28 أغسطس 2025 / 17:00

رأي: براءة الجابري من “فساد الفكر”

سمير لعباد

حين يختار عبد الله الحلوي أن يتحدث عن محمد عابد الجابري بلغة “الفساد”، فإنه لا يكتب نقدا للفكر بقدر ما يعلن على نحو لافت رغبة في تصفية حساب رمزي مع مشروع لم يستطع استيعابه إلا بوضعه تحت لافتة أخلاقية – بيولوجية. كلمة “الفساد” لا تنتمي إلى معجم الفلسفة بل إلى معجم الأخلاق والطبّ. استعمالها في حق فكر الجابري لا يعني مساءلة مشروعة لحدود هذا الفكر، بل يعني الحكم عليه بالإعدام الرمزي. والحق أنّ الفكر لا يفسد. الذي يفسد هو السياقات التي تجرّه إلى خدمتها، الأوهام التي تُركب عليه، والأهواء التي تُحمّله أكثر مما يحتمل. الفلسفة ليست جسدا عضويا حتى يفسد، وليست سلطة حتى ترتشي. إنها جهدٌ إنساني لإبقاء السؤال حيّا.

الجابري لم يكن فيلسوفا بالمعنى التقني، ولم يدّع ذلك. لكنه كان واحدا من القلائل الذين فتحوا باب النقد من الداخل، وجرؤوا على مساءلة التراث العربي – الإسلامي في بنيته العميقة. أن نحاكمه اليوم بتهمة “الفساد” لأن مشروعه لم يكتمل أو لأنه انحرف نحو السياسة أو نحو قضايا الهوية، فذلك ليس نقدا بل رغبة في التخلص من إرثه كله بضربة واحدة. الجابري أخطأ، نعم. ربما بالغ في “الترتيب” على حساب “الامتداد”، وربما تحوّل مشروعه النقدي إلى ممارسة نصية منغلقة. لكنه لم يستسلم للهوية، بل حاول أن يفتحها على أفق العقلانية. هذا وحده كافٍ ليضعه في خانة المفكرين الذين حاولوا، حتى لو لم ينجحوا.

ما يفعله الحلوي هو عكس ما يتهم به الجابري. يتهمه بالانغلاق على الهوية العربية – الإسلامية، لكنه ينتهي إلى إعادة إنتاج الهوية نفسها ولكن بلباس آخر: “الهوية الأمازيغية العقلانية”. في مشروعه، تتحول ابن رشد إلى شاهد على أن العقلانية كانت جينات أمازيغية، وأنها ضاعت في الشرق الغارق في الغنوص والبيان. لكن، أليس هذا اختزالا جديدا؟ أليس في ذلك تحويل ابن رشد إلى شعار سياسي بدل أن يبقى فيلسوفا كونيا؟ ابن رشد لم يكن ناطقا باسم قبيلة ولا إثنية. كان يجرؤ على أن يجعل العقل مرجعا لا الدم ولا اللغة ولا الجغرافيا. حين نعيده اليوم إلى قفص الهوية، فإننا لا نفعل سوى إعدام العقلانية التي يدّعي الحلوي الدفاع عنها.

الجابري لم يكن فاسدا، بل كان مقاتلا في ساحة محفوفة بالألغام. لقد حاول أن يفكك العقل العربي من الداخل، أن يعرّي بنياته العرفانية والبيانية، وأن يفتح أفقا برهانيا. قد يكون فشل، لكنه فشل كمفكر. والفشل في الفلسفة ليس فضيحة، بل هو علامة على أننا جربنا أن نفكر. الحلوي، في المقابل، ينجح كإيديولوجي. ينجح في بناء خطاب هوية جديدة، في تحويل العقلانية إلى بطاقة انتماء. لكن هذا النجاح ليس فكريا. إنه نجاح سياسي متخيل، شبيه بنجاح القوميين العرب حين رفعوا شعار “الوحدة” و”الرسالة الخالدة”.

إنّ ما يسميه الحلوي “فساد الفكر” هو في الحقيقة رفض أن يقبل الفكر حدوده، رفض أن يُنظر إلى الفلسفة كمغامرة ناقصة دائما. يريدها نقية، أصيلة، منسوبة إلى هوية بعينها. لكنه بذلك يقتلها. الفلسفة لا تُورّث بالدم ولا بالجغرافيا. ليست هناك عقلانية أمازيغية كما أنه ليست هناك عقلانية عربية. هناك فقط جرأة على التفكير. الجابري مارسها على طريقته، حتى لو أخطأ، أما الحلوي فيكتفي بالوصاية عليها، كما لو أن العقل يُقاس بمدى قربه أو بعده عن خريطة عرقية.

الفساد الحقيقي ليس في مشروع الجابري. الفساد هو أن نحاكم الفكر بمعايير الأخلاق، أن نضعه في قفص الهوية، أن نختزله في نسب عرقي. الفساد هو أن نعتبر الفلسفة مجرد وثيقة في معركة إثنية، أن نجرّ ابن رشد إلى حرب القبائل بعد ثمانية قرون من موته. الجابري فكر من أجل الحرية، حتى لو بقي حبيس نصوصه. الحلوي يكتب من أجل الهوية، حتى لو ادعى الدفاع عن العقلانية. والفرق بين الاثنين هو الفرق بين فشل فلسفي مشرّف ونجاح إيديولوجي مخجل.

إنّ الفلسفة، كما يقول فتحي المسكيني، هي خيانة للهوية. الجابري خان، على طريقته، أوهام الهوية العربية حين كشف حدودها العقلية. الحلوي، في المقابل، بقي وفيّا للهوية حتى النهاية. ولذلك، مهما اختلفنا مع الجابري، فإنه يبقى في صفّ الفلاسفة الذين حاولوا أن يفكروا. أما الحلوي، فهو يكتب كناقد، لكنه ينتهي كزعيم قبيلة رمزية. وذلك هو الفساد بعينه.