حسن العاصي ـ كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدنمارك
أول أسير للثورة الفلسطينية المعاصرة. أول ثائر فلسطيني حُكم بالإعدام من المحاكم الصهيونية. وأول محرر فلسطيني من الزنازين الصهيونية بعملية تبادل أسرى.
ابن مدينة القدس التي قال عنها يوماً المفكر الفلسطيني الكبير إدوارد سعيد “الأرض كلها فنادق، وبيتي القدس”.
المدينة التي منها عرج إلى السماء السابعة خاتم الأنبياء والمرسلين، نبيّ الإسلام والإنسان في كل زمان ومكان. وفي ساحتها فرد المسيح عليه السلام جناح الحب والسلام رغم النزيف والآلام بصبر تعجز عنه الأفكار والأقلام.
حين حضر المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس Jacques Verge’s للدفاع عنه في المحكمة العسكرية الإسرائيلية، منعته هيئة المحكمة من إتمام مرافعته، فما كان منه إلا أن صرخ في وجه الصهاينة قائلاً: أن مكان الفلسطيني هذا في منصة الحكم، وليس في قفص الاتهام الذي يجب أن يزج بداخله أعضاء هيئة المحكمة.
سوف أتحدث في السطور التالية عن الأسير السابق، الفلسطيني الشهيد اللواء محمود بكر حجازي، أول أسير للثورة الفلسطينية، الذي غادرنا قبل أسابيع قليلة، بعد مسيرة حافلة بالعمل الوطني والنضالي في مواقع ومهام متعددة.
فارقنا المناضل الكبير أبو بكر حجازي وارتقت روحه للسماء، لكنه أبقى لنا سيرته المشرفة، وذكراً طيباً، وإرثاً كفاحياً يشكل فصلاً مهماً في كتاب الثورة الفلسطينية.
رجولة وشجاعة مبكرة
وُلد محمود بكر حجازي لعائلة ميسورة في مدينة القدس عام 1936 بحي المصرارة وهو واحداً من سبعة أحياء مقدسية تقع خارج أسوار البلدة القديمة من القدس. يقع الحي في القسم الشمالي من القدس، شمالي حي الشيخ جراح على الطريق الموصلة إلى رام الله.
أمضى محمود حجازي طفولته في حواري القدس القريبة من المسجد الأقصى. كان يداوم على حضور حلقات الذكر في المسجد، ويتلقى تعليمه في مدرسة المصرارة الأساسية.
في العام 1948 ومع احتلال الكيان الصهيوني للشطر الغربي لمدينة القدس، تحولت حياة الطفل محمود من طالب إلى مقاوم، فأصبح ينقل الذخيرة للثوار عبر حواجز الجيش البريطاني. ثم ألحقه المجاهد أمين الحسيني بفرقة الدفاع عن مدينة القدس رغم حداثة سنه، فكان يلحق أفراد العصابات الصهيونية، ويقوم بتفكيك الألغام التي يزرعها هؤلاء، ثم ينقلها للثوار للاستفادة منها.
بعد عدة شهور من احتلال الشطر الغربي من القدس، حاول محمود حجازي خطف بندقية من داخل آلية حربية بريطانية، فضربه الجنود ضرباً مبرحاً. ثم التحق بالدورات العسكرية في عام 1950، وكان عمره حينها أربعة عشر عاماً. وأصبح رقيباً في الجيش الأردني حينها.
خلال العدوان الثلاثي على مصر، دفعته وطنيته لمساندة الجيش المصري، فأطلق الرصاص من سلاح ناري على القوات الصهيونية التي كانت تعسكر على مشارف مدينة القدس.
ثم ترك محمود حجازي الجيش الأردني عام 1957. وفي عام 1963 انتسب إلى حركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح ـ من بداية تأسيسها، أي قبل الأول من كانون الثاني/يناير عام 1965 الذي أُعلن لاحقاً يزماً لانطلاق الثورة الفلسطينية المسلحة المعاصرة.
منذ ذاك التاريخ بدأت حكاية الشهيد المقدام محمود حجازي مع العمل الوطني، ولم تنته إلا برحيل اللواء المتقاعد عن هذ الحياة يوم الاثنين 22 مارس/آذار 2021.
حكاية الأسر
في السابع عشر من شهر يناير/كانون الثاني عام 1965، كان يصادف شهر رمضان. أفطر محمود حجازي، وتوجه مع بعض رفاقه نحو هدفهم، لتفجير وتدمير جسراً كانت تستخدمه الآليات الحربية الصهيونية، بين منطقتي بيت جبرين ومحافظة الخليل. بعد العملية حاصرتهم القوات الإسرائيلية، ولا حقتهم بالطائرات المروحية، والكلاب البوليسية. تم إلقاء القبض على حجازي. قام الجنود بتقييد يديه وقدميه، وألقوا به في سيارة جيب عسكرية، وبدأوا بضربه بأعقاب البنادق، لتبدأ رحلة العذاب.
تم وضع حجازي في الزنزانة رقم 1389 في سجن الرملة المركزي لمدة تقارب خمس سنوات، لا يوجد فيها سوى ملعقة وصحن وكأس من البلاستيك، ممتلئة بالحشرات. يقول حجازي عن تلك المرحلة “لقد أكل البق من جسمي كثيراً. وعشت ظروفاً لا يعلم بها إلا الله”.
وجّه النائب العام الصهيوني العسكري تهمة قتل مواطنين لحجازي، وحكمت عليه المحكمة العسكرية بالإعدام. صرخ في وجه القاضي الصهيوني ساخراً “لا يحق لكم أيها الغرباء أن تحاكموني في وطني”. طالب حجازي أن يتم اعتباره أسير حرب، ورفض استئناف الحكم.
حضر المحامي الشهير جاك فيرجيس للدفاع عن حجازي، وقام بإلقاء منشورات تفضح ديمقراطية إسرائيل المزيفة على أرض مطار بن غوريون. أثناء المحاكمة قال لهيئة المحكمة “مكانكم في قفص الاتهام” فمنعته السلطات الصهيونية من إتمام دفاعه عن حجازي، لكنه تمكن من إلغاء حق الإعدام.
في 1 يناير/ كانون الثاني 1970 قام الثوار الفلسطينيين بخطف الجندي الإسرائيلي صموئيل روزن فايزر أثناء فترة خدمته كحارس في إحدى الثكنات العسكرية الصهيونية المطلة على الحدود اللبنانية الفلسطينية.
وبتاريخ الثامن والعشرين من فبراير/شباط عام 1971 تمت أول صفقة للتبادل، بين الفلسطينيين وإسرائيل، بواسطة الصليب الأحمر الدولي، عند منطقة رأس الناقورة، كان في مقدمة المفرج عنهم، محمود بكر حجازي.
بعد الإفراج عنه عاش أبو بكر حجازي في مدينة بيروت، والتحق بمؤسسة صامد. تزوج امرأة فلسطينية وأنجب منها ثلاثة أولاد وثلاث بنات، وبقي في لبنان اثنتي عشرة سنة.
شارك الراحل بمعارك الدفاع عن وجود شعبنا في المخيمات الفلسطينية وشارك في التصدي للاجتياح الصهيوني. ثم انتقل إلى اليمن في عام 1982 ضمن قوات الثورة. ثم عاد إلى الوطن عام 1994 مع أول دفعة للأمن الوطني. أقام في مدينة غزة إلى حين تقاعده عام 2005، ثم انتقل للإقامة في مدينة رام الله.
ترجل الفارس المغوار
في يوم الاثنين الموافق 22/3/2021 ترجل ابن فلسطين المناضل الوطني الكبير والأسير الأول محمود بكر حجازي ـ أبوبكر. ودع الشعب الفلسطيني فارس مغوار من فرسان قوات الثورة الفلسطينية. مناضل من الزمن الثوري، ربط القول بالفعل في زمن النضال والفداء والتضحية، وكان المجاهد أبو بكر عنواناً للعطاء والرجولة، في كافة المراحل.
كان يؤمن بحتمية انتصار الثورة، مهما تكالبت عليها المؤامرات، فآمن بالكفاح المسلح فكراً ونهجاً وممارسة.
فاضت روح الفدائي الأسير الأول إلى بارئها عن عمر يناهز 85 عاماً، بعد رحلة طويلة وشاقة من النضال والتضحيات منذ الرصاصة الأولى للثورة الفلسطينية المعاصرة.
أبو بكر وداعاً
انتخب أبو بكر عضوا في المجلس الثوري للحركة خلال انعقاد المؤتمر السادس عام 2009 في مدينة بيت لحم. ثم أصبح عضوا في المجلس الاستشاري للحركة حلال المؤتمر السابع للحركة المنعقد عام 2016 وبقي كذلك حتى وفاته.
منحه الرئيس الفلسطيني محمود عباس وسام نجمة الشرف العسكري.
محمود حجازي، كان قامة وطنية شامخة من قامات من مسيرة النضال الوطني الفلسطيني. أمضى حياته مناضلاً صلباً متمسكاً بالثوابت الوطنية، وقابضاً على جمر المبادئ التي تشربها وهو صغيراً في مسقط رأسه القدس الشريف، حين اختار طواعية العمل الوطني والكفاح المسلح طريقاً لتحرير الوطن.
ودعت فلسطين المناضل الكبير أبو بكر حجازي، وشيعته بجنازة عسكرية من مقر الرئاسة الفلسطينية في مدينة رام الله، ليوارى الثرى بمقبرة البيرة الجديدة.
ونحن نودع أول أسير للثوة الفلسطينية إلى مأواه الأخير، لا بد من الوعد أن نظل أوفياء لحلم الشهيد أبو بكر في التحرر وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، الحلم الذي رافقه طوال مسيرته النضالية التي استمرت أكثر من نصف قرن.
أبو بكر وداعاً. اليوم القدس تبكيك، وتبكيك الحواري العتيقة، والأسوار، وأشجار النارنج. تودعك القدس بقلب حزين، وصمود اسطوري بوجه التهويد.
وداعاً الفدائي الأول، الأسير الأول، المحكوم الأول بالإعدام، والمحرر الأول. وداعاً أبو بكر حجازي. فلسطين اليوم بكافة أطيافها تنعيك وحزينة على فراقك، وتسأل المولى عز وجل أن يتغمدك بواسع رحمته، ويُسكنك فسيح جناته، ويُلهم أهلك وذويك ومحبيك ورفاق السلاح الصبر والاحتساب.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14893