دراسة: التدين في الولايات المتحدة يدخل مرحلة جمود
كشف أحدث استطلاع قام به “مركز بيو للأبحاث” أن المشهد الديني في الولايات المتحدة يعيش منذ نحو خمس سنوات حالة من الاستقرار النسبي بعد عقود من التراجع المتواصل، فالنسب العامة للأميركيين الذين يعرّفون أنفسهم كمسيحيين أو منتمين إلى ديانات أخرى أو غير منتمين لأي دين ظلت شبه مستقرة منذ سنة 2020 دون تسجيل أي صعود أو هبوط واضح.
وينطبق هذا الاستقرار أيضا على المؤشرات السلوكية الكبرى مثل معدل الصلاة اليومية، وأهمية الدين في الحياة، والمواظبة على حضور الشعائر الدينية، وهي مؤشرات كانت قد عرفت انخفاضا حادا على مدى عقود قبل أن تدخل مرحلة الجمود الحالية.
ويؤكد التقرير أن هذا الاستقرار يبقى لافتا لأنه يأتي بعد فترة طويلة من الانحدار الديني، كان محركها الأساسي التحول الديمغرافي بين الأجيال، حيث أن الأجيال الكبرى سنا تميل إلى التدين المرتفع، ومع رحيلها التدريجي يتم تعويضها بأجيال شابة أقل ارتباطا بالدين.
وإلى جانب هذا العامل، يبيّن التقرير أن جميع الأجيال، من الأصغر إلى الأكبر، صارت أقل تدينا مع تقدمها في العمر، وهو ما عمّق الاتجاه العام نحو التراجع على مدى العقود الماضية قبل أن يتوقف مؤقتا خلال السنوات الأخيرة.
وفي ما يتعلق بالشباب، يفنّد التقرير الروايات الإعلامية التي تحدثت عن نهضة دينية بين الشباب، خاصة في صفوف الذكور، إذ تُظهر المعطيات أنه لا توجد أي دلائل وطنية موثوقة على حصول انتعاش ديني واسع بين الشباب في الولايات المتحدة، فالشباب يظلون أقل تدينا بكثير من كبار السن، كما أنهم اليوم أقل تدينا مما كانوا عليه قبل عشر سنوات.
وتظهر البيانات أن 55 في المئة فقط من الشباب الذين ولدوا بين 1995 و2002 يعرّفون أنفسهم اليوم على أنهم منتمون إلى دين ما، وهي نسبة شبه مطابقة لما كان عليه الوضع سنة 2020، ما يعني أن هذا الجيل لم يعرف لا صعودا ولا تراجعا واضحا في التدين خلال السنوات الأخيرة.
وتبرز الفجوة بوضوح عند مقارنة الممارسة الدينية بين الأجيال، إذ يصرّح 59 في المئة من كبار السن بأنهم يصلّون يوميا، مقابل 30 في المئة فقط من الشباب، كما أن 43 في المئة من كبار السن يحضرون الشعائر الدينية مرة واحدة على الأقل شهريا، مقابل 26 في المئة فقط لدى الشباب.
ورغم ذلك، يسجل التقرير مؤشرا دقيقا يتمثل في كون فئة الشباب الأصغر سنا، أي الذين ولدوا بعد سنة 2003، ليست أقل تدينا من نظرائهم الأكبر سنا المولودين بين 1995 و2002، بل إن بعض المؤشرات توحي بأنهم أكثر مواظبة على الحضور الشهري للشعائر الدينية، غير أن التجارب السابقة تظهر أن هذا التقارب غالبا ما يتبدد مع تقدم هؤلاء في العمر وخروجهم من محيط الأسرة.
وعند المقارنة التاريخية، تكشف دراسات المشهد الديني لسنة 2007 و2014 و2023-2024 أن شباب اليوم أقل تدينا بكثير من شباب الأمس، إذ كان 74 في المئة من الفئة العمرية بين 18 و24 سنة يعرّفون أنفسهم كمنتمين إلى دين سنة 2007، وانخفضت النسبة إلى 63 في المئة سنة 2014، ثم إلى 56 في المئة فقط في 2023-2024، وهو ما يؤكد أن الاستقرار الحالي لا يعني العودة إلى مستويات التدين السابقة.
ويبرز التقرير تحولا لافتا في الفجوة الجندرية داخل الفئات الشابة، حيث تُظهر البيانات أن مستوى التدين أصبح شبه متساو بين الشابات والشبان، بعد أن كانت النساء تاريخيا أكثر تدينا من الرجال، إلا أن هذا التقارب لا يعود إلى ارتفاع تدين الرجال، بل إلى تراجع حاد في تدين النساء خلال العقود الأخيرة، وهو ما أدى إلى انكماش الفجوة بين الطرفين دون أن يعكس أي صعود ديني ذكوري كما تذهب بعض القراءات الإعلامية.
وفي ما يخص التحولات الطائفية، يفيد التقرير أن المسيحية لا تزال تخسر عددا من أتباعها يفوق بكثير من ينضمون إليها عبر التحول الديني، ففي صفوف الشباب بين 18 و24 سنة، تشكل نسبة من غادروا المسيحية نحو اللادينية أو ديانات أخرى 26 في المئة، مقابل 5 في المئة فقط انضموا إلى المسيحية بعد أن لم يكونوا ينتمون إليها.
وتظهر الأرقام أيضا أن التحول نحو الأرثوذكسية والكاثوليكية يظل محدودا جدا ولا يعوض النزيف العام، إذ إن 12 في المئة من الشباب غادروا الكاثوليكية مقابل 1 في المئة فقط انضموا إليها، بينما تسجّل الأرثوذكسية نسب دخول وخروج متساوية تقريبا، دون تحقيق مكاسب صافية.
وتواصل فئة غير المنتمين دينيا توسعها الصافي، حيث يُظهر التقرير أن ربع الشباب تقريبا انتقلوا إلى فئة “اللادينيين” بعد أن نشؤوا في بيئات دينية، في حين أن نسبة ضئيلة فقط غادرت اللادينية نحو الانتماء الديني، وهو ما يجعل ميزان التحول الديني يميل بوضوح لصالح اللادينية في صفوف الأجيال الشابة.
وعند مقارنة هذه النتائج مع مسوح أميركية كبرى أخرى مثل المسح الاجتماعي العام واستطلاع استخدام الوقت الأميركي، يؤكد التقرير أن الاتجاه العام نفسه يتكرر، أي استقرار نسبي في المؤشرات مع استمرار الفجوة الجيلية العميقة بين الشباب وكبار السن، كما أن بيانات الحضور الفعلي للشعائر من خلال استعمال الوقت اليومي لا تظهر أي ارتفاع ملموس في حضور الشباب للأماكن الدينية خلال السنوات الأخيرة.
ويخلص التقرير إلى أن الولايات المتحدة لا تشهد في الوقت الراهن نهضة دينية شاملة بين الشباب، بل تعيش مرحلة من الجمود بعد تراجع طويل الأمد، وأن ما يُرصد من مظاهر تقارب مؤقت لدى بعض الفئات العمرية لا يكفي للحديث عن تحول بنيوي في المسار الديني العام، فالعامل الجيلي يظل المحدد الأكبر لمستقبل الدين في أميركا، ومع استمرار تدفق أجيال أقل ارتباطا بالمؤسسة الدينية، تبقى فرضيات العودة الدينية الواسعة غير مدعومة بالمعطيات الإحصائية الدقيقة.
التعليقات