درس افتتاحي حول التحول الرقمي في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان
مروان بنفارس
انعقد صباح يوم الجمعة 5 دجنبر 2025 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان الدرس الافتتاحي لشعبة علم الاجتماع، تولّت الأستاذة الدكتورة كريمة الوزّاني تسيير الجلسة، فافتتحت اللقاء مرحّبة بالضيوف ومؤطرة لموقع هذا الدرس الافتتاحي. ثم أحالت الكلمة إلى السيد عميد الكلية الدكتور يوسف العلمي الذي عبّر عن اعتزازه باستقبال زميله عميد كلية التربية بالرباط، وتوقّف عند أهمية الافتتاح العلمي لهذا الموسم بالنظر إلى التحولات التي يعرفها الحقل السوسيولوجي وارتباطه المتزايد بالرقمنة. بعده تناول الكلمة رئيس شعبة علم الاجتماع الدكتور عبد الرحمن الزكريتي، مرحّبًا بالضيف وموضحًا مكانته العلمية باعتباره أحد الأسماء البارزة في العلوم الاجتماعية في المغرب.
أما الكلمة التأطيرية للدرس فقد قدّمها الأستاذ الدكتور محمد حيتومي، الذي استهلّها بقراءة في الإشكالات الكبرى التي يتوقع أن يعالجها هذا اللقاء، خاصة في ضوء ما صاغه المنتدى العالمي الخامس للسوسيولوجيا بالرباط 2025 من خلاصات كثّفها في بيانه الختامي تحت شعار «وقت السوسيولوجيا» (Time for Sociology). استحضر الأستاذ حيتومي هذا البيان باعتباره لحظة تنبيه لخطورة المرحلة التي تعيشها المعرفة الإنسانية، وحاجة التخصص إلى الانخراط النقدي في فهم أزمنة الأزمات المتراكبة: المناخ، الرقمنة، السلطة، واللامساواة.
ثم ذكر الأستاذ الدكتور محمد الحيتومي بمنجزات الضيف الدكتور عبد اللطيف كْداي، مُبرزا مساره العلمي وتتويجه الدولي الذي حظي به في أكتوبر 2025 بوسام الاستحقاق من طرف منظمة Semaine de l’Afrique Solutions (SAS) تقديرًا لمساره الأكاديمي وإسهاماته في التفكير السوسيولوجي المعاصر، لتنطلق بعد ذلك المحاضرة الرئيسة.
أوضح الدكتور والعميد عبد اللطيف كداي أن الرقمنة في المغرب، كما في العالم، لم تعد مجرّد أدوات للاتصال أو تسهيل الحياة، بل تحولت إلى بنية اجتماعية كاملة تعيد تشكيل أنماط التمثّل، والسلطة، والهوية، والعلاقات اليومية. نحن لا نتعامل مع هاتف، بل مع منظومة تلتقط الجسد والانفعال والحركة وتعيد تدويرها في فضاء يتجاوز الواقع. وهذا ما سبق أن أسست له كريستين هاين حين اعتبرت أن العالم الإلكتروني ليس امتدادًا للعالم الواقعي، بل حقلاً اجتماعيًا قائماً بذاته، يحتاج الباحث لأن يعايشه بمنهجية الإثنوغرافيا الرقمية لا التحليل الكلاسيكي.
لقد لُوحظ أن التحول الرقمي – حسب كداي – لا يغيّر طريقة تواصلنا فحسب، بل يغيّر معنى السلطة نفسها، التي صارت تتوزع في شبكات غير مرئية، داخل توصيات المحتوى، وخوارزميات الظهور، وترتيبات المنصات. وهنا تُستحضر مباشرة أعمال A. Aneesh حول ما سماه «الحكومية الخوارزمية»، أي سلطة لا يُعلن عنها في البرلمان ولكن يُمارَس تأثيرها في خوارزمية ترتيب منشور، أو اقتراح فيديو، أو حذف محتوى. الخوارزمية ليست تقنية، بل جهاز ضبط اجتماعي جديد.
وفي سياق الفضاء العمومي، بيّن الأستاذ أن المنصات الرقمية باتت تنتج الرأي العام وتدير ذاكرته ومزاجه، بحيث لم تعد النقابة والحزب والمؤسسة التربوية وحدها مصنع الوعي، بل المؤثرون، و«الترند»، وموجات التفاعل الانفعالي التي وصفها إيفا إيلّوز في نظريتها عن «الرأسمالية العاطفية»، حيث لم يعد الشعور تجربة داخلية، بل سوقًا عموميًا تُقاس فيه القيمة بعدد المشاهدات وكمية الحضور.
وهذا ما يجعل التحول الرقمي أيضًا تحولاً في العدالة والتمثيل، فالاعتراف المتاح للجميع لا يعني عدالة للجميع، كما نبّهت نانسي فرايزر التي ربطت بين بروز الخطابات الهوياتية وتراجع العدالة الاقتصادية. فالمنصات تمنح الصوت، لكنها لا تمنح تكافؤ الموارد، ولا تكافؤ الفرص، ولا تكافؤ الوصول. الظهور الرقمي حر، أما النفاذ إلى الخوارزمية فامتياز طبقي، رمزي، وثقافي.
وعندما تحدّث الدكتور عن الخريطة الجديدة للامساواة، كان يقصد أن الفقر لم يعد يُقاس فقط بالمال والدخل، بل بالقدرة على التواجد داخل الشبكة، وعلى إنتاج المعنى، وعلى الحصول على مساحة في واجهة المنصة. هنا يلتقي تحليل المحاضرة مع ما تقوله إيلينا إسبوزيتو من أن الخوارزميات لا تراقب فقط، بل «تتنبأ»، وتصنع مستقبلاً قبل أن يحصل، أي أنها لا تشاهد الإنسان، بل تصوغه.
هذا التحول الرقمي لا ينفصل أيضًا عن سؤال العمران والإنسان في عصر الأنتروبوسين، حيث لم يعد الإنسان سيّد الطبيعة، بل القوة التي تهددها. ومع ذلك ما يزال يوسع حضوره عبر واجهات رقمية تعيش على استخراج البيانات وتدويرها، بما يشبه تحويل الإنسان إلى مورد دائم، أو ما تسميه السوسيولوجيا اليوم «اقتصاد البيانات الكبرى».
أما عن أدوار الباحثين، فقد وضع الأستاذ ثلاثة مسارات للاشتغال: أولها دراسة تشكل السلطة الجديدة داخل الخوارزميات ومنصات التأثير؛ ثانيها فهم عدم المساواة الرقمية كتمظهر جديد للتراتبية الاجتماعية؛ وثالثها إعادة التفكير في الفضاء العمومي الذي لم يعد ميدانًا في الشارع بل مساحة تمتد عبر الشاشات وتتوزع بين الهواتف والتطبيقات والتفاعلات اللحظية.
بهذا المعنى، لم تكن الندوة احتفاءً بالرقمنة، بل تفكيكًا لها. ولم يكن الحديث عن الشباب والمؤثرين وذكاء الآلة حديثًا عن الموضة، بل عن بنية تعيد صوغ المجتمع والدولة والذات. وبدا واضحًا أن السوسيولوجيا اليوم ليست علم المجتمع كما كان، بل علم الشبكة التي صار المجتمع يُصفَّى عبرها. وأن الباحث لم يعد مستكشفًا لقرية أو حي، بل متتبعًا لتحركات الخوارزمية، وخرائط الانفعال، ومسارات الظهور والاختفاء.
هكذا خرجت المحاضرة أن الرقمنة في المغرب ليست مرحلة تقنية، بل مرحلة وجودية تُجبر الجامعة والبحث والتربية والسياسة على إعادة صياغة نفسها، كي لا تتكلم من خارج العالم، ولا تتأخر عن زمنه، ولا تستعمل أدوات القرن الماضي في قراءة مجتمع صار يُكتب داخل أنظمة حسابية لا تُرى، لكنها تُشَكِّل.
التعليقات