7 مايو 2025 / 09:59

دفاعا عن ديكولونيالية عبد الله العروي

نادية عطية

تفاجأت صديقتي حين ربطت بين العروي وإدوارد سعيد على اعتبار أنهما متناقضان، لكنني بالفعل كنت أرى روابط كثيرة بينهما. تعرف المدرسة الديكولونيالية الاستعمار أو بالأحرى الكولونيالية على أنها تتعدى احتلال أرض شعب معين والاستيلاء على خيراته واخضاعه سياسيا واقتصاديا ونفسيا وثقافيا الى إبادته إما جسديا أو إبادة معارفه وارثه كاملا، وفي الحقيقة حين يقول مفكرنا عبد الله العروي أن الاستعمار سد الآفاق التاريخية امام الناس بحيث لم يعد لهم من افق غير الانخراط في الحداثة فهو يقترب من هذا التعريف.

من المعروف أن الديكولونيالية نشأت في أمريكا اللاتينية، أي في مكان تمت إبادة سكانه الأصليين تماما ليحل محلها الغربيون كسكان أصليين، فيحق لهم إذا، أن يطالبوا بالاعتراف بمعارفهم، وأن يتساءلوا كيف كانت ستكون حياتهم وحداثتهم الخاصة لو عاشوا تطورهم الطبيعي دون قدوم هذا الغازي المستوطن. لكن هل نملك نحن هذا الترف؟

تزامن الغزو الأوروبي للعالم الجديد مع سقوط غرناطة وطرد المسلمين من الأندلس، وإذا كانت كولونيالية العرق كما يسميها كيخانو، أحد رواد الديكولونيالية هي ما أتاحت للذات الغربية الديكارتية تحويل الهندي إلى موضوع يستباح قتله وابادته فإن كولونيالية الهوية كمفهوم أبدعه المفكر فتحي المسكيني هي ما أتاحت للأوروبي المسيحي طرد المسلم وإقصاءه من الحضارة الناشئة. في الحقيقة هذا المفهوم قريب مما أسس له إدوارد سعيد بقوله إن الشرق صنيعة الغرب، بحيث إن الغرب يحتاج للآخر من أجل التعرف على ذاته، هذا الآخر المتخلف المقابل للانا المتقدم. لكن إدوارد سعيد ينتهي إلى أن الفصل المطلق بين الشرق والغرب سردية تخدم الامبريالية أكثر. هنا بالضبط أجد نقطة التقاء بين سعيد والعروي، لكن كيف؟

لقد ظُلِم العروي كثيرا وهو يقدم على أنه المفكر الذي ينكر التراث ويحتقره، افتري على العروي وهو ينتقد على أنه مفكر معجب بالغرب حد تمجيده. هكذا تصورت أنا نفسي العروي وأنا أقرأ نقد عبد الكبير الخطيبي له بحيث وصفه إنه صاحب الهوية المتوحشة التي تلغي ما دونها، كان ذلك قبل أن أقرا “السنة والإصلاح”، ذلك الكتاب المدهش في شكل كتابته ومضامينه.

حين تقرأ “السنة والإصلاح”، فإنك لن تعرف هل أنت أمام أديب أم مؤرخ أم فيلسوف أم متخصص في دراسة الأديان، لأن ما ستشعر به هو مزيج من كل هؤلاء. والأهم من كل هذا أن مفكرنا وهو يخاطب القارئ على شكل رسالة فهو يجعلنا نتساءل، نطرح الأسئلة نفسها ونرافقه في عمق الأجوبة.

يكسر العروي منذ بداية الكتاب ثنائية الغرب والشرق ويرفض أن يعلي من المعجزة اليونانية أكثر من غيرها أو يمجد الغرب أكثر من الشرق حيث يعلن أنه يتحدث عن عالم متوسطي واحد، عالم لا يمكن فصل الغرب عن الشرق فيه، يقر العروي أن المعلومات جد شحيحة عن عالم ما قبل العصر الهلنستي، لكن الاكيد ان هذا العصر المجهول وجد خاتمته في الثقافة الهلنستية بمعنى انه كان عليه ان يتوجه لهذه الخاتمة بالذات. ويخلص انه تاريخيا الميتافيزيقا نشأت في حضن الميثولوجيا ولم تتنكر لها ولم تنفصل عنها كما أن الثيولوجيا تولدت عن الميتافيزيقا وكما أن العلم الموضوعي انبثق عن الثلاثة. هذه الخلاصة لا يمكن الإصرار معها على ربط العلم الحديث بالمعجزة اليونانية فقط كما لا يمكن تفسير فوز الثقافة اليونانية في اعقاب حملة ألكسندر بفوز الغرب على الشرق. الشرق لم يكن منهزما بل كان حاضرا ذهنيا وروحيا حتى لو انتصر الغرب عسكريا وسياسيا. هنا يتساءل العروي عن سياقات الرسالة الإبراهيمية والمحمدية.

يرى العروي أن في الثقافة الهلنستية ميلا واضحا نحو الشرق في الجوانب السياسية والاجتماعية والفكرية والفنية، ففي الشرق يسهل الانتقال من التعدد إلى الوحدة ومن التناثر إلى الانتظام ومن التنوع والاختلاف إلى التماثل والائتلاف، يقر العروي في النهاية ان الثقافة الهلستينية اتجهت اتجاها لا رجعة فيه نحو التوحيد في مجال العقيدة، التعميم والقطع في مجال الفكر، الإطلاق والاستبداد في مجال السياسة. الإسلام لم ينشأ بعيدا عن هذه البيئة ولا عن هذا التوجه التاريخي العام، والعرب لم يكونوا بعيدين عن بلاد الفرس والروم ولم يكونوا بعيدين عن الرسالة الإبراهيمية ولا اليهودية والمسيحية.

حسب العروي، يأتي الإسلام في خاتمة هذا التطور العام كما جاءت رسالة إبراهيم الخليل خاتمة لتطور مماثل أثناء حقبة طويلة سابقة.

ثنائية الغرب والشرق إذا منتهية بالرغم من أن ما انعقد بفعل التاريخ هنا في هذا الزمن وهذا المكان قد ينحل بفعل التاريخ كذلك لاحقا في بقعة أخرى. لكن التلاقح شرق غرب ظل مستمرا في العالم المتوسطي عبر التاريخ بحيث يسجل مثلا أن الكنيسة المسيحية انتقت من الثقافة الهلنستية أفلاطون وشيشر وقبل أن تضم إليهما بتأثير عربي أرسطو وتعطيه مركز الصدارة.

العروي كان شجاعا جدا وهو يتناول الاسلام كظاهرة تاريخية واجتماعية ويسرد علينا بأسلوب شيق لا يخلو من تحليل علمي قصتنا ثم قصة وماهية السنة، السنة التي تأصلت في واقع تاريخي واجتماعي معين وفي نص واضح وثابت، وظلت تقدم نفسها على أنها الحق الجامع المانع الكافي والشافي. السنة التي تحت ضغطها الهائل يتعثر التاريخ وما تبقى له من قوة يستهلكها في ممانعة التغيير حتى يحافظ على الوضع المتعثر. وحسب العروي هذا لم يحدث زمن الفتوحات وعند تكوين الامبراطورية العربية بل بدأت عملية التحجيم عندما انحسر المد العربي وتعرضت دار الاسلام الى الانكماش والتمزق، عندما فقد المسلمون القيادة العسكرية ثم الزعامة السياسية ثم الإمامة الفكرية ولم يبق لهم سوى الولاية الدينية. في الفقه نبدأ مع أبي حنيفة وننتهي بابن حنبل وفي الكلام نبدأ بالمعتزلة وننتهي بمذهب الظاهر، وفي الماورائيات نبدأ بالفلسفة وننتهي مع التصوف. فهل يمكن أن يحدث العكس في لحظة الهزيمة والانكسار أم إن الأمر لا يعدو أن يكون تعويضا عن جرح الكرامة والإهانة؟ حتى الإصلاح، بتعبير العروي، كان ينتهي إلى “نيو سُنة” أو “بوست سُنة”. لكنه كثيرا ما ردد أن الوقت قد حان لطرح كل الأسئلة التي لم يجرؤ أحد على طرحها.

العروي يعتبر أن العرب منذ البداية لم يكونوا تابعين وإلا اعتنقوا الديانات السابقة، كانوا فاعلين وكانت لهم لغتهم وكيانهم المستقل ودورهم التجاري المهم، العرب لم يتعرضوا للإبادة في ذلك العصر، الإبادة بمفهومها الكولونيالي فكيف الآن اوفي عهد الاستعمار.

كل المنتمين للحضارة العربية الإسلامية إذا لا يملكون ترف الديكولونيالية على الطريقة الأمريكولاتينية، ببساطة لأنهم كولونياليون سابقون. في النهاية إذا ما عرفنا الديكولونيالية على انها تحرير الأرض والعقل فالأجدى والاحرى بنا ان نحرر عقولنا من عقدة الآخر وعقدة النحن، عقدة سؤال لماذا تأخرنا وتقدم الاخرون والاكتفاء بسؤال لماذا تأخرنا. ليس علينا أن نتبنى الحل الغربي لمشاكلنا لكن علينا بالضرورة ان نشخص مشاكلنا، وأن ندخل روح العصر دون تردد، واعتقد ان هذا ما حاول فعله عبد الله العروي بغض النظر عن أنه نجح ام لا.

بهذا، أطرح السؤال مجددا من أقرب إلى الديكولونيالية: العروي الذي توجه لنقد الذات وإبراز مشاكلها أم طه عبد الرحمان الذي توجه إلى نقد الآخر في مقابل البحث عن الذات الصافية النقية المتفوقة حتى ونحن غارقون في هزائمنا؟

هذا ما سأتطرق له في المقال القادم.