1 سبتمبر 2025 / 15:27

رأي: التأرجح البراغماتي التركي في العلاقة مع إسرائيل

وليد عبد الحي

معلوم أن تركيا هي أول دولة إسلامية بدستور علماني اعترفت بإسرائيل اعترافا كاملا عام 1949، ومنذ عام 2003 أصبح طيب رجب أردوغان السياسي التركي الأكثر شعبية داخليا والأعلى مكانة دولية في الحياة السياسية التركية المعاصرة، وعرفت فترته تأرجحا في العلاقة بين بلاده واسرائيل، لا سيما ان إتكاءة السياسي على المرجعية الدينية منحه مساحة شعبية واسعة من ناحية لكنه ضيق عليه من ناحية ثانية النزعة البراغماتية التي يتبناها سياسيا.

لقد انتهج أردوغان سياسة براغماتية تجمع بين المتناقضات وبقدر من المرونة والتكيف الحذر، ويتضح ذلك في أنه لا يعادي روسيا بحدة رغم عضويته في الناتو، ويتبنى الفكر الإسلامي مع اعترافه وزياراته لإسرائيل ولهفه على الانضمام للاتحاد الأوروبي المسيحي، ويتفق مع امريكا في بعض سياساتها رغم قلقه من المساندة الإسرائيلية والأمريكية للنزعات الانفصالية الكردية عنده أو في الاقليم، كل ذلك جعله يتخذ القرار ثم ينفذه بكيفية براغماتية لا لُبس فيها.

أي استعراض للعلاقة الاسرائيلية التركية خلال وصول أردوغان للسلطة (كرئيس وزراء 2003-2014 أو كرئيس من 2014- الآن) منذ أقل من ربع قرن تقريبا، يشير إلى أن الاشكالية المركزية في دبلوماسية أردوغان مع إسرائيل هي في كيفية التوفيق بين نزعته الإسلامية ــ ذات المضمون الإخواني ــ التي استثمرها شعبيا للوصول للسلطة وبين انحيازاته السياسية بقدر لا يرضى عنها جمهوره الإسلامي الداخلي والخارجي بالقدر الكافي. وهنا تبرز ملابسات سياساته الدولية على النحو التالي:

أولا: ماضي العلاقات الاستخبارية بين تركيا وإسرائيل 

ننذ أواخر التسعينات من القرن الماضي كان التعاون الأمني والاستخباراتي بين إسرائيل وتركيا متواصلا، لكن حادث الاعتداء الإسرائيلي على السفينة التركية المتجهة لمساعدة انسانية لغزة (2010) غير الجو السياسي بين الطرفين، ودفع تركيا إلى اتخاذ إجرائيين هما تخفيض (لا قطع) العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل أولا، والاعتراض التركي على العلاقات بين إسرائيل والناتو ثانيا، لكن العلاقة أعيدت بين الطرفين التركي والاسرائيلي عام 2022 الى وضعها الدبلوماسي التام، وما أن وقع “طوفان الأقصى” ابتداء من 7 أكتوبر 2023 حتى عاد أردوغان لهجماته اللفظية على إسرائيل مستثمرا النزوع الإسلامي الشعبي من ناحية، وللرد الضمني على القوى الحزبية (بخاصة حزب الرفاه الإسلامي الجديد) التي انتقدت موقف تركيا في غزة واعتبرته غير كاف.

ثانيا: التصعيد الأوروغاني ضد إسرائيل 

عاد أردوغان للتصعيد مع إسرائيل بعد انتكاساته في الانتخابات المحلية في العام الماضي-2024- وخسارته معاقل تقليدية لحزبه، وتتضح العودة الأردوغانية في قرارات حكومته الأخيرة (قبل أيام) بقطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع إسرائيل وإغلاق الموانئ أمام السفن الإسرائيلية ومنع السفن التركية من التوجه لموانئ فلسطين المحتلة وكذلك الحال في مجال الطيران المدني، لكن هذه القرارات راجت حولها تأويلات بأنها لا تشمل النقل الذي فيه مسئولين حكوميين أو تحمل سلاحا ومواد عسكرية فقط، وهو أمر يضعف القرار إنْ صح ما تسرب من معلومات، بخاصة أن عدد الاسرائيليين الذين زاروا تركيا عام 2024 تجاوز ثلاثة أرباع المليون مقابل بضعة آلاف من الأتراك زاروا اسرائيل، وهو الأمر الذي تشتم براغماتية أردوغان دلالاته.

ثالثا: إشكاليات تواجهها براغماتية أردوغان:

أ‌- ماذا عن خط الأنابيب الناقل للنفط الأذري إلى إسرائيل عبر ميناء جيهان التركي، ومعلوم أن السند الأول لتركيا في صراعها مع أرمينيا أو تنافسها مع إيران هي تركيا، كما أن أذربيجان هي الدولة الأعمق علاقة مع إسرائيل في غرب آسيا بما فيها القفقاس، فكيف يوفق أردوغان بين علاقته القوية مع أذربيجان وعلاقة أذربيجان القوية مع إسرائيل؟ فأذربيجان توفر 30% من حاجة إسرائيل النفطية، وهو ما سيجعل من أذربيجان عامل كبح للموقف التركي، وسيعمل على استمرار دور ميناء جيهان التركي لصالح اسرائيل، ولعل الحوار الذي نظمته أذربيجان بين إسرائيل وتركيا في أبريل 2025 مؤشر على مستقبل هذا الموضوع.

ب‌- شكل مشروع “منتدى غاز شرق المتوسط” المدعوم من الولايات المتحدة مثار قلق لتركيا، فالمنتدى يجمع بين قبرص واليونان وإسرائيل فقط بينما ترى تركيا نفسها من ذوي العلاقة بغاز المتوسط وبشكل كبير، وهو ما يعني أن إسرائيل يمكن لها أن تقايض موقف أردوغان من غزة بالسعي لضم تركيا الى المنتدى.

ت‌- عندما قطع أردوغان علاقاته التجارية بإسرائيل في المرة الأولى، تبين أنه جرى تحايل على هذه الخطوة من خلال طرف ثالث، فبدلا من أن تصل البضائع التركية إلى إسرائيل مباشرة أصبحت تذهب لسوق ثالث(وبخاصة السوق اليوناني أو القبرصي أو سوق السلطة الفلسطينية) ليقوم الطرف الثالث بإعادة نقلها للسوق الإسرائيلي، وهو ما يعني أن العلاقة التجارية زادت فقط خطوة الطرف الثالث، علما أن حجم الصادرات التركية لإسرائيل العام الماضي بلغت 2.86 مليار دولار، بينما الواردات التركية من إسرائيل تصل إلى 596.1 مليون دولار(طبقا لإحصاءات الأمم المتحدة).

ث‌- من الصعب اعتبار الموقف التركي من إسرائيل نتيجة الموقف في غزة فقط، فهناك مواضع احتكاك بين الطرفين في مواضع عدة:

1- النفوذ في سوريا لإعادة تشكيل الخريطة الداخلية السورية بما يتناسب مع تركيا او اسرائيل، فتركيا تريد منع الأكراد أو الدروز من تقسيم سوريا، نظرا لان نجاح تقسيم سوريا ستمتد آثاره الى تركيا ذاتها رغم التصالح مع حزب العمال الكردستاني التركي مؤخرا، يقابل ذلك خطة جدعون ساعر وزير الخارجية الاسرائيلي الحالي التي عرضتها أكثر من مرة منذ 2010 لتقسيم سوريا، والتي تستهدف تقسيم سوريا لأربعة دول وجعل الجزء الجنوبي دولة عازلة بينها وبين بقية سوريا. ويلاحظ هنا أن حكومة هيئة تحرير الشام بعد تولي السلطة في سوريا تحاول التوفيق بين مصالح أردوغان ومصالح نيتنياهو، وكأنهم ينقلون نموذج البراغماتية الأردوغانية، وتؤيدهم الولايات المتحدة- منبع البراغماتية- في هذا المسعى.

2- التنافس التركي الاسرائيلي على الطريق التجاري بين آسيا وأوروبا: طرحت الهند مشروع ما يسمى “الممر الاقتصادي الأوروبي الهندي (والذي يعبر المحيط الهندى والخليج العربي باتجاه إسرائيل ثم أوروبا عبر المتوسط) بينما تشجع تركيا مشروع “طريق التنمية” الذي يمر من الأسواق الآسيوية باتجاه أوروبا عبر تركيا، وقد زادت أهمية هذا المشروع بعد تعرض الطريق التجاري عبر البحر الأحمر وقناة السويس لتراجع حاد بسبب موقف أنصار الله، ويبدو أن تركيا تحاول ربط سوريا والعراق بها لضمان السلام على طريقها المقترح، وهو ما تعتبره إسرائيل ضارا بها. لكن الاشكال في ذلك هو أن إيران قد تكون احتمالات استفادتها من المشروع التركي أكبر بخاصة بعد القلق الإيراني من تداعيات ممر زنغزور الواصل أذربيجان بإقليم نخجوان الأذري، وهو مشروع تسانده الولايات المتحدة لأن فيه ضرر لإيران التي أعلنت رفضا قاطعا لهذا المشروع الذي لا يتجاوز طوله 43 كيلومترا عبر الأراضي الارمينية، فهو يؤثر على طرق إيران التجارية ويعزز التطويق الغربي لها.

3- تشعر الدبلوماسية التركية ببعض الاضطراب في علاقاتها مع إيران، فهناك مجموعة من الجوانب تجمع البلدين سواء اقتصادية (مثل بعض الممرات التي اشرت لها) والموقف الناقد لإسرائيل ولو بموقف متقدم من إيران على تركيا في هذا الشأن لكن تنافسا صامتا يظهر بين الحين والآخر في العلاقات مع القوى الدولية أو في مستوى العداء لإسرائيل أو أمريكا او في موضوع اذربيجان بل وحتى في محاولات توظيف الامتدادات الثقافة الرعية لكل منهما في آسيا الوسطى والقفقاس، ولعل هذا يشكل هامشا ضيقا لأردوغان لتوظيف براغماتيته فيه.

لا شك أن أي تراجع نسبي او كبير في العلاقات التركية الاسرائيلية يشكل مكسبا فلسطينيا، لكن الضرورة تقتضي إدراك أن أردوغان يعمل مخلصا لمصلحة بلاده، ولا يتورع عن التفسير الديني لأي قرار يتخذه مع إسرائيل طبقا لمصالح تركيا وليس العكس، وهو الدرس الذي يجب أن تفهمه الحركة الدينية العربية المعاصرة في علاقاتها مع أردوغان وحزبه “العدالة والتنمية”، فأردوغان له حضور عسكري في العالم العربي في قطر وليبيا وسوريا والعراق وفي القرن الافريقي، لكنه يضمن أن لا تثير الحركة الدينية العربية هذا الحضور مقابل دعمها ماليا، بينما لا يرى ضيرا في تشجيع إثارتها للحضور الإيراني.

الخلاصة:

تتباين إسرائيل مع تركيا بشكل واضح في الموقف من فلسطين وسوريا، لكنهما تتوافقان في العلاقة مع اذربيجان، وبينهما بعض التوافق وبعض التباين تجاه مشاريع الغاز في المتوسط، وتجاه الممرات التجارية الآسيوية الأوروبية وتجاه الموقف من بعض الحركات الإسلامية، ويبدو المجتمع التركي أكثر عداء لإسرائيل من عداء المجتمع الاسرائيلي لتركيا (طبقا لاستطلاعات الراي). ولعل كل ذلك يفسر ضرورات البراغماتية الأردوغانية.