رفع الآذان في كولونيا: الواقع و المآل وجدل الانتماء

تحظى حرية المعتقد الديني في ألمانيا باعتراف وحماية الدستور ويتميز المشهد الديني بزيادة التعددية

محمد عسيلة
آراء ومواقف
محمد عسيلة5 أكتوبر 2022آخر تحديث : الأربعاء 5 أكتوبر 2022 - 9:12 صباحًا
رفع الآذان في كولونيا: الواقع و المآل وجدل الانتماء

محمد عسيلة، أستاذ باحث في الهجرة والدين و الثقافة
في سياق الحريات الدينية المسطرة في الدستور وما يمنحه للأقليات في ممارسة لممارسة أعرافها وتقاليدها وتدريس لغاتها ودياناتها في المؤسسات التربوية، أعلنت بلدية كولونيا وحسب ما تداولته بعض الصحف الجهوية والمحلية، بأنها ستسمح يوم 14 أكتوبر الجاري و الذي يصادف يوم الجمعة بالسماح برفع الآذان في المسجد المركزي في إرينفيلد.

ولقد كانت هناك ردود أفعال متباينة وأسئلة مطروحة من طرف الساكنة والساسة حسب تبريراتهم وتلويناتهم السياسية اتجاه هذا الاتفاق الذي أسال مدادا كثيرا وتفاعلات مختلفة من كل الأطياف الدينية والمدنية.

فهل هذا يدل على تناقض في التعامل مع الحقوق المسطرة في الدستور؟

لو كان الأمر يتعلق فقط بالاعتراف بممارسة الأقلية المسلمة في ألمانيا وإرسال إشارة من طرف بلدية المدينة للتسامح، لكانت الأمور سهلة. لكن الأمر يتعلق أيضًا بالهوية وأهمية التقاليد للأفراد و للطوائف والأسر ومسألة ما إذا كان الأمر يتعلق أكثر بحرية الدين بشكل مستدام في مجموع التراب الألماني أو أن يُسمع الآذان كإشارة وجود إسلامي بالمدينة أو بهذا الحي الجميل بمدينة كولونيا؟

ففي عناوين الصحف لهذا الصباح نجد: “في منطقة Ehrenfeld في كولونيا ، يمكن للمؤذن أن يؤذن للصلاة عبر مكبرات الصوت لأول مرة في 14 أكتوبر” وهذه مبادرة رائدة وشجاعة من طرف بلدية كولونيا والتي تشير بها إلى حرية الممارسة الدينية المكفولة في القانون الأساسي وأثارت بهذا المقارنة مع أجراس الكنائس.

فمثلما دعا هؤلاء “المؤمنون المسيحيون” بأجراسهم الى حضور الاحتفالات المقدسة و الخدمات الدينية، يدعو المسلمون كذلك برفع الآذان إلى صلاة الجمعة. وهذه مساواة مبنية على تقليد حقوقي يجب أن يتم إحياؤه لإعطاء الاشارة للمسلمين بالانتماء الى هذا البلد.

وفي هذا السياق حثت الكنيسة الإنجيلية في راينلاند على توخي الحذر حيث يقول مكتب الكنيسة الإقليمي: “حقيقة أنه يمكن دعوة المسلمين أيضًا إلى “خدماتهم الدينية” وهذا تعبير عن الحرية الدينية في بلادنا؛ لكن بما أن دعوة المؤذن غريبة على كثير من الناس في هذا البلد، فإنها تتطلب بالتأكيد عناية وحساسية من جميع الجهات عند التعامل معها”. فالأمر إذن مرتبط “بغرابة الآذان” وحساسية هذا الحق في المخيال الجمعي إذن للألمان الغير المسلمين.

وتبقى هناك قواعد يجب على تمثيليات المساجد التي تريد الأذان علنًا في كولونيا مراعاتها حسب ما أصدرته السلطات الوصية حيث تشمل هذه الشروط، على سبيل المثال، ألا يستمر الأذان أكثر من خمس دقائق واحترام الحد الأقصى لقوة مكبر الصوت والذي يجب تحديده وفقًا لموقع المسجد. بالإضافة إلى ذلك، يجب على تمثيلية المسجد المعني إبلاغ ساكنة الحي في مرحلة مبكرة عبر مطويات وملصقات وتعيين مسؤول اتصال يمكنه الرد على الأسئلة أو تلقي الشكاوى. كما أن هذا “الحق” يبقى في إطار مشروع تجريبي لمدة عامين.

ولقد أشارت جريدة راينش بوست لهذا الصباح الى أن “مستشارية ولاية فستفاليا الشمالية حذرة أيضًا”. فتمكين المسلمين من دعوة المصلين للصلاة هي جزء من الحرية الدينية، “ولكنها في نفس الوقت تخضع لقيود يمكن (لهذه القيود) أن تكون مستمدة كذلك من الدستور”. لذلك -تقول المستشارية- يلزم إجراء قياس حدة وقوة الصوت في كل حالة محددة ومعينة.

وفي هذا الصدد يقول متحدث باسم حكومة الولاية: “من وجهة نظر حكومة الولاية ، يجب أن يكون هناك توازنا و تعاملا بعناية مع هذا الموضوع، وهذا هو أفضل أساس للتوفيق بين المصالح المختلفة”. ولكي ينجح هذا “المشروع”، يستشف من أقوال الساسة وجس نبض الشارع الألماني، ان هذا الحق الدستوري في اعتقادي يبقى رهين طريفة التعامل معه من طرف مسؤولي التمثيليات المسلمة في ألمانيا.

وتشير إليزابيث مولر-ويت، نائبة رئيس المجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديمقراطي في برلمان ولاية شمال الراين-ويستفاليا، أيضًا نجاح تجربة رفع آذان الجمعة في بلديات أخرى ومنها مدينة راتنكن، حيث نجحت تجربة رفع الآذان يوم الجمعة بشكل جيد وذلك بناء على جودة التواصل والحوار للحصول على “تقبل مجتمعي واسع”. و تشير هذه السياسية إلى أن عمدة مدينة كولونيا السيدة هنرييت ريكر لم تنجح في عملية التواصل، حيث وضعت السياسة والمجتمع أمام الأمر الواقع. وهذا ضاعف من حدة التوتر منذ بداية التفكير في هذا الحق الدستوري.

الصحفي الألماني أحمد منصور، حسب جريدة راينش بوست يحذر من النظرة الساذجة للموضوع. دعوة المؤذن -حسبه- ليست جزءًا ضروريًا من صلاة الجمعة ، لذا فهي لا تتعلق بحرية ممارسة الدين بقدر ما تتعلق بجعل الإسلام مرئيًا في ألمانيا. يقول منصور: “من اللافت للنظر أن المنظمات الإسلامية التابعة لتركيا مثل ديتيب تصر على التسامح وحرية الدين عندما تدعو للآذان، لكنها لا تظهر نفس التسامح مع قضايا التنوع الأخرى ، مثل المثلية الجنسية”.

لذلك ، لا يهتم جميع الفاعلين بإظهار التسامح ، ولكن في جعل اتجاه معين للإسلام أكثر وضوحًا للجمهور واستخراج رأس المال السياسي منه. يحذر منصور أيضًا من أنه يجب أولاً توضيح الأسئلة الأساسية المهمة في جميع أنحاء أوروبا قبل اتخاذ قرارات ملموسة مثل الدعوة للحصول على حق رفع الآذان .

“حتى الآن، لم توافق أوروبا على مدى كون الإسلام كيانا متساويًا في الحقوق وما يعنيه ذلك بشكل ملموس – على سبيل المثال فيما يتعلق بالعطلات الرسمية، وكيفية التعامل مع شهر صيام رمضان أو الآذان”، يقول منصور. ومع ذلك، فقد لمست هذه الأسئلة شعور الناس بالهوية وسمحت بإساءة استخدام القوى الشعبوية اليمينية لإثارة مخاوف الهوية والتحريض ضد الإسلام. يقول منصور: “علينا أن نناقش كل هذا ، لكن ليس في تجاوز للمواطنين”. ويعتقد منصور أن “القوى اليمينية ستعرف كيف تستخدم ذلك لتحقيق أهدافها”. كما أنه يرى الى المعادلة مع أجراس الكنيسة بشك وتوجس حيث -حسب رأيه- “يجب أن يتضمن النقاش المفتوح أيضًا الاعتراف بأن أجراس الكنائس لها تقاليد عمرها قرون في ألمانيا ، في حين أن دعوة رفع الآذان ليست كذلك.”.

كما أن أبرشية كولونيا ترى في مقارنة الأجراس مع الآذان اختلافًا آخر حيث إن “رنين الجرس نفسه لا يحتوي على محتوى معلومات خاص مقارنة مع الآذان”. في المقابل، فإن الأذان -حسب المصدر نفسه- يتمثل في نداء نص مبني على عقيدة المسلمين، بحسب بيان أصدرته الأبرشية في كولونيا. ومع ذلك، تؤكد الأبرشية أن الكنيسة الكاثوليكية ترى أن الدعوة إلى الصلاة جزء من ممارسة الدين، وقد دعت دائمًا إلى أن حماية هذه الممارسة يجب أن تنطبق أيضًا على المسلمين. تقول الأبرشية: “إن سماع الأذان مرة واحدة في الأسبوع يمكن أن يكون علامة على اندماج الأقلية المسلمة”.

في الجدل الاجتماعي المثير للتوتر حاليًا، يمكن للكنيسة أن تساهم في التقليل من الانفعالات ودعم نقاش عقلاني بعيد عن الانفعالات وردود الافعال السريعة.

وفي جهات أخرى من ألمانيا مثل أور-إركينشويك ، شمال منطقة الرور، تم تقديم شكايات من طرف الساكنة ضد حق رفع الآذان أمام القضاء بسبب منح المؤسسة التمثيلية الدينية التركية ديتيب الإذن منذ سنوات بالدعوة للصلاة عبر مكبرات الصوت لمدة خمس دقائق يوم الجمعة. تعليل الشكوى المقدمة أمام القضاء أن “السكان المحليين لا يريدون أن ينزعجوا من الدعوات الدينية ويرون أن حريتهم الدينية مقيدة”!. لم يتم تأييد هذه الشكوى أمام المحكمة الإدارية العليا في شمال الراين – وستفاليا، ولكن تبقى الإشارة إلى أنه تم البت في القضية بشكل فردي، دون اعتبارها مسألة مبدأ. لذلك يبقى الباب في اعتقادي مفتوحا على مصراعيه في مشروع رفع الآذان بمدينة كولونيا اتجاه كل الاحتمالات والصراعات.

وتجدر الاشارة في هذا المقال أنه ليس في ألمانيا كنيسة دولة أو كنيسة حكومية. أساس العلاقة بين الدولة والدين هي حرية المعتقد الديني التي نص عليها الدستور الألماني، إضافة إلى الفصل بين الدولة والكنيسة، بما يضمن حيادية الدولة من ناحية المعتقد الديني، وحرية واستقلالية المؤسسات والتجمعات الدينية. وتتعاون الدولة مع التجمعات والجمعيات الدينية على أساس من الشراكة و التعاقد. كما تساهم الدولة في تمويل دور الحضانة والمدارس التابعة للتجمعات والمؤسسات الدينية. وتفرض الكنائس ضريبة كنَسيّة على أتباعها، حيث تقوم الدولة بتحصيل هذه الضرائب لتمويل نشاطات وخدمات اجتماعية.

ولقد فتح النقاش لتأسيس ضريبة دينية على رواد المساجد لتمويل مشاريع خاصة بالمسلمين. كما يتوجب على المدارس تقديم دروس الديانة باعتبارها إحدى المواد التعليمية في المدارس، مع بعض القيود في بعض الولايات مثل برلين. و المقال لا يتسع لتوضيح الكيف الذي يتم من خلاله تقديم مادة تدريس الدين الاسلامي في المؤسسات التعليمية الألمانية حيث أن هناك اختلافات جوهرية بين الولايات وصراعات بين تمثيليات المسلمين.

ورغم ذلك يتم التفكير والعمل على التوسع في تدريس الديانة الإسلامية في عدد من المناطق. ومن أجل تقديم دروس الديانة الإسلامية للتلاميذ المسلمين الذين يذهبون إلى المدارس في ألمانيا، يتم تأهيل وتدريب أعداد من الأساتذة بالأسلوب التربوي العلمي المناسب رغم بعض التحفظات التي لعدد من التمثيليات المسلمة على فحوى و مضامين و أسس هذا التدريب.

و تجدر الاشارة في هذا المقال الى التذكير بأن ألمانيا على صفحات مؤسساتها الرسمية مثل الصفحة الاعلامية لوزارة الخارجية تنص على “رغم وجود تشريعات شاملة في القانون الدولي يظل الحق الإنساني في حرية الدين والمعتقد يتعرض لعديد من الانتهاكات ومحاولات التضييق، لذلك فإن مساندة حرية الدين حول العالم جزء مهم من سياسة حقوق الإنسان التي تنتهجها الحكومة الألمانية.”
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون .

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.