“دين بريس” تنشر مراجعات الزعيم السابق لـ”حركة المجاهدين بالمغرب” (الجزء الثاني)

سماح عبدالرزاق
2020-06-17T08:58:21+01:00
featuredآراء ومواقف
سماح عبدالرزاق17 ديسمبر 2019Last Update : الأربعاء 17 يونيو 2020 - 8:58 صباحًا
“دين بريس” تنشر مراجعات الزعيم السابق لـ”حركة المجاهدين بالمغرب” (الجزء الثاني)

تنشر “دين بريس” الجزء الثاني من المراجاعات الفكرية لـ “عبد الرزاق سماح”، كاتب في الفكر والجماعات الإسلامية. يبلغ “سماح عبد الرزاق” من العمر 60 عاما. حاصل على دبلوم في التكنولوجيا الميكانيكية. سبق أن حكم عليه غيابيا عام 1984 بالمؤبد بداعي انتمائه لـ”حركة المجاهدين بالمغرب”. فرّ على إثر ذلك إلى فرنسا، ليقضي فيها 10 سنوات، قبل أن يعود إلى المغرب عام 1994. اعتقلته السلطات المغربية في 05 ماي 2012، بوصفه “أميرا” لحركة المجاهدين بالمغرب. وحكم عليه بـ 20 سنة سجنا نافذا، ليتم اطلاق سراحه بعفوي ملكي بعد ذلك. تنشر “دين بريس” حلقات من مراجعاته الفكرية، أسبابها، ماهيتها، أبعادها، وما يتعلق منها بالفكر والمفاهيم:
ــــــــ
الحمد لله الذي لم يترك الإنسان هملا بعد خلقه، بل تفضل عليه بإرسال الرسل عليهم السلام لتذكيره بماهية الأمانة التي تحملها بإرادته الحرة، ليقدر المسؤولية الملقاة على عاتقه فيستغل نعمة العقل الذي هو مناط التكليف أحسن استعمال ليحصل على السعادة في الدارين.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي أرسله الله رحمة للعالمين، والذي افتُتحَت دعوته بالتأكيد على العلم ودراسة الكتابين (المنظور والمقروء) لتتم التزكية والعمران والصلاح والإصلاح على هدى من الله، لتنعم البشرية بالسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
إن المراجعة والتقييم والاستدراك بقدر ما تعبر عن حكمة وحيوية وسعة أفق وفهم للمصلحة وإعمالا لفقه الموازنات والمآلات بما يحفظ أمن الوطن والأمة وقضاياها العادلة وسط التحديات العاصفة والأطماع المتزايدة، فإنها تعبر أيضا عن فهم دقيق لنواميس الكون، وانسجام واضح مع قوانين الوجود والحياة التي لا تحابي أو تستثني أحدا مهما كان.
وقد أشار كثير من العلماء والمفكرين الإسلاميين بأهمية المراجعات الفكرية، باعتبار أن كل ما أنتجه الفكر الإسلامي من المعارف والعلوم لا يعدو أن يكون من باب الاجتهادات البشرية والآراء الإنسانية القابلة للنقد والتصويب، والمحتملة – أيضا – للصواب والخطأ.
فماذا نعني بالمراجعات الفكرية؟
وللإجابة عن هذا السؤال يجب تعريف الفكر، وبيان المعنى المراد منه لغة واصطلاحا ليسهل بعد ذلك إيضاح المراد من مراجعته.

تعريف الفكر:
1- الفكر في اللغة
قال ابن منظور: الفَكْرُ والفِكْرُ إِعمال الخاطر في الشيء.
قال سيبويه: ولا يجمع الفِكْرُ ولا العِلْمُ ولا النظرُ. قال: وقد حكى ابنُ دريد في جمعه أَفكاراً، والفِكْرة كالفِكْر وقد فَكَر في الشيء(1)
وقال الفيروز أبادي: الفكر.. إعمالُ النَّظَرِ في الشيءِ كالفِكْرَةِ والفِكرَى بكسرهما، ج: أفْكارٌ. فَكَر فيه وأفْكَرَ وفَكَّرَ وتَفَكَّرَ. وهو فِكِّيرٌ كسِكِّيتٍ وفَيْكَرٌ كَصَيْقَلٍ: كثيرُ الفِكْرِ(2)
هذا التعريف اللغوي يبرز منه معنى هو: أن الفكر يكون فيما يحتاج إلى إمعان النظر والتأمل والتدقيق في محتواه، لا فيما اتضح وبان من الأمور، بحيث يعد التدقيق والتأمل فيه جهدًا بغير طائل.

2 – الفكر في المعاجم الحديثة والمعاصرة
يقول جميل صليبا: “وجملة القول إن الفكر يطلق على الفعل الذي تقوم به النفس عند حركتها في المعقولات، أو يطلق على المعقولات نفسها، فإذا أطلق على فعل النفس دل على حركتها الذاتية، وهي النظر والتأمل، وإذا أطلق على المعقولات دل على المفهوم الذي تفكر فيه النفس”(3).
وعرفه صاحب (المعجم الوسيط) بقوله: “الفكر إعمال العقل في المعلوم للوصول إلى معرفة المجهول، ويقال لي في الأمر فكر نظر ورؤية، [و] الفكرة: الصورة الذهنية لأمر ما”، ومنها: أفكر في الأمر، فكر فيه، فهو مفكر.
وافتكر تذكر، وفي الأمر أعمل عقله فيه، ومنها تفكر، والتفكير إعمال العقل في مشكلة للتوصل إلى حلها، ومنها الفكير: الكثير التفكير(4).

3- الفكر في القرآن الكريم
احتل الحث على استخدام العقل، والدعوة إلى التفكر، والتدبر، والنظر، مساحة واسعة في القرآن الكريم. فقد جاءت مشتقات العقل في تسع وأربعين آية كلها بالصيغة الفعلية، مثل يعقلون، وتعقلون، ونعقل، وعقلوه، ويعقلها، بينما لم ترد كلمة العقل بالصيغة الاسمية في القرآن، وان وردت مرادفاتها بهذه الصيغة، مثل: اللبّ، والحلم، والحجر، والنهى، والقلب، والفؤاد، التي جاءت بمعنى العقل.
واشتمل القرآن على أكثر من ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تُلقِّن النبي ـ صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ـ الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل، أو تحكي الحجة عن أنبيائه وأوليائه. ولم يأمر الله تعالى عباده في كتابه ولا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشي‏ء مما هو عنده أو يسلكوا سبيلاً على العمياء وهم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع والاحكام التي جعلها لهم.

4- الفكر في الحديث النبوي الشريف
وردت الكلمة في عدة مواضع، وفيما يلي بعض الأمثلة:
أ – وردت الكلمة في صحيح البخاري في أربع مواضع، واحدة بلفظ البخاري، والباقي بلفظ القرآن الكريم، منها الباب الذي أفرده البخاري لما تحت كتاب الصلاة : “باب يفكر الرجل الشيء في الصلاة”.
ب – وردت الكلمة في صحيح مسلم في موضعين، واحد منهما بلفظ مسلم في باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة والمراقبة، والثاني في كتاب الزهد والرقائق.
ويرتبط بمفهوم الفكر مفاهيم أخري تشكل منظومة مترابطة ومتناسقة مع بعضها البعض بداية من المفهوم الرئيسي والجذري (الفكر) والمفاهيم النابعة منه.
وهذا المفهوم أنتج مفاهيم فرعية أخري كـ: النظر والتأمل والإدراك والتمحيص والتفكير والجدل وإعمال العقل والاستنباط والاستنتاج، والبحث والتدبر والخاطر والعلم والدراية والفقه والفهم، والفطنة والحس والمعرفة والتبصر والتذكر.
ويأتي عكس هذه المفاهيم مفاهيم من قبيل: التجمد والتيبس والتقليد والتحجر، والبلادة والركود والجمود والجهل، والنسيان والغفلة والسهو.
والإسلام حينما دعا إلى التفكر إنّما دعا إلى العلم والمعرفة واكتشاف قوانين الفكر والطبيعة والمجتمع والحياة. وبذا أعطى الحياة والحضارة والمعرفة الإسلامية صفة الحركية وهي سر النمو والتطور والفاعلية والبقاء المؤثر في مسيرة البشرية، كما أنهّا حصانة من السقوط والتوقف والركود والغياب والفعل التاريخي.
وحول هذا المعنى اللغوي تدور غالب التعريفات الاصطلاحية، فإليك بعضها.
يقول الغزالي عليه رحمة الله: “اعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة” (5)
قال بعض الأدباء: “الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول إلى حقيقتها(6)
وبالنظر إلى تعريفات الفكر اللغوية والاصطلاحية، يمكننا القول بأن مفهوم الفكر يتلخص في ما يلي:
أولاً: إن الفكر عملية عقلية تعني إمعان النظر في ما علم إمعانا يفضي بالممعن إلى إدراك ما لم يكن معلوما لديه.
ثانياً: تسمى هذه العملية العقلية المعرَّفة في الفقرة السابقة (فكرًا) كما تسمى نتيجتها وثمرتها (فكرًا) كذلك.
ثالثا: يتبين أن الفكر لا يطلق على البديهيات، بل يطلق على ما يحتاج إلى نظر واستدلال وإمعان.
رابعاً: يتضح أن الفكر مجاله في المعاني وليس في المحسوسات، فإجالة العقل في القضايا التي تخص فلسفة الحياة أو تتعلق بمصير الإنسان الأبدي وغيره هي مجال الفكر.

تعريف و معنى مراجعة
– في معجم المعاني الجامع
مُراجَعة: اسم ، مصدر رَاجَعَ،
مُرَاجَعَةُ أَهْلِ العِلْمِ : اِسْتِشَارَتُهُمْ
مُرَاجَعَةُ كِتَابٍ : إِعَادَةُ النَّظَرِ فِيهِ ، تَصْحِيحُهُ
مُرَاجَعَةُ الحِسَابِ : مُرَاقَبَتُهُ وَالتَّدْقِيقُ فِيهِ، فحص الحسابات والتدقيق لمعرفة مدى صحَّتها.
– معجم عربي عربي
راجَعَ: فعل ، راجَعَ يُراجع ، مُراجعةً ، فهو مُراجِع ، والمفعول مُراجَع.
مُرَاجَعَةٌ : جمع : ـات . [ ر ج ع ]. ( مصدر رَاجَعَ.)
مُرَاجَعَةُ أَهْلِ العِلْمِ : اِسْتِشَارَتُهُمْ .
مُرَاجَعَةُ كِتَابٍ : إِعَادَةُ النَّظَرِ فِيهِ ، تَصْحِيحُهُ .
مُرَاجَعَةُ الحِسَابِ : مُرَاقَبَتُهُ وَالتَّدْقِيقُ فِيهِ .
المعجم: الرائد
راجَعَ يُراجع ، مُراجعةً ، فهو مُراجِع ، والمفعول مُراجَع.
راجع المؤلِّفُ الكتابَ : أعاد النظرَ فيه.
راجع نفسَه : أعاد النظر في الأمر .
راجع المصحِّحُ تجربةَ الطَّبع : صحّحها من أخطائها الطباعيّة …
المراجعة: بضم ففتح من رجع ، العودة إلى الأمر من جديد، ومنه مراجعة القضية يعني إعادة النظر فيها . ( فقهية )

من خلال التعريفات اللغوية يظهر لنا أن المراجعات الفكرية هي:
ـ “عملية فكرية تروم تصحيح مفاهيم مغلوطة” استقرت مع مرور الزمن بحيث يضن أصحابها لطول الألف أنها حقائق شرعية لا غبار عليها بل تتلقاها الأجيال التالية على أنها صلب الدين (7)
وكما تعني المراجعات في الاصطلاح المتداول معنى:
ـ تصحيح المفاهيم، فإنها تعني أيضا ” النقد الذاتي” الذي توجه إلى مراجعة عدد من الأساليب والوسائل التي تبين وقوع المبالغة في تحقيق مناطها، والتي اتضح عدم ملائمتها للواقع (8)
فمفهوم المراجعات مسألة مرتبطة بالأساس بعملية النقد الذاتي، وإعمال الفكر والتمحيص، وإعادة النظر في بعض المفاهيم والقناعات والعمل على تصحيحها.
فالمراجعة والتقييم والاستدراك بقدر ما تعبر عن حكمة وحيوية وسعة أفق وفهم للمصلحة وإعمالا لفقه الموازنات والمآلات بما يحفظ أمن الوطن والأمة وقضاياها العادلة وسط التحديات العاصفة والأطماع المتزايدة، فإنها تعبر أيضا عن فهم دقيق لنواميس الكون، وانسجام واضح مع قوانين الوجود والحياة التي لا تحابي أو تستثني أحدا مهما كان.

المراجعات: نظرة تاريخية
“لقد ظهرت المراجعات الفكرية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، حيث تأسس المعهد العالمي للفكر الإسلامي ( (IIIT، وهو مؤسسة فكرية علمية تعمل في ميدان الإصلاح الفكري والمعرفي لبلورة تيار فكري إسلامي متميز، يمهد لاستعادة قدرة الأمة على العطاء الحضاري وتوجيه التقدم الإنساني.
وفي منتصف التسعينات بدأ المعهد يطرح كثير من التساؤلات والإشكاليات الفكرية التي كان يُنظر إليها حينئذ بدرجات عالية من القلق والتوجس من قبل الجماعات الإسلامية وأتباعها، على أساس أنها تمثل تجاوزات ودخول على خط المحرمات أو المحظور من الحمى، لأنها كانت تمس بطهارة ما يعتقدون من أفكار، وتبعث على التشكيك بمنهج الجماعات التي تعتقد أنها تمثل كل منها جماعة المسلمين أي “الفرقة الناجية”، وتهز قناعاتها الراسخة بفكرها ذي الصبغة الربانية والذي لا يأتيه الباطل.
وقد حاول المشرفون على المعهد مبكرين إيجاد تيار إسلامي منفتح يتمتع بذهنية حركية واعية ومُحصنٌ بفكر يستوعب مقاصد الشريعة وفقه المآلات، ويتفهم طبيعته الرسالية ودوره باعتباره ” رحمة للعالمين “.
فزاد نشاط المعهد من خلال دعم الكفاءات التي ترى أن المراجعات محاولة للتنوير الإسلامي، فأسهم في دعم الإصدارات الفكرية التي تعمل على تحريك العقل المسلم كدورية “إسلامية المعرفة”، وشجع الكثير من طلبة الدراسات العليا في الجامعات الغربية والعربية على الاهتمام بتقديم أطروحات علمية تخدم مسار المراجعات وحركة الوعي والتنوير الذي يتطلع إليها المعهد ومؤسسوه، وقد نجحوا – خلال عقد من الزمان – في تأسيس مدرسة فكرية جمعت الكثير من أساتذة الفكر الإسلامي في بلاد المشرق ودول المغرب العربي.
وقد حاول الدكتور عمر عبيد حسنة وهو أحد المفكرين الإسلاميين الأوائل الذين حملوا رسالة المعهد طالبا ضرورة إعادة النظر في العديد من المسائل الفكرية والدعوية والحركية في كتابه الشهير: ” مراجعات في الفكر والدعوة والحركة “. وقد أشار فيه لأهم مظاهر إصابات العمل الإسلامي والتي عدد منها:
– سيادة العقلية الذرائعية، والتستر على الأخطاء، وشيوع الفكر التبريري، والتترس حول ما يسمى بالحق المطلق والصواب المحض.
– عجز الحركات والجماعات الإسلامية عن تمثل المعاني المفقودة في الأمة كالحرية والشورى والمساواة ، والقضاء على مفهوم الأخوة الشاملة، وعدم القدرة على ضرب أروع الأمثلة في الولاء للفكرة.
– حرمان أبناء الجماعة من ممارسة الحرية، وسيطرة الشخصنة وتضييق نطاق الحرية بين الإطار التنظيمي. وتحكم العقلية الحزبية التعصبية الذميمة.
– تحكم فكر المواجهة ، وانقلاب الوسائل إلى غايات، ومساهمة بعضها – بقصد أو بدون قصد – في بعثرة وتفرق الصف.
– بظهور فكر المواجهة أو فكر الأزمة تضخم الهاجس الأمني عند أصحابه فحدثت أخطاء فاضحة في الممارسة.
– كما أن الحكم بجاهلية المجتمع بسبب انتقاض بعض عرى الإسلام فيه دفع بعض شباب الصحوة إلى ممارسات متهورة محظورة شرعا.
-عدم الفقه بمستويات الخطاب التكليفي والخلط بين مرحلتي الدعوة والدولة أديا إلى اعتماد بعض الجماعات العنف واعتباره الوسيلة الشرعية للتغيير.
– عدم تقدير قيمة التخصص والنظرة الساخرة للآخرين ، والضيق بالرأي الآخر واحتكار الصواب أفقدا الحركة المرونة وقابلية التطور الداخلي وتجدد القيادات وتجاوزها وظيفة الإشراف الإداري الروتيني ،وعدم القدرة على إظهار شخصيات فكرية كافية، وعدم الاستفادة من الفرص المتاحة.
– شكلية الطرح كسطحية تناول قضية المرأة والاهتمام فيها بالشكل على حساب المضمون ، كالانشغال بحماية المرأة عن الانشغال بتنمية شخصيتها وقدراتها.
ومن أعظم إصابات العمل الإسلامي انقلاب عدد من الجماعات الإسلامية إلى طوائف منفصلة عن جسم الأمة وأهدافها، وشعورها بتميزها واستعلائها وكأنها الناطق الرسمي باسم الإسلام، والممثل الشرعي والوحيد له، الأمر الذي جعلها تحيد عن مهمتها الأساسية في الدعوة والهداية والإرشاد إلى نطاق استعداء المخالفين وعَدهم في صفوف المجرمين والحكم عليهم بالضلالة، وعدم التفاعل معهم والحرمان من الإفادة من خبراتهم.

أسباب المراجعات:
يمكن أن نجملها في الأسباب التالية:
1- أنَّ الإنسان خطَّاء بطبعه، وغير معصوم – عدا الأنبياء – فأصبح من الواجب على مستوى الأفراد والكيانات أن يقوم بمراجعة أفكاره التي قد تكون معصيةً أو خطأ، وعليه أن يتوبَ من المعصية، ويتراجَع عن الخطأ؛ سواء كان في تحديد الهدف أم الوسيلة أم المفاهيم الشرعية؛ فعن أنس: أنَّ النبي – صلى اللَّه عليه وسلم – قال: ((كلُّ ابن آدم خطاء، وخير الخَطَّائين التوابون)) (9)
2 – اختلاف النظَر والفكر والفهم نتيجة تقدُّم العمر، وزيادة الخبرة؛ واتساع الأفق المعرفي لاسيما العلم الشرعي والعلم بالواقع. فإنَّ نظرة الشابِّ العَجُول المتسرِّع للأمور غير نظرة الكهْل المجَرِّب، غير الشيخ الكبير، كما أن زيادة الخبرة عامل مهم في إحداث المراجعة الفكرية.
3 ـ ظهور الدليل المخالف الذي يُثبت خطأ الرأي الأول، كما وقع مع نفرٍ كبيرٍ من الخوارج، الذين خرجوا على عليٍّ – رضي الله عنه – والمسلمين جميعًا، بعد موقعة صفِّين، وكفَّروه وكفَّروا سائر المسلمين؛ إذ يروي الإمام ابن كثير – رحمه الله -: “ولما كان قد قارب دخول الكوفة، اعتزل من جيشه قريب من اثني عشر ألفًا، وهم الخوارج، وأبَوْا أن يساكنوه في بلده، ونزلوا بمكان يقال له: حروراء، وأنْكَرُوا عليه أشياء فيما يزعمون أنه ارتكبها، فبعث إليهم عليٌّ – رضي الله عنه – عبدالله بن عباس، فناظرهم، فرجع أكثرُهم، وبقي بقيتهم، فقاتلهم علي بن أبي طالب وأصحاب”[.(8)
فهؤلاء الخوارج على ما كانوا فيه من ضلال في الرأي وفساد؛ فإنَّ منهم من رجع عن ضلاله، بعد ظهور الدليل الصحيح.
4- قد يؤمن الإنسان بمبدأ، أو منهج جماعة من الجماعات، ويعمل للإسلام مِن خلالها؛ معتقدًا أنها على الحقِّ، وأن منهجها هو الصواب المتبع للكتاب والسنة، وقد يكون اعتقادُه هذا عن قلَّة علمٍ وفَهْم للشرع، أو لحقيقة المنهج، أو ربما يكون المنهجُ صحيحًا في أصلِه، ولكن أولي الأمر في تلك الجماعة يُخالفون في تطْبيقه، أو كانوا مصيبين أولاً، ثم خالفوا بعد ذلك؛ فهنا على المسلم أن يُراجع أفكارَه، وينظرَ في أمر المنهج الذي يسير به هذا الكيان، وهل يُرضي اللهَ أن يسيرَ فيه، أو لا؟
ولا ينبغي أن يمنعه عن مراجعة الحق مانعٌ، من خجل، أو خوف فراق أحبتِه؛ فإنَّ الحق أحق أن يُتَّبَع، وإنَّ القضية الأساسية هي: الجنة أو النار، رضا الله – تعالى – أو سخطه.
فعالم الأفكار.. ليس عالماً خيالياً لا قيمة له ولا أهيمة، بل العكس هو الصحيح فإن كافة ما يحيط بنا من أحوال هو نتاج أفكارنا، التي تتحول إلى “عقيدة” ينعقد عليها الكفر والإيمان، ولذا فإن أي خطأ – ولو يسير – يمس هذه الأفكار فإنه يُنتج كوارث جمة، فالأفكار أشبه بمعادلة الانشطار النووي، إما أن تصل إلى “التوازن الصحيح” والتأثير المطلوب، أو تضل الطريق.
وهي مسألة ليست يسيرة.. فالإنسان غالباً أسيراً لما يألف، ولا يحب أن يغير قناعته بسهولة، أو قد يجد الصعوبة في التراجع عن شيء آمن به، أو يشعر بالملل في البحث من جديد ! ولا شك أن هذا خطأ.. فالمسلم في جهوزية تامة، وتحفز، واستنفار مستمر لـ “الدوران مع الكتاب حيث دار”.. وهو في حالة من الوجل والخشية لـ الله جل جلاله.
وينبغي أن يعلم قول ابن مسعود – رضي الله عنه -: “الجماعة ما وافق الحق، ولو كنتَ وحدك”.
وقول نعيم بن حماد: “إذا فسدتِ الجماعة، فعليك بما كانتْ عليه الجماعة قبل أن تفسد، وإن كنت وحدك، فإنك أنت الجماعة”.
( يتبع)
كتبه الراجي عفو ربه عبد الرزاق سماح كاتب في الفكر والجماعات الإسلامية
ــــــــــــــــ
1 – لسان العرب، 5/ 65.
2 – القاموس المحيط، 1/ 588
3 ـ جميل صليبا، المعجم الفلسفي ج2/ص156، (دار الكتاب اللبناني-بيروت-1982).
4 ـ إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الفلسفي،ج 1، مجمع اللغة العربية –ط 2- مصر.
5 ـ إحياء علوم الدين، 4/ 425.
6 ـ معجم مفردات القرآن، مادة فكر.
7 ـ (مبادرة وقف العنف رؤية واقعية ونظرة شرعية) الجماعة الإسلامية بمصر ط(1) يناير 2002.
8 ـ “مراجعات لا تراجعات” طارق الزمر ط ( 1).2008.
9 ـ سنن الترمذي” (9 / 39).

Short Link

Leave a Comment

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Comments Rules :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.