئا فشيئا تحت ركام الانشغال بالمحسوس والمرئي..
ثم، ألا يبدو أن الذاكرة البشرية، في لحظاتها الحرجة، تبحث دائما عن مخلص؟ عن نبي، أو رجل صالح، أو قائد أخلاقي ينتشلها من تيهها؟ كما لو أن المسار الإيماني للإنسان مرتبط جوهريا بظهور المنقذين في المنعطفات الكبرى من التاريخ.
ومع مرور الزمن، وتصلب القلوب، وتراكم الغفلة، هل نسيت البشرية – أو تناست – أن هناك عالما آخر موازيا، غير هذا العالم المادي؟ عالما لا يقاس بالحواس ولا تدركه التجربة، لكنه يظل ماثلا في الأعماق، كصوت خافت ينادي: هناك ما هو أسمى من الواقع، وأبقى من اللحظة..