من إعداد الطالب الباحث: رفيق نديري
من النعم التي منّ الله بها على الإنسان نعمة العقل التي ميزته عن سائر المخلوقات، فهذا المبحث أعلاه يتحدث عن أهمية العقل والفلسفة في القرآن الكريم، وقد قمنا بتقسيمه إلى ثلاثة مطالب مركزية، يهتم القرآن الكريم في منطلقاته التأسيسية بالعقل، ويضعه في مقام خاص.
إن الله سبحانه وتعالى عندما وهب للإنسان العقل ليفكر به، أراد منه أن يكون التفكير طريقا لما هو أنجح وأقوى وأنفع وأحكم، ولم يعطه إياه ليجعله خرافات وخيالات لا تربطه بالله رابطة. ومن ذلك أنه جعل أول واجب يلزم المكلف هو النظر والتفكر لتحصيل الاعتقاد بالله، لينتقل منه إلى تحصيل الإيمان عن طريق الرسول، وما أنزل عليه من وحي إلهي. ولهذا يقول تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} [سورة الأنعام، الآية: 51].
يتضح من خلال هذه الآية المباركة أن القرآن الكريم يدعو إلى التفكر والتدبر وإعمال العقل، «هو استفهام تفرع عليه عدم التفكر، كما هو التحريض على التفكير» (1). «وقد صرح بعض مفكري الغرب بأن التفكير هو مبدأ ارتقاء البشرية وتطورها. وبقدر شيوعه يكون التفاضل بين الناس، وقديما حجرت تقاليد دينية حرية التفكير واستقلال العقل على البشر، حتى جاء الإسلام فأبطل بالقرآن والسنة هذا الحجر وأمر بالتفكر والتدبر» (2).
كما أن مفهوم العقل في القرآن الكريم واسع جدا، عبر عنه بصيغة الفعل والنشاط، باستخدام عبارات التعقل والتدبر والتفقه والنظر والاستكشاف والاستنباط والاستخراج والتأمل والتفكر في المستقبل، وممارسة الاجتهاد الموصل إلى الحق، وتحقيق مصالح الناس، ومحاربة الخرافات التي قد تستولي على أفكار وسلوكيات بعض الناس، وغني عن البيان أن الإسلام دين الكمال ودين أولي الألباب والأفكار النبيلة الناضجة.
وفي نفس السياق حث أبو زيد المقرئ الإدريسي في كتابه “القرآن والعقل” ويتمثل ذلك في أول كلمة نزلت في القرآن الكريم ألا وهي {إِقْرَأ} [سورة العلق، الآية: 1].
يقول أبو زيد المقرئ الإدريسي: «ليس الأمر متعلقا بأهمية القراءة وقيمتها وأهمية العلم فقط… الأمر أعمق من ذلك، لقد كانت الجزيرة العربية – آنذاك تغرق في الشرك، فلعلها أحوج أن يكون أول ما ينزل هو {آمِنْ}» (3).
ولكن لم تنزل أول ما نزل لا “آمن” ولا “وحد” ولا “أعدل” على الأمة، بل نزلت “إقرأ” وهذا ما ينبغي الانتباه إليه في مركزيته وأهميته في التصور القرآني، يقول ويضيف: «والأقرب عندي إلى التفسير الصحيح هو أن كل هذه الأفعال لابد من تأسيسها بدء من{إِقْرَأْ} باعتباره فعل المعرفة السليمة، ذلك أن الإيمان بلا {إِقْرَأْ} سيصبح خرافة، وأن الدعوة بلا {إِقْرَأْ} ستصبح تنفير، وأن العبادة بلا {إِقْرَأْ} ستصبح بدعة، وأن الجهاد بلا {إِقْرَأْ} سيصبح إرهابا» (4).
وفي نفس الصدد يقول نعمة هادي الساعدي في كتابه “القرآن والعقلية العربية”: «يؤكد القرآن في أكثر من آية على العقل والقضايا المسنودة بعقل وإدراك واستدلال وبرهنة، ويذهب القرآن الكريم إلى أن الرجوع إلى العقل أفضل من العاطفة والتعصب» (5).
وقد دعى القرآن الكريم إلى أهمية العقل ونبه إليها قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ اليَمِيْنِ وَالشَّمَائِلِ سَجَدَ للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [سورة النحل، الآية: 48].
فسر الآية الطاهر بن عاشور بقوله:” بعد أن نهضت براهن انفراده تعال بالخلق بما ذكر من تعدد مخلوقاته العظيمة جاء الانتقال إلى دلالة من حال الأجسام التي على الأرض كلها مشعرة بخضوعها لله تعالى خضوعا مقارنا لوجودها وتقلبها”(6).
فالقرآن الكريم حث على قضايا فلسفية كثيرة متعددة منها:
«العلم والجهل من حيث قدم أحدهما وتأخر الثاني، وأسبقية أحدهما على الآخر، وذهب القرآن الكريم إلى أن الجهل أسبق من العلم، وأن الفرد خلق جاهلا وعرض عليه العلم عرضا.
الظلمة والنور، أكد القرآن الكريم أن الظلمة أسبق وجودا من النور.
الإيمان والجهود والفكر، وأيهما أسبق، وهل خلق العبد مؤمنا أم كافراً؟
بين القرآن أسبقية الإيمان؛ وأن الكفر بأسباب خارجية كان لها أثر في ذهنية الفرد فجحد الله وكفر به» (7).
وفي السياق نفسه يؤكد يحيى سليمان في كتابه “مسارات العقل” بقوله: «يأتي التفكير في الدرجة الثانية من درجات المعرفة العقلية التي يتوصل بها إلى اليقين العقائدي الثابت، وآيات القرآن الكريم تزخر بالآيات والنداءات التي تحث على ذلك» (8). فيحيى سليمان يبين مكانة العقل ودرجته في البناء المعرفي.
يقول العربي بختي: «إن البحث في العقل، ومعرفة سبب تنويه القرآن الكريم له واعتباره وسيلة من وسائل المعرفة، يعتبر من أرقى أنواع الأبحاث وأجدها نفعا للإنسان؛ وقد سمي العقل عقلا، لأنه يعقل صاحبه يقع في الاعتقادات الفاسدة والأفعال القبيحة، هذه وظيفته» (9).
يبين يحيى سليمان أن العقل بمثابة موجه ومرشد للإنسان يميز به من الجميل الصالح والفاسد الطالح. «وقد اتفق المفكرون المسلمون الأوائل على أن اللجوء إلى العقل، وإقامة الأدلة العقلية على وجود الله، والبرهان على وحدانيته وقدرته فرض على كل مسلم، كما أن استعمال العقل لفهم الشرع وتأييده واجب، واستعمال الفكر والبراهين العقلية ليس بدعة في الدين وهذا ما يؤكد على أهمية التفكير ويظهر دوره في الاجتهاد واستنباط الأحكام من أدلتها الشرعية والقياسات الصحيحة، حتى يصل المجتهد إلى الحكم» (10). قال تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيْرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونُ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [سورة الحج، الآية: 46].
بين ابن عاشور أن “الاستفهام تعجبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذبة لأنبيائها، والتعجيب متعلق بمن سافروا منهم ورأوا شيئا من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه … والفاء في فتكون سببية جوابية مسبب ما بعدها عل السير”(11).
أما في السنة النبوية قد ثبت عند بن حبان في صحيحه وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «لقد أُنزلت عليا الليلة آيةٌ؛ ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها» (12) {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ للآيَاتٍ لأولِي الأَلْبَابِ}. [سورة آل عمران، الآية: 190].
من خلال هذه الآية الكريمة تتضح لنا أهمية التدبر التدبر والتفكر والتفقه. يقول عصام بن صالح في كتاب له بعنوان: “فن التدبر في القرآن الكريم”: «للفظ القلب والفؤاد والصدر في القرآن الكريم تكرارا كثيرا، وأسند إليه في تلك الآيات ما لم يسند لغير من الجوارح، وقد وصفت على أربعين وصفا أسنده القرىن إلى القلب وهي أوصاف جليلة الأثر» (13).
كما أشار في موضع آخر إلى العقل بقوله: «العقل منشط تفكيري – تذكري معا، خاص بالإنسان الآكل – العاقل. إنه في آن واحد وظيفته الفاكرة réflexion والذاكرة mémoire» (14).
وصفوة القول إن من حقائق القرآن الكريم وإعجازه، أنه موجه إلى العقل الإنساني في كل كلمة وآية وسورة في ترابطها الشكلي ومعانيها الظاهرة البعيدة، فمن هذا المحيط الزاخر أخذ البحث نقطة وحاول تحليلها ومعالجتها وبيان اتجاهاتها مع الإدراك بأن هذه المحاولة لن تكون شاملة وكاملة ومحيطة بأبعاد الموضوع ولكنها هادفة إلى الإبحار فوق موج المحيط على متن مركب العقل، والمركب لن يستطيع الغوص إلى الأعماق، كذلك فإن العقل الإنساني المركب على الإدراك الحسي والمشاهدة.
ـــــــــــــ
1 ـ محمد أبو زهرة، زهرة التفسير، دار الفكر العربي، الطبعة الأولى، ج5، ص51.
2 ـ محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1990، ج11، ص230.
3 ـ أبو زيد المقرئ الإدريسي، القرآن والعقل، مرجع سابق ص158.
4 ـ أبو زيد المقرئ الإدريسي، القرآن والعقل، مرجع سابق ص158.
5 ـ نعمة هادي الساعدي، القرآن والعقلية العربية، دار الهدى للنشر والتوزيع، ط1، 2003، ص44.
6 ـ محمد الطاهر بن عشور، التحرير والتنوير، مرجع سابق، ص 168.
7 ـ نعمة هادي الساعدي، القرآن والعقلية العربية، ص50، بتصرف.
8 ـ يحيى سليمان، مسار العقل في القرآن الكريم، دار العرب للدراسات والنشر والترجمة، ط1، 2001، ص61.
9 ـ العربي بختي، العقل في القرآن الكريم والسنة النبوية، ديوان مطبوعات الجامعية، ط1، 2015، ص7.
10 ـ أبو زيد المقرئ الإدريسي، القرآن والعقل، مرجع سابق، ص57.
11 ـ محمد الطاهر بن عاشور، التحرير والتنوير، مرجع سابق، ص 287، (بتصرف).
12 ـ أخرجه ابن حبان في صحيحه وابن مردويه وابن المنذر وابن أبي الدنيا في كتاب التفكر عن عطا.
13 ـ عصام بن صالح العويد، فن التدبر في القرآن الكريم، مركز التدبر للاستشارات التربوية والتعليمية، ط3، 2010م، المملكة العربية السعودية، ص60.
14 ـ عصام بن صالح العويد، فن التدبر في القرآن الكريم، مرجع سابق، ص77.
ـــــــــــــــــ
البيبلوغرافيا:
محمد أبو زهرة، زهرة التفسير، دار الفكر العربي، الطبعة الثانية، 1988م.
محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، الطبعة الأولى 1990م.
عصام بن صالح العويد، فن التدبر في القرآن الكريم، مركز التدبر للاستشارات التربوية والتعليمية، ط3، 2010م.
العربي بختي، العقل في القرآن الكريم والسنة النبوية، ديوان مطبوعات الجامعية، ط1، 2015م.
يحيى سليمان، مسار العقل في القرآن الكريم، دار العرب للدراسات والنشر والترجمة، ط1، 2001م.
نعمة هادي الساعدي، القرآن والعقلية العربية، دار الهدى للنشر والتوزيع، ط1، 2003م.
أبو زيد المقرئ الإدريسي، القرآن والعقل، مؤسسة الادريسي للأبحاث والفكر، ط1 سنة 2017م.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=15626