ذ . محمد جناي ـ إطار إداري تربوي ورائد ومشارك في معهد الفضاء المدني ( CSI)
تُعدٌ التنمية المستدامة حلقة وصل بين مختلف الأجيال لضمان استمرارية الحياة الإنسانية ، كما تضمن العيش الكريم والتوزيع العادل للثروات للأجيال المتعاقبة، وحرصت هيئة الأمم المتحدة (1987) على أن أهداف التنمية المستدامة تتلخص في تحقيق النمو الاقتصادي ، والعدالة الاجتماعية والاقتصادية وترشيد استعمال جميع أنواع الموارد وحفظ الموارد الطبيعية والبيئة من أجل الأجيال القادمة .
يمثل الدين عاملا ثقافيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا كبيرا في العديد من البلدان النامية، لذلك فإن فهم الديناميكية الدينية المحلية ودور الأديان، أمر بالغ الأهمية لتحقيق التنمية المستدامة، وعلى الرغم من أن مفهوم التنمية المستدامة لايزال حديثا لدى منظمات الأمم المتحدة ، غير أنه ليس بحديث على القرآن الكريم والسنة النبوية ، إذ أن القرآن الكريم والسنة النبوية وعن طريق العديد من الآيات والأحاديث التي ترتكز على الأهداف الأساسية للتنمية المستدامة وضعا القوانين والإجراءات التي تحكم علاقة الإنسان بالبيئة ، بل وبالأرض والكون بمجمله،ضمانا لديمومة الحياة ، ويقول الله تعالى في محكم كتابه العزيز :(( وَيَسْعَوْنَ فِے اِ۬لَارْضِ فَسَاداٗۖ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ اُ۬لْمُفْسِدِينَۖ)). سورة المائدة، آية 66. وقوله تعالى : (( وَإِذَا تَوَلّ۪يٰ سَع۪يٰ فِے اِ۬لَارْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ اَ۬لْحَرْثَ وَالنَّسْلَۖ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ اُ۬لْفَسَادَۖ )) سورة البقرة ،آية 203.
وأما الأحاديث النبوية بشأن الاستدامة البيئية:
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة )).وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( من نصب شجرة فصبر على حفظها والقيام عليها حتى تثمر كان له في كل شيء يصاب من ثمرها صدقة عند الله عز وجل )).
وهذه الأمثلة من الكتب السماوية والسنة النبوية ماهي إلا غيض من فيض مما جاء فيها، علما أن هناك الكثير من الدراسات والأبحاث التي تناولت أهداف التنمية المستدامة في الأديان .
مفهوم التنمية المستدامة:
ظهر مصطلح “التنمية المستدامة” لأول مرة في منشور أصدره الاتحاد الدولي من أجل حماية البيئة سنة 1980، لكن تداوله على نطاق واسع لم يحصل إلا بعد أن أُعِيد استخدامه في تقرير “مستقبلنا المشترك” المعروف باسم “تقرير برونتلاند”، والذي صدر 1987 عن اللجنة العالمية للبيئة والتنمية التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، تحت إشراف رئيسة وزراء النرويج آنذاك غرو هارلم برونتلاند،وقد عرّف التقرير التنمية المستدامة بأنها “التنمية التي تستجيب لحاجيات الحاضر دون أن تُعرِّض للخطر قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها”.
ويشير مصطلح التنمية المستدامة Sustainable Development وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة إلى «التنمية التي تلبي احتياجات الحاضر من دون النيل من قدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها». ومن هنا نستنتج أن التنمية المستدامة تمثل تصوراً تنموياً شاملاً يوازن بين الحاضر والمستقبل، ويعتمد على توظيف مختلف المجالات المجتمعية، والاقتصادية والبيئية في استثمار مصادر الثروات والموارد المتاحة وتجديدها لضمان بيئة صالحة مستقرة لحياة أجيال اليوم والمستقبل.
وقد اعتمدت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة رسمياً خطة التنمية المستدامة لعام 2030، وتشتمل هذه الخطة على 17 هدفاً تتضمن مجالات حول التعليم الجيد، والصحة الجيدة، والعمل المناخي، ونمو الاقتصاد والصناعة والابتكار والبنية التحتية.
ماهي التربية من أجل التنمية المستدامة ؟
تشكل التربية العنصر الأساسي لتحقيق التنمية المستدامة ،فالتعليم هام لتحسين قدرة الأجيال الصاعدة والقادة والمواطنين على ابتكار حلول والتوصل إلى مستقبل أكثر استدامة ،وهذا يوضح لنا أن المجتمع التربوي يقع على عاتقه دور خاص ليؤديه ،عبر التعليم للجيل القادم من المواطنين الناخبين العاملين المتخصصين والقادة الذين سيكونون معدين لعيش حياة أساسها فكر الاستدامة.
والاستدامة هي نموذج شامل يحتوي على المشكلات البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والقضايا التي تواجه المجتمعات حول العالم، فعندما يحصلون التلاميذ على مناصب قيادية ويصبحون ناخبين عليهم التعامل مع قضايا معقدة لايوجد لها إجابات سهلة ، فعلى المدرسة تطوير أدوات وأطر تفكير للعمل بطرق تساعدهم على فك تعقيدات قضايا التنمية المستدامة التي تواجه مجتمعهم ،كذلك هم بحاجة إلى تعلم ابتكار حلول مناسبة وفي الوقت نفسه يضعون في اعتبارها العواقب العالمية (مثال : تنظيف التلوث المحلي دون شحن النفيات السامة والخطرة إلى بلدان أخرى).
وسيتطلب السير على درب التنمية المستدامة إحداث تغيير جذري في طريقة تفكيرنا وتصرفنا ،ولبناء عالم أكثر استدامة ومعالجة القضايا المتصلة بالاستدامة التي أبرزتها أهداف التنمية المستدامة ،يتعين أن يسهم جميع الأفراد في إحداث التغيير الضروري لتحقيق الاستدامة مما يتطلب مدهم بالمعارف والمهارات والقيم والمواقف التي تمكنهم من المساهمة في التنمية المستدامة،ولابد من التعليم إذاََ لتحقيق التنمية المستدامة ،بيد أن بعض أشكال التعليم قد لايدعم تحقيق التنمية المستدامة ،فالتعليم الذي يروج النمو الاقتصادي بمفرده قد يؤدي أيضا إلى زيادة أنماط الاستهلاك غير المستدامة، ويُمكٍّن النهج الراسخ المتمثل في التعليم من أجل التنمية المستدامة الدارسين من اتخاذ قرارات مستنيرة والقيام بتصرفات مسؤولة تضمن سلامة البيئة والاستدامة الاقتصادية وعدالة المجتمع،وذلك لصالح الأجيال الحالية والمقابلة.
ويرمي التعليم من أجل التنمية المستدامة إلى تنمية الكفاءات التي تمكن الأفراد من التأمل بتصرفاتهم والإحاطة بوقعها الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والبيئي حاليا وفي المستقبل على الصعيدين المحلي والعالمي، ويتعين النظر إلى التعليم من أجل التنمية المستدامة بوصفه جزءا لا يتجزأ من التعليم الجيد وأحد المكونات الأساسية للتعلم مدى الحياة.وعلى جميع المؤسسات التعليمية من مرحلة التعليم قبل المدرسي إلى مرحلة التعليم العالي، التركيز على معالجة قضايا التنمية المستدامة ودعم تنمية الكفاءات المتصلة بالاستدامة بوصفهما جزءا من مسؤوليتها ،ويوفر التعليم من أجل التنمية المستدامة تعليما ذا أهمية ومعنى ومجديا بالفعل لجميع الدارسين في ضوء التحديات التي يشهدها عالم اليوم.
ويتسم التعليم من أجل التنمية المستدامة بكونه تعليما شاملا وكفيلا بإحداث التغيير الجذري المنشود ،كما أنه يعنى بمضامين التعلم ونتائجه،وبالأساليب التربوية وبيئة التعلم ،وعليه فإنه لايكفي بإدراج بعض المضامين المتصلة بتغير المناخ والفقر وأنماط الاستهلاك المستدامة في المناهج الدراسية فحسب، بل يوفر أيضا بيئات تعليم وتعلم تفاعلية تركز على المتعلمين ،ويتطلب هذا التعليم الانتقال من نهج قائم على التعليم إلى نهج قائم على التعلم، واتباع أساليب تربوية تعتمد منحى عمليا تكون كفيلة بإحداث التغيير المنشود وتدعم أنشطة التعلم الذاتي والمشاركة والتعاون وحل المشكلات ، إن هذه الأساليب التربوية هي وحدها الكفيلة بتنمية الكفاءات الرئيسية الضرورية لترويج التنمية المستدامة.
وتستطيع المدرسة عن طريق استخدام أساليب وطرق تدريس حديثة مساعدة المتعلمين على التوظيف والاستفادة من مختلف عمليات التعلم ، فالتنوع يصبح لدى التلاميذ فرصة للنمو الثقافي وتعزيز مهاراتهم وقدرتهم عن التعلم والتفكير.
أساليب تدريس التربية من أجل التنمية المستدامة:
يستطيع المدرسون عن طريق استخدام أساليب تدريس متنوعة مساعدة المتعلمين على التوظيف والاستفادة من مختلف عمليات التعلم ،فالتنوع يصبح فرصة لدى التلاميذ للنمو الثقافي وتعزيز مهاراتهم وقدرتهم على التعلم والتفكير،والبيداغوجيا المرتبطة بالتربية من أجل التنمية المستدامة تحفز التلاميذ على طرح الأسئلة والتحليل والتفكير النقدي واتخاذ القرارات، بينما الأساليب التربوية لتعليم التنمية المستدامة ،فهي غالبا ماتستند على المكان أو على قضية أو مشكلة ،وهي غالبا ماتستفيد من الفنون، تستخدم الدراما ، اللعب ، الموسيقى الرسم وتنحو نحو تحفيز الابتكار وتخيل بدائل مستقبلية ،فتعمل باتجاه تغيير إيجابي لمساعدة التلاميذ على تنمية الإحساس بالعدالة الاجتماعية والكفاءة الذاتية كعضو في المجتمع .
أولا: المحاكاة
عبارة عن سيناريو تعليم وتعلم ، ويشارك التلاميذ في السيناريو ويتم استنباط المعنى منهم ،كمثال ، يتخيل التلاميذ أنهم يعيشون في قرية صغيرة تعيش على صيد السمك ، وعليهم أن يتعلموا كيف يمكن أن يدبروا مخازن السمك على نحو مستدام ،بدون استنفاذ لمخزون السمك أو تجويع الناس ، المحاكاة غالبا عبارة عن تبسيط لمفاهيم مجردة معقدة،وفي نفس الوقت ، المحاكاة تعطي إحساس بالواقع مما يحفز على مشاركة التلاميذ من جميع الأعمار. ولأن المفاهيم المرتبطة بالاستدامة غالبا ماتكون مجردة ومعقدة ، والمحاكاة تحد من التعقيد وتسلط الضوء على الجوانب البارزة ، والفائدة من تدريس التربية من أجل التنمية المستدامة هي معالجة مشاكل الحياة الحقيقية التي تواجه المجتمعات المحلية ، وتوثيق الصلة بينها وبين المناهج حيث
تدمج في المناهج عبر تعزيز مهارات التفكير العليا.
ثانيا: نقاش الفصل
يتطلب تخطيط كأي أسلوب من أساليب التدريس الأخرى ،حيث يأتي التلاميذ للفصل مع تجارب حياة متنوعة وواسعة ممكن أن تثري العملية التدريسية للمناهج الدراسية المقررة،وبالتالي يمكن للتلاميذ المساهمة بقدر كبير في مناقشة الاستدامة مع ملاحظة بقية التلاميذ في الفصل ماالذي يحقق الاستدامة وماالذي لايحققها ،عندها يستطيع المدرسون دمج تجاربهم في دروسهم عبر نقاشات الفصل حيث يزود التلاميذ بتطبيقات الحياة الحقيقية للمفاهيم، وإحدى المهارات التي ينميها التعليم للتنمية المستدامة القدرة على التواصل شفهيا وكتابيا .
ثالثا: أسلوب تحليل المشكلة
هو أسلوب مبني لإكتشاف الجذور البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمشكلات التي تواجهها المجتمعات ،ويساعد تحليل المشكلة المتعلم على تحديد محاور النقاش الرئيسية المتعلقة بمشاكل المجتمع ،فضلا عن وجهات نظر أصحاب المصلحة الرئيسية،أهدافهم ،والافتراضات التي تتعلق بالمشكلة، كما يعطي تحليل القضية التلاميذ طريق ليبدأ التعامل مع الشعور بأن شيئا ما ليس صحيحا تماما في مجتمعهم أو حول العالم.
رابعا: أسلوب سرد القصة
يعتبر وسيلة تربوية فعالة لدعم التنمية المستدامة ،ويجعل الأفكار النظرية والمفاهيم المستقاة من الكتب تصبح على قيد الحياة ،أسلوب سرد القصة يضيف العنصر البشري على المعلومات الجافة وأسلوب رواية القصة للتعبير عن وتوضيح مفاهيم الاستدامة،وهو شكل من أشكال المشاركة في التدريس،يمكن أن نأخذ القصص من أحداث جارية،تاريخ،برامج تلفزيونية،أدب الدراما،أو تجارب شخصية ،يستند سرد القصص أيضا على التقاليد الشفهية للمجتمعات السكانية الأصلية والفن الشعبي.
وفي ضوء ما سبق، نرى أهمية التوجه لرفع مستوى الوعي الشامل لكافة فئات المجتمع في بلادنا بأهداف التنمية المستدامة وقنوات المشاركة لتحقيقها، وذلك من خلال تضمينها بالمناهج الدراسية والأنشطة اللاصفية في قطاع التعليم، والبرامج الإعلامية، وحتى كتب الأطفال والألعاب الإلكترونية، كما لا ننسى أهمية توظيف الأبحاث العلمية لتضمين أبعاد التنمية المستدامة بمستوياتها المتنوعة في المشروعات البحثية، وتشجيع الإنتاج العلمي الذي يستهدف التقويم والتطوير للخطط الاستراتيجية للمؤسسات الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني في مسايرة أبعاد التنمية المستدامة وأهدافها.
وباختصار يمكن القول بأن التربية على التربية المستدامة تعد اليوم من أولويات التربية والتعليم في عالمنا المعاصر، وتقتضي الضرورة اليوم العناية بهذا النوع من التربية وإدماجها كليا أو جزئيا في مناهجنا المدرسية كي يتسنى لمجتمعاتنا أن تنهض بمواردها وأن تقلص مستويات الهدر والتبذير والإسراف المدمر في مختلف جوانب حياتنا الإنسانية والاقتصادية. ومما يؤسف له أن التربية على التنمية لم تأخذ دورها ومكانتها التي تليق بها في المدرسة العربية المعاصرة التي ما زالت حتى اليوم بعيدة جدا عن مقاصد هذه التربية ومناهجها . وما أحوجنا اليوم إلى تغيير تربوي يأخذ بعين الاعتبار أهمية البعد الإنساني والحضاري للتربية على التنمية التي تفرض نفسها اليوم ضمن الضرورات الحضارية المستجدة لعالم يفرض فيه المستقبل تحدياته المصيرية .
ـــــــــــ
المراجع المعتمدة:
التربية من أجل التنمية المستدامة في الميدان -كتاب مرجعي- اليونسكو قطاع التربية 2012.
التعليم من أجل تحقيق أهداف التنمية المستدامة -أهداف التعلم- منشورات منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=10914
