منتصر حمادة
من كان يتخيل أن يأتي اليوم الذي يُصبح فيه الإسلام، ضيفاً قاراً على أغلب الندوات السياسية والفكرية في المجال الفرنسي؟
ولئن كانت النخبة السياسية هناك تملك هذه الشهية المفتوحة في التعامل مع الإسلام والمسلمين، فأن تكون ذات الشهية مفتوحة لدى النخبة البحثية أولى، فالأحرى النخبة الإعلامية، وهذا عين ما نعاينه منذ بضع سنين، وتم افتتاح أهم الإصدارات ذات الصلة بواقع الأقلية المسلمة، ومعها الجالية العربية، بكتاب الباحث الفرنسي، المؤرخ وعالم الاجتماع إيمانويل طود، بعنوان: “ما هي [أزمة] شارلي؟ أزمة سوسيولوجية دينية”. (صدر الكتاب حينها بعد اعتداءات شارلي إيبدو)
في هذا السياق يأتي هذا الكتاب للباحث الفرنسي جيل كيبل، بعنوان “القطيعة” أو “الهوة”، وهو الكتاب الذي نتوقف عند بعض مضامينه في هذا العرض، ويبدو العمل كما لو كان يوجه مجموعة رسائل إلى صناع القرار بخصوص عدة قضايا، منها تدبير الاختلاف بين النخبة السياسية على هامش التعامل مع الجالية العربية والأقلية المسلمة؛ ومنها كذلك تمرير بعض الرؤى بخصوص قراءة الظاهرة “الجهادية”؛ ومنها أخيراً، مناقشة آراء أوليفيه روا في معرض الاشتغال على أسباب الاعتداءات التي طالت الساحة الفرنسية خلال السنين الأخيرة، ولو أنه لم يرتحل كثيراً في معرض هذه المناقشة.
جاء الكتاب مُوزعاً على مقدمة وثلاثة محاور: محور أول عبارة عن جرد سياسي واجتماعي وديني لما وصلت إليه فرنسا خلال السنين الأخيرة، في تعاملها مع الإسلام ومعها الحركات الإسلامية الحركية، ثم محور ثاني، ويتضمن تجميعاً لسلسلة مقالات وحوارات للكاتب، أجرت معه من شتى بقاع العالم، أمريكا وأوروبا والشرق الأوسط ــ حيث توقف الكتاب عند علاقات صداقة تجمعه بمقربين من صناعة القرار في السعودية وإيران ــ على هامش الإدلاء بآراءه بخصوص تلك الأحداث، وأخيراً، محور ثالث، عبارة عن خاتمة مطولة، تكاد تكون موجهة للباحثين والمتتبعين، ولعلّ أهم رسائل المؤلف في هذا السياق، إشارته إلى أن تنظيم “داعش”، تمكن من تحقيق هدف هام في المجال الأوروبي، بأن جعل الشباب المسلم في فرنسا، أشبه بحصان طروادة، وخاصة الشباب ذي الأصول المغاربية والإفريقية، ويُضيف معهم “المعتنقين الجدد”، من الرجال والنساء، من الذين اعتنقوا الإسلام عبر البوابة “الجهادية”، فكانت النتيجة، ولادة “آلاف من جنود الله”، تشتغل في إطار “مجرة جهادية”.
“حِبر العالِم، خير من دم الشهيد”، هي الجملة التي افتتح بها الكاتب عمله، نقلاً عن أثر نبوي، وهي جملة دالة في سياق الموضوع الشائك الذي يتطرق إليه جيل كيبل، أي التطرف الديني لنسبة معينة من شباب الجالية العربية والأقلية المسلمة في أوروبا، من خلال الحالة الفرنسية، بحكم أن فرنسا تضم أكبر عدد من المسلمين في أوروبا، بعدد يُناهز ستة ملايين مسلم وربما أكثر. (يذهب المفكر الفرنسي ميشيل أونفريه إلى أن الرقم يناهز 7 ملايين مسلم)
يرى جيل كيبل أنه سواء تعلق الأمر بالفاعلين السياسيين أو الأمنيين، والإدارة الترابية بشكل عام، فإنهم يملكون المعلومة، ويراقبون الكل، ومتابعون لأغلب الفاعلين الإسلاميين، ولكنهم يفتقدون مَلكة التحليل والتفسير، وهذا عطب بنيوي يُعاني منه هؤلاء، يقف وراء هذا الكم من مؤلفات الكاتب، وغيره من الباحثين هناك في المجال الفرنسي. (ص 54)، مضيفاً أنه لا يمكن محاربة الفكر “الجهادي” دون معرفة أسبابه (ص 55)، وهذه إشارة تزكيها مواقف العديد من صناع القرار السياسي والأمني هناك، كما نعاينها قبل وبعد صدور هذا الكتاب، وتترجم ما يُشبه الحيرة النظرية بله العلمية، في التعامل مع حضور الإسلام بشكل عام، في شقه الثقافي والرسمي (عبر المؤسسات الممثلة للمسلمين أمام الإدارة الفرنسية، من قبيل “المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية”)، أو الظاهرة الإسلامية الحركية. (ص 54)، ويضيف في مقام آخر، أن معرفة صناع القرار بالجهاز المفاهيمي للظاهرة الداعشية تبقى كارثية. (ص 89). وهذه معضلة لا تهم المجال الفرنسي وحسب كما هو معلوم، بدليل إننا نجد مجموعة من الباحثين المغاربة والعرب لا عِلم لهم بأدبيات هذه الجماعات.
يضيف كيبل أن “أغلب الباحثين الفرنسيين الذين يشتغلون على التطورات المجتمعية في الساحة الفرنسية، ذات الصلة بالوجود الإسلامي، ممن “شدوا الرحال إما إلى بريطانيا أو الولايات المتحدة. وبالنتيجة، لقد فقدنا آليات فهم التحولات التي تطال المجتمعات الأوروبية وخاصة في الأحياء الشعبية التي تضم أغلبية مسلمة”. (ص 90)، وقد كانت التبعات المباشرة بهذه التحولات، أن أصبح شباب الجالية العربية والأقلية المسلمة، محاصراً بفكي “التدين السلفي” و”الخطاب السياسي اليميني”، من قبيل خطاب حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتشدد (ص 93)، حيث عاينا هجرة للصوت الإسلامي نحو أحزاب اليمين، وما يغذي هذه الهجرة، تفاعل الصوت الإسلامي مع بعض الأصوات الإعلامية الفنية التي تنهل من عقل المؤامرة، وخصّ بالذكر، الباحث آلان سورال، والكوميدي ديودوني.
استشهد كيبل أيضاً بخلاصات دراسة سابقة له، وجاءت بعنوان: “93”، والتي خَلُصت حينها إلى تراجع تأثير المؤسسات الدينية التابعة للدول المغاربية مقارنة مع تصاعد المد السلفي في الساحة الفرنسية، بما يتطلب إعادة النظر في وظيفة وأداء تلك المؤسسات، من طرف صانعي القرار، وازداد الوضع استفحالاً بسبب أخطاء العمل السياسي الذي هجرت أحياء الهامش، ابتداء من هجرة الأحزاب اليسارية وخاصة الشيوعية، وهي الهجرة التي تركت الساحة للفراغ، أو الفراغ الذي استغلته التيارات الإسلامية التي حذر منها كيبل في دراسته “93”، وبالتحديد الفراغ المؤسّس لخطر “التقوقع الهوياتي”، سواء عبر تيار الدعوة والتبليغ أو عبر التيار السلفي، وإذا كانت الأوضاع مع التيار التبليغي قابلة للتعديل وتحت المراقبة بشكل أو بآخر، خاصة بسبب رهان خطابهم على أخذ مسافة من الخوض في القضايا السياسية، ونبذهم اللجوء إلى العنف، فإن الأمر مختلف مع التيار السلفي ــ حسب المؤلف ــ الذي تروج أدبياته إلى ضرورة “الهجرة من الدول الكافرة” ــ والمقصود هنا النسخة المتشددة من السلفية الوهابية، وليس النسخة المعتدلة أو “السلفية العلمية”، بصرف النظر عن بعض التقاطعات ــ معتبراً أن ولاء الرموز السلفية في فرنسا، لازال مرتبطاً بمؤسسات العلماء في السعودية، مؤاخذاً على رموز وقواعد التيار تصلّب خطابهم العقدي، ورفضهم الاندماج في المجتمع الفرنسي ولو على الطريقة المغاربية، وصعوبة الهجرة إلى الدول الإسلامية، ومعتبراً أهم القنوات التي يتم عبرها تمرير المشروع السلفي بشكل مكثف، لا تخرج على الفضائيات السلفية ومواقع الإنترنت.
توقف المؤلف عند بعض معالم الحضور الإسلامي الحركي في الديار الفرنسية، مؤاخذاً على هؤلاء ملأ الفراغات وتوظيف كل ما صالح للتوظيف، قصد خدمة مشروع الجماعة، باسم خدمة الجالية العربية والأقلية الإسلامية، ومن ذلك، الركوب على ملف “الإسلاموفوبيا” التي أصبحت، حسب الكاتب، “العُلبة السوداء” في فرنسا، من فرط كثيرة التوظيفات تبادل الاتهامات، بحيث أصبح شعار العديد من الفعاليات السياسية والإعلامية الفرنسية بلْه الأمنية، الضغط على البحثين الفرنسيين بعدم الخوض في الموضوع، وعدم توجيه الانتقادات ضد المسلمين، حتى لا تتم تغذية الخطاب الإسلامي المتشدد، وخاصة الخطاب السلفي، ويستشهد الكاتب هنا بعدة أسماء كان مصيرها التكفير، وفي مقدمتها الكاتب الجزائري كمال داود، (ص 134) وهو الكاتب الفائز في آخر 2024 بجائزة الغونكور الأدبية، لكنه أحد أقلام التي تحرر في أسبوعية “لوبوان” الفرنسية، بمرجعية تكاد تكون استشراقية.
“اختطاف الإسلام” الفرنسي، يتم حسب المؤلف عبر التمويلات التي تنالها المؤسسات الإسلامية والجمعيات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني في فرنسا، ومصدرها بعض دول الخليج العربي (ص 141)، فكانت النتيجة، على غرار السائد في الساحة العربية مثلاً، إحداث نوع من القطيعة مع “الإسلام الثقافي” أو الموروث الثقافي، “ليس مع المجتمعات الأوروبية وحسب، لأنها عَلمانية وديمقراطية وتنادي بالمساواة بين الرجل والمرأة، ولكن مع المجتمعات المسلمة برمتها، ففي المغربي العربي أو تركيا، حيث نعاين تقاليد مالكية وحنفية قديمة، ولكنها منخرطة في نوع من المصالحة مع الحداثة، عبر تبني قراءات إنسانية للنصوص المقدسة، نجد أنها [المجتمعات المغاربية والتركية] مُهددة بالتديّن السلفي، والحال أنه أصبح عصياً على الباحثين الأوروبيين اليوم نقد التديّن السلفي وإلا سوف يتهمونك بأنك تناصر الإسلاموفوبيا”. (ص 143)
خطورة القطيعة الثقافية التي تشتغل عليها السلفية المعاصرة، حسب الكاتب، تكمن في “اللحظة التي يتم استلهام القطيعة أو تبني القطيعة [بين الدين والثقافة]، وحينها، نصبح جميعاً في خانة الكفار أو المرتدين: الكفار بالنسبة لغير المسلمين، والمرتدين بالنسبة للمسلمين الذين ينتمون إلى هذا التدين السلفي “الجهادي”، أي المسلمين الذين يرفضون تبني هذا النمط المتشدد من التديّن”. (ص 145).
في خاتمة العمل، يُحذر جيل كيبل من تبعات هذه “النقاشات المشوشة التي بزغت في الساحة على هامش الاعتداءات الدموية التي طالت فرنسا، وهي نقاشات، برأيه، بقيت رهينة رهانات هوياتية وطائفية من جهة، ورهانات سياسوية من جهة ثانية، بما يحول دون التأسيس لنقاش وانخراط هادئ، ومؤسَّس على تحليل الوقائع، وليس مؤسَّساً التمثلات الخيالية التي تغذيها فيروسات شبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي يوماً بعد يوم” (ص 232).
المصدر : https://dinpresse.net/?p=24064