محمد خياري
باحث في العلوم الإجتماعية
إن الحديث عن الطريقة القادرية البودشيشية اليوم، وهو حديث يُستقى من معين الواقع المتأزم الذي تعيشه، ليس مجرد سرد لأحداث عابرة أو خلافات تنظيمية. إنه، بحق، “تمرين صوفي بامتياز” . فهذه السفينة الروحية العريقة، التي أبحرت لعقود في محيط الذكر والتربية، تجد نفسها اليوم في قلب إعصار يجسد جوهر التجربة الصوفية في أعمق تجلياتها: اختباراً للنفوس، تمحيصاً للقلوب، وصراعاً بين ثقل الأرض وطموح السماء.
إن ما يحدث داخل حرمها المبارك ليس شذوذاً عن مسار الطرق، بل هو صميم مسارها، محكٌّ يُظهر حقيقة المعدن، وفرنٌ تُحرق فيه الشوائب لتبقى الفضة الخالصة لأهل الهمم العالية.
الفتنة: محك النفوس وصراع الظلال في رياض السلوك
إن ادعاء أن النزاعات والصراعات غريبة عن حياة الطرق الصوفية هو جهل بطبائعها وسننها. لطالما كانت الساحة الصوفية مرآةً للإنسان بكل ما يحمله من نور وظلمة، سمو وأنانية. تاريخ التصوف الإسلامي حافل بالانشقاقات والخلافات، من محنة الحلاج إلى صراعات الطرق الكبرى في العصور اللاحقة. فـ”الطريق إلى الله مسالك شتى”، واختلاف التوجهات، وتنازع التأويلات، وطموح المشيخة، وحتى تدخلات “أصحاب الحل والعقد”من السلطان لتحقيق توازنات أو كسب موالاة – كلها وقائع متكررة، كمواسم الأمطار في تربتها. والانشقاق، سواء كان برضى القطب أو على غير رضاه، ليس سقوطاً، بل قد يكون ميلاداً جديداً لطريق تستجيب لشهقات روادها، كما انبثقت البودشيشية نفسها من رحم القادرية. فالخلاف، في عمقه الصوفي، ليس دماراً، بل هو حراثةٌ للأرض استعداداً لبذر جديد.
زمن اللغط: هل تسعف الترسانة الروحية؟
ها هو زمن الفتنة يدق أبواب الزاوية، وكثرة اللغط تُصم الآذان. السؤال الجوهري: هل تمتلك الثقافة الصوفية المتراكمة، ذلك الترسانة الروحية الهائلةمن الحِكَمِ والأذكار والأحوال، ما يسعف المريدين والشيخ والمقربين في عبور هذا الخضم إلى بر الأمان؟ الجواب يكمن في مدى صدق التمسك بهذه الترسانة وتطبيقها:
1. توجيه الهمة لله وحده: إن أولى قواعد العبور هي تصحيح القبلة. فإذا انشغلت الهمة بالصراع الدنيوي، أو بالحفاظ على المكاسب، أو بالانتصار للذات أو للجماعة، ضل الطريق. التذكير الدائم بأن “الهمة همة”، وأن وجهة القلب يجب أن تبقى نحو المطلوب الحق، هو حبل النجاة. ففي خضم العاصفة، على الربان أن يثبت نظره على النجم القطبي، لا على الأمواج الهائجة.
2. تنقية النفوس من الغل والحسد: هذا هو الجهاد الأكبر. الفتنة تذكي نار الحقد وتُغري بالتشفي. هنا يبرز دور الذكر المتواصل كـمطهر للقلب. “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” – ففي طمأنينة القلب سكينةٌ تطفئ نار الغِلّ. والتربية على الزهد الحقيقي، ليس فقط في المال والجاه، بل وفي الرأي والانتصار له، هو الدرع الواقي. الزهد في التعلق بالمناصب داخل الطريقة، الزهد في الظهور، الزهد في الاستئثار برأي الشيخ – هذه هي الجمرات التي يجب أن تُطْفَأَ على صخر الإخلاص.
3. الخمول: الاختيار الصعب في زمن الضجيج:قد يكون اللجوء إلى مرحلة “الخمول” هو الحل الأمثل في بعض مراحل العاصفة. ليس الخمول كسلاً أو هروباً، بل هو انسحابٌ تكتيكي روحي، جمعٌ للشمل الداخلي، وتفرغٌ للذكر والمراقبة، وانتظارٌ لانجلاء الغمة. هو كالسكون الذي يسبق الانطلاق، أو كالبذرة التي تختفي في الأرض لتنمو. في زمن اللغط، قد يكون الصمت الذكي، المليء بالدعاء والتفكر، هو السلاح الأقوى لاستعادة التوازن وقطع دابر الفتنة. “ربّ سكوتٍ أبلغ من كلام”.
الأزمة المالية: امتحان الإيمان وابتكار التدبير
لقد كشف بيان مجلس الطريقة قبيل وفاة الشيخ سيدي جمال عن جروح نازفة في جسد الطريقة: أزمة مالية خانقة، وديون متراكمة، والتزامات مالية ولوجستية جسيمة. هذا الامتحان المالي ليس بعيداً عن “التمرين الصوفي”، بل هو وجه آخر له، اختبارٌ للثقة في الله وللحكمة في تدبير أمر الدنيا لخدمة الآخرة. مواجهة هذا التحدي تتطلب:
* التقشف وترشيد النفقات بصرامة: ليس كرهاً في النعمة، بل حكمةً في الاستخلاف. مراجعة كل المصروفات، كبيرة وصغيرة، وإلغاء ما هو كمالي أو غير ضروري، وتوجيه الموارد للضرورات الحقيقية. هذا التقشف يجب أن يبدأ من القمة، ليكون قدوة ونوراً يهدي المريدين.
* إبداع طرق جديدة للتمويل: الاعتماد على التبرعات التقليدية قد لا يكفي. لا بد من ابتكار مشاريع تنموية مستدامة تخدم المجتمع وتدر دخلاً (مزارع نموذجية، مشاغل حرفية، منتجات صحية أو غذائية مرتبطة بالهوية الروحية). تفعيل نظام “الحصص” أو الاشتراكات الرمزية المنتظمة بشكل أكثر تنظيماً وشفافية. استثمار الكفاءات المالية والإدارية الموجودة داخل جموع المريدين.
* تدبير حديث وشفافية: إدخال أساليب الإدارة الحديثة في المحاسبة والمراقبة والتخطيط المالي أمر حتمي. إنشاء لجان مالية متخصصة ونزيهة، وتقارير دورية توضح الوضع المالي للمريدين، لتعزيز الثقة وحفز التبرع الواعي. “إن خير من استأجرت القوي الأمين”.
* تفعيل قيم التضامن والخدمة: تكريس قيم التضامن ليس شعاراً بل منهج عمل.
حث المريدين على “الأعمال التطوعية” المكثفة داخل المقرات وخارجها لخدمة المجتمع (نظافة، ترميم، أعمال زراعية، دعم تعليمي، رعاية صحية). هذا يخفف الأعباء المالية المباشرة، ويحافظ على تماسك الجماعة، ويصونها من الفراغ الذي قد يتحول إلى تفرغ للنقد والتذمر والانشغال بـ”القيادة” وهمومها الدنيوية. إن المريدين “كالجند” حقاً، شغلهم شاغل بالخدمة والعمل الصالح هو تحصين لهم وللطريقة.
شهادة الكفاءة الأخلاقية: بين عهدين وحكمة السلطان
إن “شهادة الكفاءة الأخلاقية”** (بتعبير ماكس فيبر) التي تمنحها الطريقة، هي لبّ الأزمة المعاصرة. لقد كانت هذه الشهادة في عهد الشيخ سيدي حمزة جوهرة ثمينة، تُمنح بانتقاء شديد لمن تجلت فيهم أخلاق السالكين حقاً، فرفعت من قيمة الطريقة وجذبت القلوب النقية. الخطر اليوم يكمن في التساهل في منح هذه الشهادة، أو في انطباع عام بأنها أصبحت تُمنح “لأي كان” بمعايير شكلية أو عددية أو حتى مالية. هذا يُفقد الطريقة مصداقيتها الروحية، جوهر وجودها. لا بد من العودة إلى صرامة المعايير الأخلاقية والروحية في تقييم المريدين وترقيتهم، بحيث تبقى هذه “الشهادة” علامة جودة حقيقية، لا مجرد بطاقة عضوية.
وحدة القلوب و إشارات السلطان: فن الميزان الدقيق
وفي هذا السياق المتأزم، يبرز دور الإرشاد العلوي، إشارات “أمير المؤمنين”. العلاقة مع السلطة في المغرب، حيث الطرق جزء من النسيج الديني والاجتماعي والسياسي، كالقانون لا يحتمل التجريب. حسن التعامل مع هذه الإشارات، وفهم مراميها العميقة، والالتقاء معها بذكاء وإخلاص ووضوح، هو من فنون القيادة الصوفية الرفيعة. أي خطأ في هذا “الالتقاء” – سواء كان تملقاً يذل الكرامة، أو تعنتاً يثير الشك، أو غموضاً يوهم بالمخالفة – ثمنه غالٍ جداً. إنه الباب الذي قد تدخل منه “السيئات” بمعناها الواسع: سوء الفهم، فقدان الحماية الضمنية، تعقيد الأزمات، دخول عناصر تخريبية أو انتهازية تحت ستار التأييد أو المعارضة. على قادة الطريقة اليوم أن يتذكروا دائماً أنهم في حضرة أدبين: أدب مع الله وأدب مع سلطان أقامه الله، وأن الجمع بينهما بحكمة هو من كمال الإيمان وحسن التدبير. “أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم”.
الخاتمة: سفينة الذكر في لجة الدنيا
فها هي السفينة البودشيشية، بشراعها المرفوع “لا إله إلا الله”، تجدف اليوم في بحر هائج. الفتنة الداخلية تمرينٌ لتنقية النفوس، والأزمة المالية محكٌ للإخلاص والتدبير، وومضات الشهرة فخاخٌ للأنانية، وإشارات السلطان ميزانٌ دقيق. طريق الخلاص ليس في إنكار العاصفة، بل في رسوخ اليقين، وتجرد الهمة لله، وتطهير القلوب من درن الحسد والهوى، والزهد في زخرف الدنيا وحظوظ النفس، وحسن التدبير بشفافية وإبداع، وحفظ الأدب في كل الاتجاهات، وصيانة الشهادة الأخلاقية التي هي رأس مال الطريقة.
إن نجاح هذا “التمرين الصوفي” العسير يتوقف على قدرة الجماعة – من شيخها إلى أبعد مريديها – على استحضار تراثهم الروحي الحي ليس كشعارات، بل كمنهج حياة عملي في زمن المحنة. هل يستطيعون تحويل ألم الأزمة إلى طاقة للتجدد؟ هل يفلحون في استبدال لغة التذمر بلغة الذكر، وهموم الدنيا بهم الآخرة؟ الإجابة تكمن في صدق السير على الدرب، وفي التمسك بحبل الله المتين، وفي الفهم العميق أن هذه العواصف ليست نهاية الرحلة، بل هي محطات تطهير ضرورية في رحلة السالكين إلى المولى الكريم. “فاصبر إن وعد الله حق”.