12 يونيو 2025 / 09:42

دراسات قرآنية معاصرة: أسباب النزول بين الحذر واليقظة

محمد أومليل

من ضمن أهم موضوعات علوم القرآن؛ “أسباب النزول”، كونه مساعدا على فهم بعض الآيات من خلال ظروفها وملابساتها وأسباب نزولها واعتبار الحكم المترتب عليها هل هو خاص غير ملزم لجميع المسلمين أم عام ملزم. إلى غير ذلك من فوائد موضوع “أسباب النزول”.
أعلم الناس به هم الصحابة الذي تتلمذوا بين يدي المصطفى، صلى الله عليه وسلم، طيلة زمن البعثة بمكة والمدينة شاهدوا القرآن وعاصروا نزوله لحظة بلحظة وعايشوا الأحداث والنوازل والوقائع والظروف والملابسات المرتبطة بما كان ينزل من القرآن وبما كان يربط السماء بالأرض والوحي بالواقع.
على رأس هؤلاء الإمام علي “باب العلم”، كان مدونا للوحي شارحا له في قرطاسه (حسب مصادر الشيعة هو من كلفه الرسول بجمع القرآن وترتيبه وتدوينه في مصحف واحد جامع)، وعبد الله بن مسعود القائل عن نفسه:
“والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيما نزلت وأين نزلت”. رواه مسلم.
وعبد الله بن عباس صاحب رسول الله وعاصر الوحي منذ نعومة أظافره كان أصغر الصحابة سنا وكان لصيقا بالقرآن حتى لقب ب “ترجمان القرآن” شهد له بذلك عبد الله بن مسعود. رواه الحاكم في المستدرك.
وكذلك الأكابر من التابعين أهل الاختصاص في التفسير، مثل مجاهد وسعيد بن جبير وابن سيرين، وغيرهم وهم كثر.
علم “أسباب النزول” تم التأليف فيه في عهد مبكر من تاريخ المسلمين حيث:
” أفرده بالتصنيف جماعة أقدمهم علي بن المديني (المتوفى سنة 234 هجرية) شيخ البخاري، ومن أشهرها كتب الواحدي (النيسابوري المتوفي سنة 468 هجرية) على ما فيه من إعواز (يقصد نقصان)، وقد اختصره الجعبري فحذف أسانيده (يقصد كتاب الواحدي أسباب النزول؛ فعلا هو مليء بالأسانيد)، ولم يزد عليه شيئا، وألف فيه شيخ الإسلام أبو الفضل ابن حجر كتابا مات عنه مسودة فلم نقف عليه كاملا”(1).
موضوع “أسباب النزول” ينبغي التعامل معه بيقظة وحذر علميين شديدين كونه لا تخلو مروياته من دخن وخلط وأمور واهية لا أساس لها من الصحة عند السنة والشيعة على السواء.
بالإضافة إلى أن القرآن ليس كله رهينا بأسباب النزول، وحتى هذا الأخير ليس أحكامه كلها ملزمة، بل منه الخاص والعام؛ وعلى هذا الأساس ينبغي معرفة دقية للقاعدة الشهيرة:
” العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”؛ فهي مقيدة ولا تؤخذ بإطلاقها. ذلك مما ينبغي معرفته بالإضافة إلى أمور أخرى مثل:
” معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم (الرهين بالحادثة التي نزل في حقها قرآن). ومنها: تخصيص الحكم به عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب. ومنها: أن اللفظ قد يكون عاما، ويقوم الدليل على تخصصه، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عدا صورته، فإن دخول صورة السبب قطعي وإخراجها بالاجتهاد ممنوع.. ولا التفات إلى من شذ فجوز ذلك. ومنها الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال.. لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها”(2).
التعامل مع حيثيات “أسباب النزول” ليس بالأمر الهين، بل يحتاج إلى درجة عالية من اليقظة والفطنة والتدقيق والتبين واجتناب الهوى المضل والتحيز المخزي وإرضاء الطائفة والسلطان. يوصي الواحدي (النيسابوري) بما يلي:
“أما اليوم فكل أحد يخترع شيئا ويختلق إفكا وكذبا ملقيا زمانه إلى الجهالة غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية (حين يتم التعامل معها بغير علم)، وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع (أسباب النزول) للأسباب لينتهي إليه طالبو هذا الشأن والمتكلمون في نزول القرآن، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب ويجدوا في تحفظه بعد السماع والطلب، ولا بد من القول أولا في مبادئ الوحي وكيفية نزول القرآن ابتداء على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتعهد جبريل إياه بالتنزيل والكشف عن تلك الأحوال والقول فيها على طريق الإجمال، ثم تفرع القول مفصلا في سبب نزول كل آية روي لها سبب مقول مروي منقول والله تعالى الموفق للصواب والسدد”(3).
القرآن الكريم يتضمن آيات رهينة بأسباب النزول قد تكون خاصة بذلك المكان والزمن (خصوصية)، وآيات كونية لائقة لكل زمان ومكان؛ وهي أكثر عددا من الآيات التي لها خصوصياتها وأحكامها غير ملزمة للجميع، وإن كانت لا تخلو من فوائد وعبر كما هو حال القصص الواردة في القرآن.
كتاب الله المسطور جامع بين الخصوصية والكونية آخذ بعين الاعتبار الكون المنظور، واللبيب من يجمع بين قراءة كتاب الله المسطور وكتاب الله المنظور ممتثلا أول ما أنزل من القرآن:
“بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم”.
من خلال تلك القراءتين يتم التمييز بين ما هو خصوصي وجب احترامه، سواء تعلق بنا أو بغيرنا، وبين ما هو كوني مشترك بين جميع الناس وجب الحفاظ عليه والتعامل بيننا على أساسه من قيمه الأخلاقية النبيلة والقوانين الناظمة للعلاقات الإنسانية.
كان القرآن جامع للخصوصي والكوني، والمثالي والوقعي، والسماوي والأرضي؛ كل تلك الخيوط مفتولة في حبل الوحي الرباني!
المراجع:
-2،1، السيوطي، الإتقان في علوم القرآن، ص 91 وما بعدها.
-3، الواحدي النيسابوري، أسباب النزول، ص 4.