رسول عربي أمي.. برسالة ودين عالمي.. وبشريعة رحمة للخلق أجمعين

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
مقـــدمـــة:
إن البشرية قبل بعثته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانت تتخبط في بيداء التيه وظلمات الجهل والظلم التي تتحكم في علاقات الناس من عبادة الأصنام إلى العصبية القبلية والحروب الطاحنة بين الدول والقبائل ، إلى إهانة المرأة وإذلالها واعتبارها سلعة تباع وتشترى وتورث كما يورث المال، فضلا عن وأدها وهي على قيد الحياة ، إلى أن أكرم الله عز وجل البشرية بمبعث خير البرية محمد – صلى الله عليه وسلم – بدين الإسلام ليسلك بها طريق النور والهداية، فأشرق تاريخها وانجلى ظلامها، فنظم علاقات الإنسان بنفسه وبخالقه وبغيره من بني البشر.
فلم تكن جزيرة العرب تخضع لدولة ولم يكن في المدينة سلطة ونظام وعدل حتى دخلها النبي ودخلت مدن العرب وقبائلها في دولته طواعية بالبيعة بلا إكراه، رغبة في العدل الذي أقامه والحق الذي دعاهم إليه إلا مكة وخيبر بالفتح. ولم يقاتل النبي أحدا قط إلا من اعتدى عليه كما فعل يهود المدينة وأهل مكة .
ثم دخل العرب في الإسلام طواعية، وكان النبي يبايع كل من جاءه لتأكيد طبيعة العلاقة في الدولة الجديدة وأنها عقد بلا إكراه، (والمقصود أنه لم يكره أحدا على الدخول في دينه البتة، وإنما دخل الناس في دينه اختيارا وطوعا، فأكثر أهل الأرض دخلوا في دعوته لما تبين لهم الهدى، وأنه رسول الله حقا).
(هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى لابن القيم )(131) .
ودخلت عمان واليمن والبحرين واليمامة ونجد في دولة النبي ودينه بلا حرب طواعية، ومن لم يسلم كنصارى نجران ودومة دخلوا صلحا. فلم يمض النبي لربه حتى عم سلطان دولته جزيرة العرب كلها وأرسل ولاته وقضاته وجباته لكل مدنها وأقاليمها فوحدها سياسيا كما وحدها دينيا وتشريعيا.
هذه طبيعة نشأة الدولة في الإسلام كما أقامها النبي ، بدأت بالدعوة على أساس (لا إكراه في الدين)
وانتهت بالدولة على أساس (وأمرهم شورى بينهم). فكان النبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه ربه (رحمة للعالمين) ولم يكن جبارا ولا ملكا (لست عليهم بمسيطر) وكل من خالف هديه فقد طغى (ولا تطغوا).

عالمية الإسلام ودلائله
يُقصد بعالميّة الإسلام أنَّ الإسلام دين عالميّ، فشريعته عامّة لكلّ أبناء البشريّة دون استثناء أحد، وبالتالي نُظُمه التي شرعها الله سبحانه وتعالى تتصف أصولها بسمة العالميّة والشموليّة، حيث جعلت هذه النّظم عامّة لجميع أبناء البشريّة، ولا تقتصر على شعب دون آخر، أو عقل دون آخر، أو مجتمع دون آخر، بل إنَّ الإسلام عامّ لجميع الأمم والمجتمعات.
ويمتلك الإسلام من الخصائص والميزات ما يجعله صالحاً لكل زمانٍ ومكان، سريع الانتشار والقبول في أرجاء العالم كلّه، ففيه ما يلبّي احتياجات النفس البشرية ويضمن لها السعادة والسكينة، كما يحث على تماسك المجتمعات وإقامة النهضات، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلّا وجد لها حلاً وعلاجاً، ولا يمكن لأيّ إنسان أن يتعرّف على سماحته وعدله إلّا أن يحبّه. هذه الأسباب كلها أكسبت هذا الدين العظيم صفة العالميّة.
وقد ارتضاه الله تعالى (الإسلام) لكافّة خلقه مما يؤكّد على عالميّته، لأنه تعالى هو ربّ العالمين، وليس ربَّاً للعرب أو المسلمين، حيث يقول الله تعالى في محكم تنزيله: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة2).
والقرآن هو وحي الله لرسوله محمد، جاءت تشريعاته لإصلاح أحوال كافّة البشر سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين.
°°فالقرآن يوصـي بالتسامـح إلى أقصى حد ممكن في الأمور الدينية، وهنا يتبين لنا جليا أن احترام عقائد الآخرين وعدم إكراههم هـو أساس التسامح؛ لأن الإكراه في الدين لا يجوز، فهو يتنافي مع طبيعة العقيدة نفسها، من حيث كونها عنصرا نفسيا، ومن المحال تكوين أو تأسيس حقيقة نفسية بالإكراه، كما يوصي بحرية الفكر واحترام جميع الآراء، ويستنكر أي اعتداء على المعتقدات، سواء منها الفردية أو الجماعية، وعلى الناس أن يهتدوا عن طريق الاقتناع الذاتي. فلا يجوز أن تفرض عليهم الآراء، ولكن الذي ينبغي أن يوجه اقتناعهم هـو حرية الاختيار والمقارنة بين الحق والباطل حسبما يمليه عليهم التأمل وإعمال العقل .°°
والنبي محمد هو رسوله للخلق أجمعين ورَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ، حيث جاء بالدين الخاتم الذي هو المكمل لما جاء به الأنبياء قبله، وقد ارتضاه الله لنا وللبشرية جمعاء حيث يقول سبحانه:
(اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) (المائدة 3).
فبكمال الدين وإتمام النعمة على البشرية جمعاء لن تحتاج لدين غيره، فالرسولخاتم النبيين، والقرآن الكريم خاتم الكتب، والإسلام خاتم الديانات ، وهو دين الرحمة والتسامح والعدل مع الخلق أجمعين، وهو دين وسِع الجميع وأثبت نجاحه على مختلف الصعد. واستمراره على مدى القرون الطويلة وعدم محوه رغم المؤامرات والخطط التي حاولت التخلص منه، بل على العكس، هو في انتشار وازدياد في أنحاء العالم كله، دليل على أنه من عند الله ومحفوظ بحفظه سبحانه.
°° فعالمية الرسالة الإسلامية والحضارة التي أنتجتها حقيقة منبثقة عن الرؤية الإسلامية ذاتها قبل أن تتجلى في الأمة التي امتد حضورها ليشمل العالم القديم برمته عبر قرون عشرة. فبرزت العالمية الإسلامية:
– في مجتمع المدينة الصغير من خلال الخصائص المميزة لذاك المجتمع الإنساني العالمي، القائم على مبدأ التضامن العضوي العقدي. وبذلك وحدت مبادئ الحق والعدل والتكافل والتراحم والتسامح التي جاء بها الدين الجديد مجتمع المدينة، وتكفلت وثيقة تأسيسه التي تمثلت بصحيفة المدينة الحفاظ على كرامة وحقوق أفراده بغض النظر عن انتماءاتهم القبلية والعرقية والدينية.
-وفي الخطاب القرآني العالمي الذي ارتبطت مقاصده بكرامة الإنسان، والذي جعل مدار البعثة المحمدية رحمة الإنسان: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين. **

رسول عربي أمي…
قال تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ () وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ () نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ () عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ () بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ()) (الشعراء: 191-195)

(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) وهو أفضل الألسنة، بلُغة من بُعثَ إليهم، وباشر دعوتهم أصلا باللسان البين الواضح. وتأمل كيف اجتمعت هذه الفضائل الفاخرة في هذا الكتاب الكريم، فإنه أفضل الكتب، نزل به أفضل الملائكة، على أفضل الخلق، على أفضل بضعة فيه وهي قلبه، على أفضل أمة أخرجت للناس، بأفضل الألسنة وأفصحها، وأوسعها، وهو: اللسان العربي المبين. (1)

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ( إبراهيم :4) .
قال أبو جعفر الطبري: يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا إلى أمة من الأمم، يا محمد، من قبلك ومن قبلِ قومك، رسولا إلا بلسان الأمة التي أرسلناه إليها ولغتهم (ليبين لهم)، يقول: ليفهمهم ما أرسله الله به إليهم من أمره ونَهيه، ليُثْبت حجة الله عليهم، ثم التوفيقُ والخذلانُ بيد الله.
قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ﴾، بلغتهم ليفهموا عنه ما يلقيه إليهم. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ هَذَا وَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ؟ قِيلَ: بُعِثَ مِنَ الْعَرَبِ بِلِسَانِهِمْ وَالنَّاسُ تَبَعٌ لَهُمْ ثُمَّ بَثَّ الرُّسُلُ إِلَى الْأَطْرَافِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيُتَرْجِمُونَ لَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ،﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾. (2)
فالله سبحانه وتعالى حينما بعث نبيّه الكريم محمداً رسولاً إلى العالمين، فقد اصطفاه من بينهم لحمل هذه الرّسالة. عن جابر بن عبد الله أن رسول الله قال:(أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وجُعِلَتْ لي الأرْضُ مَسْجِدًا وطَهُورًا، وأَيُّما رَجُلٍ مِن أُمَّتي أدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، وكانَ النبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ كَافَّةً، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ.)(3)
وخَصَّ اللهُ سبحانه وتعالى نبيَّه محمداً بما لم يَخُصَّ به أحدًا مِنَ الأنبياءِ قبْلَه. وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذه الخِصالِ الَّتي لم تجتمِعْ كلُّها لأحَدٍ مِنَ الأنبياءِ إلَّا له .
ومنها أن بَعثتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانتْ لِلنَّاسِ كافَّةً، فهو خاتمُ الأنبياءِ؛ ولذلك جُعِلَتْ رسالتُه عامَّةً لِتَصِلَ إلى الخَلْقِ كلِّهم، وكان النبيُّ قبْلَه يُبعَثُ إلى قَومِه فقطْ.
وعندَ مسلمٍ مِن حديثِ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه مرفوعًا: «وأُرسِلْتُ إلى الخَلْقِ كافَّةً، وخُتِم بيَ النَّبيُّونَ».

الأمية معجزته صلى الله عليه وسلم.
واقتضت مشيئة الله تعالى أن تتوفّر في هذا النّبي صفات معيّنة منها صفة الأمّية، وقد وردت صفة النّبي الأمّي في القرآن الكريم في آيات كثيرة منها قوله تعالى:

﴿ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيءَ الْاُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْاِنْجِيلِ يَامُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْاغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ () فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾(الأعراف: 157)

فمن أكبر الأدلة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته هي أُميَّته؛ حيث جاء وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب بهذا الكتاب المعجز (القرآن الكريم)، هذا الكتاب الذي أعجز البلغاء بفصاحته، وأعيا الفصحاء ببلاغته، كما حوى هذا الكتاب كل ما يحتاجه الإنسان لدينه ودنياه، ففيه العقائد والعبادات، وفيه الأحكام والتشريعات، وفيه الأدب والأخلاق، وفيه المواعظ والقصص، وفيه الجدل والحجاج، إلى غير ذلك مما لا يتناهى منه العجب، ولا ينقطع منه الدهش، كل ذلك أتى على يد نبي أمي لم يقرأ يومًا حرفًا، ولم يخط بيمينه يومًا كلمة، لذلك كانت أميته هي موضع عظمته، ودليل صدقه، وآية من الآيات الدالة على نبوته.
لكن بعض الباحثين المسلمين الذين أنكروا أمية النبي ؛ يظنون أنها لا تليق بمقامه الشريف، وأن أميته تعد صفة نقص لا كمال، فحاولوا بحسن نية تنزيه مقامه الشريف عن هذه الصفة، لكن في الحقيقة والواقع قد تعد الأمية صفة نقص في حق إنسان عادي وسط مجتمع متعلم يجيد معظم أفراده القراءة والكتابة، لكن في حق النبي لا تعد مطلقًا صفة نقص، وإنما هي صفة كمال وإعجاز، صفة يتحقق عن طريقها صدقه في دعوته، وأمانته في تبليغ رسالته، فصفة الأمية أصبحت في حقه صفة كمال؛ لأنها دلَّت على أنه نبي، وهو أعلى مقام يمكن أن يصل إليه بشر، لذلك لا يصح أن نقيس حال البشر العاديين على حال الأنبياء.
فالرسول كان أميًّا، وهذا شرف له ما بعده شرف، ومزية ما بعدها مزية؛ لأن الله عز وجل هو الذي اختار له هذا، وأجرى به القدر حتى تظل علامة صدقٍ وبرهان حق على مر الأيام وتوالى الأعوام.
ولو شاء الله عز وجل أن يرسل رسوله قارئًا كاتبًا لما أعجزه ذلك بداهةً حاشاه، ولكن شاءت إرادته تعالى أن يجعل نبيه بليغًا في أقواله (أي بلسانه) دون أن يخط حرفًا بيمينه، لتقوم المعجزة في شأنه أولاً، وشأن ما بعثه به والكتاب الذي معه ثانيًا.
إذن فلم يكن عسيرًا على الله تعالى أن يعطل ملكة تعلم القراءة والكتابة عند رسوله ويطلق الفصاحة والبلاغة المدهشة المعجزة لتتلقاها العقول والأفهام، وتتأملها الألباب وتتحير في نسبتها لا إلى محمد وحده بوصفه “أمي” ولا إلى غيره من بلغاء وفصحاء العرب، بحيث يصدقون أنه اقتبسها منهم أو علمه أحدهم إياها، ولا يقاس بالتالي أسلوب القرآن الكريم على أيٍّ من الأساليب التي توارثوها أو برعوا فيها، بل بلغ من تحدي الله عز وجل لهم أن يأتوا بسورةٍ من مثله، أو بعشر آيات على منواله. فطاش صوابهم، واجتمع رؤسائهم لا على كيفية الإتيان بمثله، ولكن لتدبير المكائد للرسول من اتهامه بالكهانة والسحر والشعر والجنون، وهم فيما بينهم يعلمون أن ما جاء به هو الحق، وأن ما أتى به ليس من كلام البشر ولا يستطيعونه، ومن هنا تجلت “معجزة القرآن” وما كانت لتبدو إلا في كنف “رجل أمي” لتصبح الأمية في حقه صلى الله عليه وسلم شرفًا، وانبهارًا وإعجازًا.
وبالرغم من أن الله تعالى أرسل رسوله -صلى الله عليه وسلم- إلى أمَّةٍ أُمِّيَّة لا تكتب ولا تحسب، إلا أن هناك من العرب المكيين من كان يعرف القراءة والكتابة؛… فلقد استعمل العرب الكتابة في أعمالهم التجارية وفي تسجيل أحداثهم اليومية، وقد كتب بعض أهل الحجاز بالخط السرياني، وكتب بعضهم بخط أهل اليمن المعروف بالمسند الحميري حتى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو قريبًا منه، وذلك بحكم العلاقات التجارية التي كانت تربطهم بأهل اليمن، ولا يُستبعَد أن يكون جد النبي عبد المطلب بن هاشم على دراية بذلك الخط، ومع كون الكتابة معروفة في الجاهلية إلا أنها لم تكن مألوفة وخاصة في البادية(4)
قال الله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ (الجمعة: 2)
وفي وصف الرسول الأمي بأنه يتلو على الأميين آيات الله أي وحيه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب أي يلقنهم إياه، كما كانت الرسل تلقن الأمم الكتاب بالكتابة، ويعلمهم الحكمة التي علمتها الرسل السابقون أممهم، في كل هذه الأوصاف تحد بمعجزة الأمية في هذا الرسول ، فهو مع كونه أميًا قد أتى أمته بجميع الفوائد التي أتى بها الرسل غير الأميين أممهم، لا ينقص عنهم شيئًا، فتمخضت الأمية للكون معجزة حصل من صاحبها أفضل مما حصل من الرسل الكاتبين مثل موسى. وفي وصف الأمي بالتلاوة، وتعليم الكتاب والحكمة، وتزكية النفوس، ضرب من محسن الطباق، لأن المتعارف عليه أن هذه مضادة للأمية(5)
يقول القاضي عياض: (ليست المعجزة مجرد كونه أميًا، فإن المعجزة حاصلة بكونه كان أولاً كذلك، ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون.)
ويثبت الشعر بأبيات رائعات معجزة علم الرسول صلى الله عليه وسلم بالرغم من أميته، فيقول الإمام البوصيري (6) في قصيدته الشهيرة “البردة”:
كَفَاكَ بِالْعِلْمِ في الأُمِّيِّ مُعْجِزَة ¨¨في الْجَاهِلِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِ في الْيُتُمِ
يشرح عبد العال الحمامصي البيت، فيقول: (وفوق المعجزات التي حفلت دعوة الرسول فهناك معجزة ماثلة في شخصه ذاته قبل أن يدعو لرسالته ويبشر بدينه )(7)
كما لم يغب عن المشهد أمير الشعراء في العصر الحديث أحمد شوقي أشهر من عارض بردة البوصيري بقصيدته الذائعة الرائعة “نهج البردة” وفيها يرصد تلك المعجزة، فيقول:

أَخوكَ عيسى دَعا مَيتاً فَقامَ لَهُ
وَأَنتَ أَحيَيتَ أَجيالاً مِنَ الرِّمَمِ
وَالجَهلُ مَوتٌ فَإِن أوتيتَ مُعجِزَةً
فَاِبعَث مِنَ الجَهلِ أَو فَاِبعَث مِنَ الرَّجَمِ

بينما يوضح الشيخ سليم البشري، شيخ الأزهر الأسبق، معنى البيتين معًا، فيقول: (وإذا أُعطيت معجزة فسواءٌ إحياؤك القلوب أي انقاذك لها من ظلمات الجهل والشرك واحياؤك الموتى، والأولى أعظم وأنفع(8).
أما معجزة رسولنا في بعث العرب بعثًا جديدًا فشهدت به الكاتبة الإنكليزية الليدى ايفلين كوبولد حيث تقول: (كان العرب قبل محمد أمة لا شأن لها ولا أهمية لقبائلها ولا لجماعتها، فلما جاء محمد بعث هذه الأمة بعثًا جديدًا يصح أن يكون أقرب إلى المعجزات فغلبت العالم وحكمت فيه آجالاً وآجالاً… لقد استطاع النبي القيام بالمعجزات والعجائب، لَمّا تمكن من حمل هذه الأمة العربية الشديدة العنيدة على نبذ الأصنام وقبول الوحدانية الإلهية.. لقد وفّق إلى خلق العرب خلقًا جديدًا ونقلهم من الظلمات إلى النور(9)
وينضم إلى الركب الدكتور محمود علي مكي، فيقول: (وإنه لتبدو من المعجزات قدرة الرسول على تحويل هذا المجتمع البدوي الذي كانت تمزقه العصبيات القبلية إلى “أمَّة” موحدة واعية بمكانها من التاريخ وبرسالتها التي قُدِّر لها أن تغير مسار البشرية، كل ذلك في عشر سنوات فحسب، وهي حقبة لا تكاد تعد في تاريخ الأمم) (10)
يختم لويس سيديو الشهادة بإعجاز النبي الكريم في بعث أمة العرب، فيقول: (لقد حلّ الوقت الذي توجه فيه الأنظار إلى تاريخ تلك الأمة التي كانت مجهولة الأمر في زاوية من آسيا، فارتقت إلى أعلى مقام فطبق اسمها آفاق الدنيا مدة سبعة قرون. ومصدر هذه المعجزة هو رجل واحد، هو “محمد”)(11).

ويوجز الشاعر محمود غنيم في بيتين من قصيدته: “وقفةٌ على طلل” كل الأقوال التي سبقته، إذ يرى أن الرسول الكريم لو لم يأت بمعجزة غير ما أحدثه في حياة العرب لكفاه:
هل تطلبون من المختار معجزة °°° يكفيه شعب من الأجداث أَحْياهُ
من وحد العرب حتى كان واترهم°°° إذا رأى ولد الموتور آَخاهُ

لم تكن المعجزة كامنة فقط في علم الرسول الأمي عند من رصدها من أهل العلم شرقًا وغربًا، إنها فقط الشطر الأول منها، ويتبقى الشطر الثاني في كيفية تحويل العرب بطباعئهم وموروثاتهم التي جبلوا عليها لقرون خلت إلى أمة ذات حضارة ومهارة وقيادة وهي معجزة ولا شك. وأما الشطر الأخير من المعجزة فيتمثل في الأساليب الناجعة والمبتكرة التي لجأ إليها الرسول واستعملها وأثبتت نجاحها، وأثبت العلماء الأثبات من أهل التخصص في علم تعديل السلوك والتربية مسايرتها، بل وأسبقيتها وريادتها فيما توصل إليه العلم الحديث مؤخرًا.

لقد مارس الرسول وسائل شتى في سبيل تعليم الصحابة رضي الله عنهم منها: اعتماد أسلوب النموذج والملاحظة والخبرة، وطرح الأسئلة، وضرب الأمثلة، وسرد الأخبار والقصص، وكذلك طريقة الاستدلال بالمناظرة والمحاورة وإقامة الحجة، وهي وسائل من أفضل الطرق التي تزود المتعلم بالمهارات والمعلومات…. كما كان يلوِّن حديثه لأصحابه ألوانًا كثيرة؛ فتارة يكونُ سائلاً ويكون مجيبًا، وتارة يجيب السائل بقدر سؤاله، وتارة يزيده فوق ما سأل، وأحيانًا يورد الشبهة ثم يجيب عليها، ومنها ما يسلكه من مداعبة جالبة للتعلم والتفكر. ولم يقصر علمه على الرجال دون النساء بل خصص بعض مجلسه لهنَّ، وكان يراعي في كلامه الأطفال رعايته للكبار لتعم فائدة التعلم؛ فلا يزهد الكبير، ولا يمل الصغير، ولا تأنف المرأة من التعلم. (12)

وقد كان جبريل عليه السلام معلمًا للنبي بالممارسة العملية، ثم نقلها النبي لزوجه السيدة خديجة رضي الله عنها فكان تعلمها بالمشاهدة أولاً، ثم بالمحاكاة ثانياً، والتعلم بالاقتداء لأبلغ في التأثير من الكلام النظري، بل قدم صلى الله عليه وسلم عدة طرق رائعة، أجمع عليها علماء معاصرون في مجالات تعديل السلوك الإنساني من مدارس واتجاهات حديثة متعددة يمكننا الاقتداء بها للتعامل مع الآخرين لتقويم وتعديل سلوكهم ومساعدتهم على التخلص من العادات السلبية الهدامة(13).
خرج الأمي المتحنث القابع في أعماق غار يطل على بطائح مكة، برسالة ملأت شعاب الأرض حوله وحول كل المدارات حتى بلغت القارات والقلوب، وعلم البشرية وما زال يعلمها، ليصبح في كل صبيحة حقيقة تؤكدها الأجيال أن أميته صلى الله عليه وسلم معجزة متجددة تبهر العقول وستبهرها في قابل الأيام.
يتبع بمقال: (برسالة ودين عالمي…. (2))
كتبه عبد الرزاق سماح ـ كاتب في الفكر والحركات الاسلامية
______________________________
** من مقال لي نشر: البعد الحضاري لوثيقة المدينة.
(1) تفسير سورة الشعراء للسعدي الآية 195
(2) تفسير البغوي: “معالم التنزيل”
(3) أخرجه البخاري (438)، ومسلم (521).
(4)تفسير الطبري2/ 259.
(5) علي شواخ إسحاق: ماذا حول أمية الرسول صلى الله عليه وسلم ص90.
(6) البوصيري المصري المكني بأبي عبدالله، والملقب بشرف الدين.، وله في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم القصيدة المضرية، والقصيدة المحمدية، والهُمَزية.
(7) عبد العال الحمامصي، البوصيري المادح الأعظم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ص 60.
(8) الشيخ سليم البشري: وضحُ النهج ص72.
(9) الليدي إيفلين كوبولد: كتاب: البحث عن الله، ص51، 66 واسمه الأصلي (الحج إلى مكة) والتي كتبته بعد اعتناقها الإسلام وقيامها بحج بيت الله الحرام.
(10) الدكتور محمود علي مكي، المدائح النبوية ص51
(11) لويس سيديو، تاريخ العرب العام ص 15.
(12) الباحث السوري قسطاكي حمصي (1858-1941) في مقالة له نشرتها مجلة الفتح القاهرية عام 1930.
(13)انظر: محمد نعمان: طريقة تعليم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثر تعليماته على الأدب العربي..
كذلك انظر: عبدالفتاح أبو غده: أسلوب المعلم وأساليبه في التعليم، المطبوعات الإسلامية، حلب 1416هـ.