21 سبتمبر 2025 / 11:04

دور علم النفس الاجتماعي في تجاوز التوصيفات السطحية للتحولات الإيديولوجية

د. عماد فوزي شعيبي

1. السياق التاريخي والرمزي:
“حين لا يفكر الإنسان في سبب انهيار أفكاره، بل ينقلب على ذاته، فهو لا يفكر، بل ينتقم”

تستمد المتلازمة-كما نقترحها- من شخصية “علي البدري” في مسلسل ليالي الحلمية، للكاتب المهم أسامة أنور عكاشة، وهي شخصية نذرت نفسها بإخلاص لقضايا الوطن، بإخلاص كبير، يصل إلى حد التصوف والاستغراق بها، إلى أن جاءت هزيمة 1967وما لحقها! حيث أصابته حالة إحباط شديد وكفر بالقضايا، وسرعان ما تبنى لغة مرحلة الانفتاح المعروفة في مصر آنذاك وأصبح أحد أغوالها. فانقلبت شخصيته إلى النقيض، متبنية اللاقيم والبراغماتية السوقية، في سلوك يعكس انكسارا قيميا عميقا و”ردة” على الذات القديمة.
‏هذه المتلازمة النفسية تعبر بشكل واضح عن الرغبة لدى الشخصيات النقائية (البيوريتانية) بالانتقام من الذين خيبوا آمالهم وسببوا هزيمة القضايا النقية، وذلك بالانتقام من الذات نفسها التي تبنت تلك القضايا.
‏إنه مجرد تبني المرء لما كان يرفضه ويجرمه، دون أساس فكري معاكس لأفكاره السابقة، فمن حق المرء أن يتبنى أفكارا جديدة مخالفة لأفكاره السابقة، شرط يكون ذلك على أساس فكري، وهذا شيء طبيعي في عالم الأفكار وينبي عن شخصية ديناميكية متطورة، ولكن الانحياز لمجرد رد الفعل، والذهاب إلى أبعد من ذلك وممارسة الانحياز، بصورة متطرفة، للأفكار الجديدة والوقائع الجديدة، لهو انتقام من الذات، وهو انتقام من الآخرين بنفس الوقت. إنه بكلمة “نكوص طفلي”. كما يُدعى في علم النفس.

2. تمهيد نظري:
في سياق دراسة النفس السياسية، تبرز أنماط متكررة من الانهيار القيمي لدى أفراد تبنوا قضايا كبرى بروح نقائية، ثم انقلبوا عليها بعد خيبات تاريخية. ويُعبر هذا الانقلاب غالبا عن رغبة لاشعورية في الانتقام من الذات التي آمنت بتلك الأفكار، ومن المجتمع الذي خذل، ومن القيم التي لم تصمد.
“متلازمة علي البدري” تُجسد هذه الظاهرة، وتمثل نموذجا نفسيا–اجتماعيا–سياسيا قابلا للتعميم. وهي لا تعني مجرد التحول الفكري الطبيعي، بل تصف انقلابا لاقيمي مدفوعا برد فعل نكوصي–انتقامي.
3. تعريف المتلازمة:
متلازمة علي البدري:
اضطراب نفسي–سلوكي يصيب الشخصيات النقائية بعد انهيار قضاياهم أو خيانة البعض لتوقعاتهم الكبرى، ويؤدي ذلك إلى انقلاب قيمي عنيف، دون أساس معرفي أو مراجعة فكرية، بل بدافع انتقامي يجمع بين السادية تجاه المجتمع والمازوشية تجاه الذات، ويُعد شكلا من أشكال “النكوص الطفلي”
4. الخصائص النفسية للمتلازمة:
البُعد التوصيفي:
أ. الاستغراق المثالي والتعلق الحدي بالقيم والنقاء الأيديولوجي.
ب. الصدمة أو الهزيمة حدث كبير يهدم المرجعية الأخلاقية أو الرمزية (نكسة، خيانة، سقوط زعيم).
ج. التحول إلى النقيض: تبني ما كان يُدان سابقا، دون أساس فكري.
د. السادية–المازوشية: انتقام من الذات والمجتمع والقيم الخادعة.
ه. النكوص الطفلي: تراجع إلى أنماط تفكير عاطفية–دفاعية.
5. الإطار المقارن:
أ. الفرق بين متلازمة علي البدري والتنافر الاستعرافي التقليدي:
• التنافر الاستعرافي: هو أن يحمل المرء معقدين متنافرين مع صراع داخلي بينهما.
• بينما متلازمة علي البدري: تتجاوز الصراع، إلى تحول لا قيمي عنيف، مدفوع بالرغبة بالانتقام النفسي، لا بمجرد التخلص من التوتر الداخلي الناجم عن الإحباط.
ب. مقابل النكوص الدفاعي:
• النكوص في علم النفس هو العودة إلى أنماط سلوكية بدائية عند الفشل.
• في متلازمة علي البدري، النكوص يتخذ بُعدا انتقاميا ذا طابع رمزي–سياسي.
ج. الشبه بـمتلازمة ستوكهولم العكسية:
• إن كانت متلازمة ستوكهولم هي التماهي مع المعتدي بدافع البقاء، فإن “علي البدري” يتماهى مع العدو القديم بدافع الكفر بالماضي، والانتقام من الذات؛ لأنها التزمت بأفكار ودوافع الماضي الايديولوجية، وما يتأتى عنها من التزامات سلوكية وأخلاقية وأحيانا نضالية.
6. التطبيقات السياسية والفكرية:
في السياسة:
• مناضلون في اليسار العربي صاروا ليبراليين متوحشين بعد انهيار السرديات القومية واليسارية!
• مثقفون روس بعد سقوط الاتحاد السوفيتي تحولوا إلى النيوليبرالية من موقع انتقامي من المرحلة السابقة.
في الإدارة:
• مدير نزيه انقلب إلى بيروقراطي فاسد بعد خيبة أمل.
• موظف ملتزم بالقانون أصبح محرضا على كسره حين حُرم من ترقية “عادلة”.
7. التحليل الإبستمولوجي:
تُظهر المتلازمة افتقار التحول إلى تأصيل معرفي، وتكشف غياب التفكير التراكمي، ما يجعلها انتكاسة لا مراجعة للأفكار والتجارب. ويُعد ذلك خللا في البنية المعرفية للشخص، إذ تنشطر الذات بين هويتين متناقضتين دون جسر تحليلي بينهما.
8. المعالجة النفسية والفكرية المقترحة وفقا للعلاج الاستعرافي:
1. الاعتراف بصدمة الخيبة كحدث طبيعي في التجربة الإنسانية. والاعتراف بالتغيير في الواقع. ذلك أن حل المسألة للشخصية السوية يكون وباختصار، في التعامل مع الواقع من منظور فهم المتغيرات، لا جلد الذات.
2. مراجعة نقدية للأفكار السابقة ضمن مسار تطوري تاريخاني لا انتقامي.
3. إعادة بناء المعنى الجديد لا هدم كل ماسبق تعسفيا، كما في العلاج المعرفي السلوكي.
4. تطوير الوعي الجدلي الذي يحتمل التناقض ويحوله إلى طاقة تحليل.
وحاصل القول في المقالة، إن متلازمة علي البدري تُقدم مفهوما جديدا في علم النفس السياسي والاجتماعي، يتجاوز التوصيفات السطحية للتحول القيمي. إنها صرخة الذات المكلومة التي لم تعد تطيق أن تكون نبيلة، فقررت أن تنتقم من نفسها ومن تاريخها.