بقلم: زهير العلالي
يستدعي الحديث عن السيميائيات عامة، و”سيميائيات مدرسة باريس” خاصة، اكتساب عُدة معرفية رصينة، والتمكن من المقاربات والاتجاهات المرتبطة بالنظرية السيميائية، على اعتبار ذلك خطوة عملية مناسبة لمواكبة التحولات الإبستمولوجية التي ساهمت في تشييد هذا الصرح النظري بالحفاظ على المكاسب المحققة، والمراهنة على المشاريع الجديدة.
وهذا ما حفز د. محمد الداهي على إجراء حوار عميق مع أحد رواد مدرسة باريس السيميائية والمتعاونين مع ألجيرداس جوليان كريماص وأتباعه ألا وهو جاك فونتاني Jacques Fontanille، في حرص شديد على الإلمام بالمسار السيميائي من خلال محطات ومعالم بارزة. صدر الحوار في شكل كتاب باللغتين العربية والفرنسية بعنوان “مكاسب السيميائيات ومشاريعها Les acquis et les projets de la sémiotique”، ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، عام 2017.
سعى د. محمد الداهي- من خلال الكتاب- تقديم المنجز السيميائي وبيان المشاريع التي فتحتها السيميائيات لإبراز راهنيتها وملاءمتها. ومن بين الأهداف التي تقصَّدها د. محمد الداهي من الكتاب هو تكريم مُلهم هذه المدرسة ورائدها كريماص بعد مرور مائة سنة عن ولادته عام 2017 بتولا في روسيا.
تعامل د. الداهي –مثلما هو مبين في تصدير الكتاب- بأسلوب ذكي مع مراحل الحوار سعيا إلى حفْز جاك فونتاني على تقديم أجوبة شاملة عن المسار الذي قطعته المدرسة منذ بدايتها إلى اليوم، وتأكيد أن أعضاءها ما فتئوا يستفيدون من توجيهات كريماص وحدوسه.
وهذا ما يؤكد أنها لازالت تؤدي مهمتها غير متأثرة بوفاته، على عكس ما توقعه خصومها بأنها ستموت بموته. وما يدل على أنها تتمتع بالحيوية والحركية والنشاط هو – كما هو مضمن في الحوار- تشعبها إلى اتجاهات مختلفة، وانتشارها في العالم، وإقبال الدارسين عليها من مختلف التخصصات لأنها تساعدهم على فهم محتويات الأنساق الدلالية وتشكلاتها في حضن المجتمع على كثرتها وتنوعها.
كما أن طلبة كريماص – الذين سيحملون مشعله- استثمروا مقترحاته وإرشاداته في شكل مشاريع بناءة، ومع ذلك ظلت قضايا معلقة لم تجد من يهتم بها ويطورها كقضية الإشارة. “استطاع كريماص أن يكون -بالفعل- فريقا دوليا حوله. ” فسيميائيات الأشياء” أو “الوجود” أو “التجربة” أو ” أشكال الحياة” أو ” الممارسة، ما هي إلا مسالك من بين أخرى، اقترحها كريماص أو فتحها صراحة أو استعادت حيويتها بعد عشرين أو ثلاثين سنة.
وبالمقابل، لم يهتد الأتباع إلى مسالك أخرى على نحو “الإشارة” التي كرس لها كريماص عددا خاصا من مجلة “اللغات” (عدد حول “الممارسات والإشارات، 10 يونيو1968)، وتأسف لعدم اهتمام أي أحد من تلامذته بها” (ص.9).
ومن بين القضايا التي لفتت انتباهي أنه لم يكن بالإمكان أن تتأسس مدرسة باريس السيميائية لو أن أ. ج. كريماص آثر تشييد العمل الشخصي على العمل الجماعي. فهو كان يؤمن بالعمل الجماعي لتضافر الجهود ولتنسيق المصالح المشتركة من أجل تحقيق الأهداف المرجوة. وفي هذا الصدد يقول جاك فونتاني :”تصور برنامجا يزخر بعدد كبير من الأبحاث، لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل الجماعي، وعلى المدى البعيد. وأنتج أعمالا شخصية ذات أهمية بالغة.
لكن إرثه الأساس يكمن في برنامج البحث الجماعي” (ص.7)، ولهذا الغرض تكون فريق العمل من شباب متحمس للأداء السيميائي، ومراهن على مأْسَستها في الجامعات الفرنسية والعالمية على حد سواء، وتوسيع إشعاعها وشعبيتها بين الباحثين الشباب في ربوع المعمورة. “ارتأى كريماص أن يكوِّن فريقا من الباحثين الشباب وجيلا آخر من المثقفين، ويقترح مشروعا يتجاوز مشروع حياته الشخصية”. (ص.9).
ورغم مكانة كريماص العلمية وصيته العالمي لم يحظ بكرسي في “كوليج دو فرانس” لتدخل اعتبارات أخرى غالبا ما تكون متحيزة وذاتية، أو مفعمة بالتكتلات وشبكة العلاقات، التي كان كريماص يعمل في منأى عنها. ويكفيه فخرا أنه خلف مشروع بحث لازال لحد الآن مستمرا ومتوهجا، وفتح آفاقا جديدة للبحث في مجال السيميائيات.
اضطر السيميائيون الرجوع إلى مؤلف فرديناند دي سوسور “محاضرات في اللسانيات العامة” للاستفادة من مُصطلحيتَّها في تطوير الصرح السيميائي والرقي به إلى المستوى المنشود. وصدق -في هذا الصدد- حدس رولان بارث بقلب المعادلة السوسورية: ليست اللسانيات جزءا من علم عام وشامل هو السيميولوجيا، بل إن السيميولوجيا هي جزء من اللسانيات. فهي بذلك خجولة لأنها تابعة لعلم واختصاص آخر ألا وهو اللسانيات، لكنها جريئة بحكم أنها استطاعت في ظرف وجيز أن تبلور اللغة السيميائية الواصفة (Métasémiotique).
وأحسن من مهد الطريق في هذا المجال هو رولان بارث من خلال كتابه القيم “مبادئ في علم الأدلة (السيميولوجيا)” ( ترجمه د. محمد البكري إلى العربية ) للتدليل على ملاءمة المصطلحية اللسانية في استيعاب نظاميْ الطعام واللباس بصفتهما نظامين غير لغوين.
وبعد أن استنفدت المفاهيم السوسورية معناها اضطر السيميائيون الاعتماد على مصادر لويس يالمسلف الذي لم يكن- كما كان يردد محمد الداهي في محاضراته- شارحا لمؤلف فرديناند دو سوسور بل مطورا له ومبدعا في نحت مفاهيم جديدة وتفريعها وهو ما ما انعكس إيجابا على المشروع السيميائي برمته بالتطرق إلى جوانب سبق لكريماص أن عالجها أو تركها جانبا إلى أن يختمر التفكير والنقاش لمعالجتها بالصبغة والصرامة العلميتين. “عندما يبحثون في جوانب لم يتطرق لها كريماص أو طرحها جانبا عن سبق إصرار”(ص.10)
ومن بين الأفكار الجديدة التي لابد للقارئ أن يتلمسها في هذا الحوار، أن فونتاني عندما عرج على ذكر الخلفيات الإبستمولوجية الكامنة وراء تشييد صرح سيميائيات الأهواء Sémiotique des passions بالاشتراك مع كريماص، كشف نقطة مهمةً توضح أن الانتقال من سيميائيات العمل إلى سيميائيات الأهواء لا يعتبر انفصالا عن النظرية السيميائية ذات النزعة السردية، ولا يقف حاجزا أمام مسار تطورها، بل إن سيميائيات الأهواء هي امتداد لسيميائيات العمل، إذ “تبدو (المنزلة السيميائية الجديدة) كما لو كانت تكملة للمنزلة الأصلية كما سبق تحديدها في السيميائيات السردية: ينبغي إشراك الخاصيات الجسدية في الدور العاملي والموقع السردي.
يتعلق الأمر هنا -طبعا- بجسد سيميائي، أي أنه مبني على شاكلة شبكة من العلاقات الداخلية والخاصيات، التي تسعفه على المشاركة في بناء ما يصطلح عليه بـ”نحو الإحساس أو قواعده”. علاوة على ذلك تفرعت عن السيميائيات العامة تخصصات تعنى بمجالات مختلفة؛ ومن ضمنها: سيميائيات الأهواء، والسيميائيات الثقافية، والسيميائيات البصرية، والسيميائيات التوترية، والسميائيات الذاتية، وعلم النفس السيميائي، وعلم الاجتماع السيميائي… الخ.
أسعف التسلسل المعرفي في الحوار، على تبسيط إشكال آخر في النظرية السيميائية، ويتعلق الأمر بمسألة التواصل والدلالة. لاحظنا قبل قليل أن هناك توافقا وتكاملا بين سيميائيات العمل وسيميائيات الأهواء، فالأمر على النقيض من ذلك فيما يتعلق بسيميائيات التواصل وسيميائيات الدلالة، على اعتبار أن هناك تعارضا بين هذين الاتجاهين، يعود سببه إلى اعتماد الفريق الأول ثلاثة عناصر في عملية التدلال، وهي: الدال والمدلول والمقصد أو الوظيفة، في حين يختزل الفريق الثاني هاته العناصر في اثنين فقط هما الدال والمدلول.
ولم تستطع الأعمال السيميائية- في العالم العربي- سواء المؤلفة أو المترجمة –حسب اطلاعنا المتواضع- إبراز الفروقات التي ترجح صحة هذا الاتجاه على ذاك ليكون موضوعا للسيميائيات بالشكل الكافي، حيث اتفقت أغلبها على أن الفرق يكمن في “أن اللغة لا تستنفد كل إمكانيات التواصل، فنحن نتواصل- أ توفر المقصد أم لم يتوفر- بكل الأشياء الطبيعية والثقافية سواء أكانت اعتباطية أم غير اعتباطية”، وهو رأي قال به رولان بارث، ويدعمه فونتاني مؤكدا أن السيميائيات لم تتجاهل التواصل، ولكنها عمدت إلى فصله تماما عن الدلالة، باعتبارها إشكالا عاما جدا، لا يمكن أن يُطرح بدقة في حال انشغالنا بقضايا تمت إلى التواصل بصلة. يمنح فونتاني للتواصل تصورين : يتجسد أولهما بصفته “تعبيرا عموميا عن المحتويات والتمثيلات والبنيات الدلالية”، في حين يتمثل الثاني بكونه “تفاعلا اجتماعيا، وترويجا للقيم ودعاماتها، ونتاجات مصطنعة تتضمن دلالات معينة”. (ص.25)
ولتوضيح التصور الثاني أكثر، بين فونتاني التواصل من منظور علم الإناسة (الأنتروبولوجيا) كما شخصه عند كلود ليفي ستروس ومن منظور اللسانيات بحسب رومان ياكبسون، فيقول “في هذه الحالة، ينبغي أن نتساءل –حالا- عن مدى ملاءمة “نموذج التبادل” في عالم التواصل اليوم: يميز علم الإناسة المعاصر بين عدد من الترسيمات العملية والملائمة والاستكشافية، مثل نموذج التبادل (على نحو: النهب والعطاء والإنتاج والنقل)”، في حين يرى فونتاني -في المفهوم- الذي اقترحه ياكبسون للتواصل بأنه “تواصل مستخدم كوسيلة (الشفرة/القناة) أي باعتباره تكنولوجيا للتواصل، ثم بوصفه تبادلا شحيحا ولحظيا لا يراعي الجدلية الزمنية للعطاء والديْن ورد الجميل التي تميز التبادل عند علماء الإناسة. يغفل هذا التصور بعدا أساسيا يخص التبادل والممارسات العلائقية عموما، مع العلم أنها تسهم في تغيير من يشارك فيه”.ص..25 ولم يعد التواصل اليوم مفهوما مركزيا حتى بالنسبة للمختصين فيه، بل أضحى وسيطا يتيح إمكانية ولوج مجمل العلائق التي تنظم القواسم الاجتماعية المشتركة.
كانت هذه جملة من القضايا المثارة في الكتاب الممتع الذي صدر لمحمد الداهي بمحاورة جاك فونتاني. ومن مزايا الحوار كما ورد على لسان الدكتور عبد الرحمن طنكول الذي كتب تصديرا للكتاب، أن الدكتور محمد الداهي “أتاح لنا فرصة تفقد المجال السيميائي من جديد، وأدى -بفضل حوار متعدد الأصوات- عملا حصيفا، متسخدما- عوض لغة الخشب- أداة وحيدة يؤثرها على غيرها، ألا وهي الإصغاء الذكي والمتزن. يسير د. محمد الداهي على هذا النهج منذ سنوات عديدة بجدية وتواضع مرتادا فضاءات تسعف على تبادل وجهات النظر المختلفة مع القراء”.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18957