يمثل العفو الملكي عن “عبد القادر بلعيرج”، المدان في واحدة من أبرز قضايا “الإرهاب” في المغرب، حدثا ذا أبعاد متعددة تستحق قراءة تحليلية حيادية، تبتعد عن المبالغة في التبرير أو التخوين، وتضع القرار في سياقه السياسي والقانوني والاجتماعي، دون إسقاطات مسبقة أو خلفيات مؤدلجة.
بداية يمكن القول إن العفو الملكي الأخير صدر، من الناحية القانونية والمؤسساتية، في إطار الصلاحيات الدستورية التي يخولها الفصل 58 من دستور المملكة للملك، والتي تمكنه من اتخاذ قرارات بالعفو، إما كليا أو جزئيا، في مناسبات مختلفة، وغالبا ما يكون هذا الإجراء مرفقا بمبررات اجتماعية أو رمزية أو سياسية.
وفي هذا السياق، يندرج عفو عيد الفطر لسنة 2025، والذي شمل “بلعيرج” إلى جانب عدد من المدانين في قضايا الإرهاب، في إطار استخدام هذه الصلاحية ضمن رؤية تتجاوز الطابع الفردي للعفو، لتلامس دلالات أوسع مرتبطة بإعادة إدماج المحكومين (خاصة المتعلقة بالتطرف الديني)، وربما بمراجعة ضمنية للمقاربات السابقة (في سياق تاريخي معين تغلبت المقاربة الأمنية على غيرها).
فمن جهة أولى، يمكن فهم هذا العفو كامتداد لتوجه تدريجي للدولة المغربية نحو إعادة النظر في بعض ملفات مرحلة ما بعد تفجيرات الدار البيضاء سنة 2003، التي تميزت بقرارات استثنائية في التعامل مع التهديدات الأمنية، سواء على مستوى حجم الاعتقالات أو الأحكام القضائية.
وقد سبق للملك محمد السادس أن عبر في 2004 عن وجود تجاوزات في تلك المرحلة، ما فهم حينها كإشارة إلى إمكانية مراجعة تلك السياسات، وعليه، فإن العفو عن “بلعيرج”، أحد أبرز المعتقلين في قضايا الإرهاب، يمكن قراءته في هذا “الإطار التصحيحي المتدرج”، دون أن يعني بالضرورة إقرارا بالبراءة، أو عفوا عن الجرم، أو تجاوزا لوظيفة القضاء، أو تراجعا عن المنظور الأمني ككل.
ومن جهة ثانية، يرتبط القرار كذلك بتحولات في البيئة الإقليمية والدولية، ذلك أنه في السنوات الأخيرة، شهدت السياسات الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب نوعا من التراجع التدريجي عن المقاربات المتصلبة في العديد من الدول، لصالح آليات إعادة الإدماج والمقاربة الفكرية والاجتماعية، في إطار عام يدخل ضمن الاصلاخات الدينية الهيكلية التي ترمي الى اقتلاع التطرف والتطرف العنيف من جذوره..
وكان المغرب بدوره قد أطلق، منذ سنوات، برامج لإعادة تأهيل المعتقلين في قضايا التطرف، مثل برنامج “مصالحة”، الذي يستهدف تغيير قناعات بعض المعتقلين ومساعدتهم على الاندماج مجددا (اسهامات مندوبية السجون والرابطة لمحمدية للعلماء وغيرها من المتدخلين)، وإذا ثبت أن العفو عن “بلعيرج” جاء ضمن هذا السياق، فإنه يمكن اعتباره ترجمة عملية لهذه المقاربة، التي تراهن على إعادة إدماج الفرد بدل إقصائه التام.
لكن من جهة ثالثة، يثير هذا العفو عددا من التساؤلات الموضوعية التي تستحق التوقف عندها، فالملف الذي أدين فيه “عبد القادر بلعيرج” لم يكن ملفا عاديا، بل ارتبط بتهم خطيرة تتعلق بتكوين خلية إرهابية، وتهريب أسلحة، والتخطيط لأعمال عنف ضد شخصيات ومؤسسات، وبالرغم من أن المعني بالأمر أنكر التهم وصرح مرارا أن اعترافاته انتزعت تحت الإكراه، إلا أن القضاء المغربي أدانه في إطار مسطرة قانونية استندت إلى ما توافر من أدلة في حينه.
وبالتالي، فإن صدور العفو الملكي الأخير لا يغير من الناحية القانونية من وضع الحكم الصادر، لكنه ـ في نظري ـ يعيد فتح النقاش حول العدالة الجنائية، ودرجة اليقين في ملفات ذات طابع سياسي وأمني معقد.
أما على المستوى السياسي، فمن الممكن أن يفهم هذا القرار كجزء من توجه الدولة نحو تخفيف الضغط السياسي والحقوقي المتعلق بملفات ما يوصف بـ”الاعتقال بناء غلى خلفيات فكرية أو سياسية”، وهو توجه قد يسهم في إعادة التوازن بين منطق الدولة الأمنية ومنطق الدولة الحقوقية، خاصة في ظل الانتقادات المتكررة التي توجهها منظمات محلية ودولية للسياسات الأمنية المغربية.
لكن في المقابل، تظل الدولة مطالبة حسب سياقات كل مرحلة بتقديم مبررات واضحة للرأي العام الداخلي، لا سيما حين يتعلق الأمر بشخصيات حكم عليها في قضايا خطيرة متعلقة بالارهاب أو بزعزعة الاستقرار الامني للبلاد، وذلك من أجل ضمان الشفافية والحفاظ على الثقة في المؤسسة القضائية والأمنية.
وأما من زاوية تأثير هذا القرار على السياسات العامة، فقد يعطي العفو الملكي عن “بلعيرج” اشارة تؤكد اقتناع واستعداد واستمرار الدولة المغربية في معالجة ملف “التطرف والإرهاب”، على أساس المصالحة والتأهيل بدل الردع فقط، إلا أن هذا الانتقال يحتاج إلى تقنين، وتوضيح للمعايير المعتمدة في منح العفو، خاصة في القضايا المرتبطة بالأمن الوطني، تجنبا لأي تأويلات تمس بمبدأ المساواة أمام القانون.
قد يشكل هذا العفو الملكي خطوة لافتة في مسار السياسة الجنائية بالمغرب، وربما ينظر إليه كنقطة تحول ضمن تحولات أوسع، إلا أنه، في غياب توضيحات رسمية مفصلة، يظل في الوقت الراهن أقرب إلى قرار سياسي منه إلى مراجعة قضائية عميقة.
ومن ثم (كخلاصة)، يصعب إصدار حكم نهائي بشأن دلالاته ما لم يرفق بنقاش مؤسساتي شفاف، يوضح الأسس التي بني عليها، ويسهم في تحقيق توازن ضروري بين مقتضيات الأمن واحترام مبادئ العدالة وحقوق الإنسان.